عن فيصل حوراني: عن خسارة فلسطين
التاريخ: 
24/05/2022
المؤلف: 

حين وقف المعزون على ضريح فيصل حوراني، قال محمد بركة جملة يمكن اعتبارها تلخيصاً لخسارتنا في المشهد الفلسطيني كله: "فيصل راح من كيس الكل".

لم يكن فيصل حوراني مجرد روائي أو باحث أو مفكر أو سياسي، وإنما كان عبارة عن خلطة عجيبة من كل ذلك، مع توافقية مذهلة بين ما يكتب وما يمارس في حياته، مع قدرة هائلة على الإقناع بما يحمله من وجهات نظر في الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية، من دون أن يضطر إلى اللجوء إلى الانفعالات لتثبيت موقفه، إذ كان يملك من موسوعية الثقافة ما يكفيه لأن يقف في وجه أي إشكالية يقتنع بعكس الموقف العام منها.

عانى فيصل طويلاً من أمراض كثيرة؛ فقد عينه طفلاً، وأصيب بثلاثة وثلاثين تصلباً في فقرات ظهره، وفقد السمع في إحدى أذنيه بعد قصف مركز الأبحاث، مع مشكلة في التنفس ناتجة عن تصلب الظهر، ومع ذلك كان أكثرنا نشاطاً، وأكثرنا رغبة في الحياة، وأكثرنا حباً لها. وشخصياً، وعلى الرغم من أنني أصغره بستة وعشرين عاماً، فإنني كنت أجاهد للحاق به حين كنا نسير سوياً في شوارع غزة، أو رام الله.

 

 

آخر ما أصيب به فيصل كان كسراً في العمود الفقري، أجريت له بعدها جراحة دقيقة، وبدأ يتماثل للشفاء، لكنه غادر العالم وهو ما زال مقتنعاً بأن الوعي هو العامل الأهم في طريقنا إلى الحرية.

لم يكن شخصاً عادياً، بل كان استثنائياً في كل شيء؛ في فكره السياسي والاجتماعي، وفي سلوكه اليومي، وفي عصبيته ومزاجيته، وفي ظرفه وطرَفه التي كان يرويها، وفي ذاكرته التفصيلية التي تجعل لحكاياته طعماً مختلفاً في كل مرة يرويها فيها، ولو كنت تسمع منه الحكاية للمرة الخامسة، فأنت تسمعها بشكل جديد، وبانفعال جديد، كأنها حدثت منذ دقائق.

تعرفت عليه عام 1997، كان ذلك في غزة، وأصبحنا أصدقاء بعد ساعات قليلة، على الرغم من فارق العمر، وكان مديري في العمل يقول لي: حين يأتي فيصل إلى غزة فأنت في إجازة إلى أن يغادر، وذلك بسبب معرفته أنني أرافق فيصل دائماً ويومياً.

كنا نبدأ مشوارنا اليومي بفنجان قهوة في مكتب الشاعر أحمد دحبور في وزارة الثقافة، ثم ننفذ بقية البرنامج اليومي، فنذهب إلى وزارة الإعلام ونلتقي بطلال عوكل وهاني حبيب وأكرم عطا الله، ونعقد جلسات "نميمة" كما كان يطلق عليها فيصل، يتلوها جلسة منفردة مع حسن الكاشف، وهكذا في كل مكان نذهب إليه.

كنا نطلق النوادر على نزقه وموقفه من بعض الأشخاص، لكنه كان يعبر عن موقفه أمام مَنْ يتخذ الموقف في اتجاههم، حتى إنه لو أطلق نكتة على شخص بعينه، فإن هذا الشخص هو أول من يسمع النكتة، ويخبره فيصل بوضوح أنه سوف يطلق هذه النكتة عنه، وغالباً ما كان الشخص المعني يبتسم.

كان يعبّر عن موقفه بوضوح، وبصوت ثابت، بقسوة أحياناً، لكنه كان يملك الحق في ذلك على الأقل في المرات التي كنت موجوداً فيها معه. بمعنى آخر، لم أشهده يوماً يتجنى على أحد.

ذكرياته كثيرة وتفصيلية بطريقة مذهلة، لا يمكن الإحاطة بها في مقال، ولا يمكن تذكرها كلها مرة واحدة، فقد كان بذاكرة "فتاكة" وتفصيلية مرعبة، حتى إنه كان يُذهل أشخاصاً كانوا معه في الحكاية، لكنهم لا يتذكرون سوى خطوطها العامة.

ربما يكون كتابه "دروب المنفى" بأجزائه الخمسة، أهم كتاب في سيرة الفلسطينيين، وهو يغطي الفترة منذ نهاية الثلاثينيات حتى ثمانينيات القرن العشرين، وهو ـ من وجهة نظري ـ أهم كتاب سيرة على الإطلاق صدر حتى الآن، فمن لم يعش النكبة على أرض الواقع، فسيعرف تفاصيلها المرعبة، لحظة بلحظة من كتب فيصل الخمسة، لا لنقله الأحداث بطريقة المؤرخين فحسب، بل أيضاً لنقل مشاعر وأحاسيس ومواقف صغيرة وعلاقات مع أمكنة وبيوت وأشخاص وحتى حيوانات، ويكفي قراءة الفقرة الخاصة بمعزاة جدته التي أوكلت إليه مهمة سحبها أثناء الهجرة، وكيف حدد هروب المعزاة من يده طريقه نحو قرية الفالوجة، في حين أن بقية العائلة التي اتجهت نحو الغرب قُتلت في غارات ومجازر، نجا منها فيصل فقط بمصادفة جعلت المعزاة تهرب خوفاً من القصف في اتجاه غير اتجاههم.

