نصف قرن مع المسرح وبصحبته: عن حياة الفنان الراحل طارق جابر قبطي
التاريخ: 
16/05/2022
المؤلف: 

"طارق قبطي ممثل من الطراز الأول، عندما كنت أعطيه توجيهاتي الإخراجية قبيل تصوير مشهد ما، كان يستمع بصمت من دون أن ينبس بكلمة، ويكتفي بالرد عليّ بابتسامة تشع إنسانية، ثم يقوم بأداء المشهد بشكل مبهر يفوق كل توقعاتي. لن أنسى هذه الابتسامة كامل حياتي".

إيليا سليمان 

"قبل عشرة أعوام، كنت مراهقاً صغيراً يحاول أن يخطو خطواته الأولى في الإخراج المسرحي، حصلت على رقم طارق، وبعد أقل من دقيقة على الهاتف وافق على العمل معنا.

هناك عرفنا طارق قبطي أول مرة، الممثل، الحالم، الأب، الجد، الطفل، المشاكس. 

أنا أشعر بالندم لأننا سمحنا لعشرة أعوام بأن تمرّ من دون أن نحظى بالعديد من التجارب الأُخرى.

وداعاً شيخ الممثلين الفلسطينيين.

وداعاً طارق قبطي". 

بشار مرقص

 "خساره لنا جميعاً، الإنسان والفنان الجميل طارق قبطي

لروحك الرحمة والسلام".

عرين عمري 

"طارق يا أعز الناس، أشتاق إليك، وأشتاق إلى عينيك وابتسامتك وطيبة قلبك، إلى صوتك وشكلك وفكرك وموهبتك، أشتاق إلى كل تفاصيلك. عملنا سوياً في المسرح والسينما، وكان لا يزال أمامنا كثير من الأشياء لإنجازها سوياً، لكنك رحلت وتركتنا وحدنا. سلامي لك، ونلتقي في مكان آخر".

محمد بكري 

"وداعاً طارق قبطي

ستبقى ذكراك الطيبة وأعمالك في قلوبنا". 

حنا عطا الله  

"لقد رحل والدنا بهدوء كما عاش، مبدئياً، متواضعاً، ليس مادياً، ولا راكضاً وراء الشهرة، قدم لوطنه وبلاده الكثير من الفن الجميل والحب والبسمة، وترك لنا إرثاً من القيم والمبادئ التي سنحافظ عليها."

هكذا رثت عائلة الفنان طارق جابر قبطي فقيدها في بيان النعي الذي صدر عقب وفاته يوم الأربعاء 23 شباط/فبراير عن عمر ناهز 78 عاماً، وهكذا تحدث عنه زملاؤه في المهنة، ربما بأسطر قصيرة وكلمات قليلة استطاعت أن تتكلم عن طارق جابر قبطي، ليس فقط الفنان والمسرحي، وإنما الإنسان صاحب القيم والمبادىء، وصاحب البسمة التي ذكرها كل الذين تحدثنا معهم من زملاء المهنة، جملة واحدة تكررت "لن ننسى ابتسامتك".

 

صورة لعائلة طارق قبطي

 

تواصلنا في مدونة فلسطين الميدان مع ابنته عبير التي تحضّر حالياً رسالة الدكتوراه في برلين، وتعيش هناك مع زوجها وطفلها، للحصول على تفاصيل عن حياته، فقدمت لنا معلومات قيمة تسلط الضوء على جوانب من حياته وطفولته. لقبطي ثلاثة أولاد، عبير وإيناس وإياس وزوجته ناديا بواردي. ونتحدث هنا عن محطات مفصلية من حياة الفنان طارق جابر قبطي بدءاً من طفولته وحتى أيامه الأخيرة.

الطفولة والعائلة 

يُعتبر طارق الطفل الأصغر والمدلل بين أخوته وأخواته الستة، وُلد في مدينة الناصرة بتاريخ 20 آب/أغسطس 1944، عاش طوال حياته في مسقط رأسه الناصرة، وتحديداً في حي الأقباط الذي يقع في مركز المدينة، بالقرب من البلدة القديمة. والده جابر قبطي ووالدته هندية مقلشي، وكلاهما من الناصرة.

كان عمره 4 أعوام فقط عندما وقعت أحداث النكبة وهُجِّر الفلسطينيون من بيوتهم، رفض والده الخروج من الناصرة وأخبر العائلة بالتالي: "سنعيش ونموت في بيتنا ولن نتزحزح منه".

 

كلية دار المعلمين

 

تلقى قبطي علومه الابتدائية والثانوية في المدرسة المعمدانية في الناصرة وتخرّج منها، ثم انتقل سنة 1964 للدراسة في كلية دار المعلمين في يافا، وهناك عاش طوال فترة الدراسة، وكان والده يعمل أيضاً في تلك الفترة في يافا ويساعده في ذلك " فرج" الأخ الأكبر لطارق، فكان طارق ووالده يبيتان معاً.