فيصل فلسطيني من شعر رأسه إلى أخمص قدميه، فقد كان يمكن أن يتخلى في لحظة عن دعوة إلى أكلة سمك فخمة في مطعم فخم إذا عرف أن هناك طبخة "بسارة"، أو "مسخن فلسطيني"، وشخصياً عندما دعاني إلى الغداء في منزله في فيينا في النمسا، طبخ لي بيديه "مقلوبة"، وقد كان بالمناسبة طباخاً ماهراً، ويجيد اختيار مكونات أكلاته.

بالإضافة إلى كل ذلك، كان على تماس دائم، شبه يومي مع المشهد الفلسطيني، فكثيراً ما كان يتصل بي أو بغيري ليسأل عن تفصيل في الأحداث لم تغطه الأخبار كما يجب، ويسأل بدقة وتفصيل يصل إلى حد "الفيلمية".

فيصل حوراني واحد من مؤسسي التفكير السياسي الفلسطيني، ولا يوجد سجين لم يقرأ كتابيه اللذين كانت تتداولهما الأيدي في سجون دولة الاحتلال، "الفكر السياسي الفلسطيني 1964-1974"، و"جذور الرفض الفلسطيني 1918- 1948"، ومعظم مَنْ يعرفونه، عرفوه عبر هذين الكتابين.

ولد حوراني عام 1939 في قرية المسمية القريبة من غزة، وأتم دراسته الثانوية في دمشق بعد أن قضى فترة قصيرة في غزة بعد النكبة فقد خلالها عينه. كما درس الفلسفة والاجتماع وعلم النفس في جامعة دمشق عام 1964، لكنه لم يكمل ليحصل على الشهادة. وعمل في الصحافة حتى سنة 1971، حين تفرغ للعمل في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، ومنذ عام 1979 عمل باحثاً في مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت. نشر أعماله في الصحف والمجلات العربية، وحضر مؤتمرات أدبية وثقافية وسياسية في عدة بلدان، وكان عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، وأحد مؤسسي اتحاد الكتاب الفلسطينيين، ومدير تحرير مجلة "شؤون فلسطينية" الصادرة عن مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية لفترة من الوقت.

ترك فيصل إرثاً هائلاً من الكتب الفكرية والروايات والسيرة، ففي الرواية أصدر: "المحاصرون"، و"بير الشوم"، و"سمك اللجة"، و"حياة حصار"، و"الصخرة وما تبقى"، أمّا في الدراسات، فله: "الفكر السياسي الفلسطيني 1964-1974"، و"العمل العربي المشترك وإسرائيل، الرفض والقبول"، و"جذور الرفض الفلسطيني 1918- 1948"، و"معالجة الحزب الشيوعي السوري لمسائل فلسطينية"، و"تطور فكر م.ت.ف ومواقفها السياسية"، و"العلاقات الفلسطينية الأردنية في عهد الشقيري"، و"قراءة نقدية لتاريخ المقاومة الفلسطينية"، و"تجربتي في تدوين الشهادات"، وله أيضاً في الشهادات: "دروب المنفى" وهو كتاب من خمسة أجزاء عالج فيه التجربة السياسية الفلسطينية بين أعوام 1939 و1980، من خلال السيرة الذاتية والجمعية، و"الحنين ـ حكاية عودة"، وله أيضاً "تقاسيم زمار الحي"، و"بلا رتوش"، و"أوراق فلسطينية"، و"انتفاضة المطوقين"، و"وجوه في الأزمات"، و"عرفات والشيوعيون، علاقة ثابتة وحميمة"، و"وثيقة الاستقلال"، و"عرفات في ذكرى رحيله، له ما لنا وعليه ما علينا"، وله فصل في كتاب مشترك: "ذكريات مع الشهيد هايل عبد الحميد"، إضافة إلى الكتابين الأخيرين اللذين أطلقهما في رام الله، وهما: "باولا وأنا"، وهو كتاب يحكي تجربته مع زوجته الراحلة باولا أبرامز، ورواية بعنوان: "فاطمة، حياتها وموتها".

رحيل فيصل حوراني يعني رحيل أحد أعمدة الفكر السياسي والنضالي والإبداعي الفلسطيني، فلا يمكن الجزم بوجود شخصية بالغنى الذي تمتعت به شخصية فيصل، على الأقل في المدى المنظور، لا بسبب أهمية فيصل الفكرية والإبداعية فحسب، بل أيضاً لأن الفترة التي غطاها فيصل حوراني في إبداعه وتأريخه ونقده قد مضت زمنياً، ومن يريد أن يتعامل معها سيعود حتماً إلى كتابات من عايشوها، وبهذا فلن يتسنى لهم أن يعيشوها ليرووها كما رواها فيصل حوراني.

عن المؤلف: 

خالد جمعة: شاعر وكاتب من رام الله.