التعليم والمسرح

تخرّج قبطي من الكلية سنة 1966، وعاد بعدها إلى مدينة الناصرة ليعمل في مجال التعليم منذ الستينيات وحتى الثمانينيات من القرن العشرين، تزامن أيضاً اهتمامه بالمسرح مع عمله في التعليم، إذ كانت بداياته المسرحية في منتصف الستينيات، عقب تخرّجه. وتعامل قبطي مع التعليم على أنه نوع من أنواع الفنون، وكسر بالتالي النمط الأكاديمي الذي يفضل فصل المواد عن بعضها البعض وإطلاق تسميات منفصلة، ليقدم لنا نموذجاً من التعليم الشمولي الذي يربط الطلاب بمجتمعهم وقضاياهم. قدم لنا قبطي، من دون أن نعرف، أهم مسرح في العالم: غرفة الصف، في الصف اختلط الجمهور بالممثلين، وبدأت أولى الثورات الصغيرة تنبثق من هناك، وهذا يعكس كل فكرة المسرح التي عبّر عنها إدوارد بوند في كتابه الحبكة الانسانية "لا يمكننا أن نكون بشراً من دون دراما".

بدأ قبطي بالتدريس عقب تخرّجه مباشرة وعمل في المدرسة الإبتدائية في قرية بئر المكسور بالقرب من الناصرة، وانتقل بعدها إلى تعليم اللغة العبرية والجغرافيا في المدرسة الإعدادية "أ" أيضاً في الناصرة، والتي علّم فيها حتى تقاعُده المبكر سنة 1988.

رقابة ومضايقات إسرائيلية

تعرضت صفوف قبطي وحصصه للرقابة والمضايقات المستمرة، وخصوصاً في فترة السبعينيات التي كانت فترة زخم سياسي في الناصرة، وبصورة خاصة بعد انتخاب توفيق زياد وجبهة الناصرة لقيادة بلدية الناصرة، حيث نشط قبطي في صفوف جبهة الناصرة الديمقراطية للسلام والمساوة، وشارك في معظم الأنشطة السياسية والوطنية في المدينة وخارجها، وقدم عدداً كبيراً من الأعمال الفنية لإحياء مناسبات وطنية، من قراءات، وعرافة اجتماعات، وبذلك ساهم في صقل الوعي الجمعي الوطني. اشتد في تلك الفترة تدخُّل الاستخبارات الإسرائيلية والمفتشين في جهاز التعليم العربي، وفُرضت رقابة شديدة على المعلمين والمحتوى الوطني الذي يقدَّم للتلاميذ في المدارس العربية. تقول ابنته: أذكر رواية كان يرويها لنا الوالد كثيراً، يقول فيها أنه بدأ في الستينيات بتعلُّم العزف على آلة الكمان، وفي أحد الأيام وصله استدعاء من الحاكم العسكري للمنطقة، وعندما حضر، أخبره أنه دعاه ليُعلِمه بأنهم يعرفون أنه يتعلم العزف على آلة الكمان، وأنهم موافقون على ذلك. يومها، غضب طارق وقال له “لم أعد أرغب في التعلم”، وعندما عاد إلى البيت قام بتكسير آلة الكمان.

 

عرض مسرحية رجال في الشمس طارق قبطي في دور ابو الخيزران وفؤاد عوض في دور ابو قيس

 

ومع ذلك، لم ينفصل اهتمام قبطي بالمسرح والتعليم عن نشاطه السياسي، وعُرف عنه تشجيع طلابه على الاهتمام بالمسرح والأدب والفن والسياسة، فكان يقدم لهم كتباً وروايات ونصوصاً لكتّاب فلسطينيين وعالميين، مثل أعمال غسان كنفاني وبريخت، وغيرها؛ وكوّن فلسفة خاصة وجرأة في التعليم، يحترم عبرها عقول طلابه ويساندهم ويقدم لهم مواد معرفية وتربية وطنية، ويفتح المجال للحوار والنقاش، وعندما قدم مسرحية "رجال في الشمس"، المقتبسة عن رواية غسان كنفاني، وعُرضت في مسرح بيت الصداقة في الناصرة سنة 1976، وقدم فيها دور "أبو الخيزران"، كان طلابه أول جمهور دعاه إلى حضور المسرحية. لقد كان أستاذاً محبوباً وقريباً من طلابه، وعُرف عنه أنه كان يرافقهم في رحلات ومغامرات كمرشد كشفي.

نصف قرن مع المسرح وبصحبته

أمضى قبطي أكثر من نصف قرن مع المسرح وبصحبته كما يذكر على صفحته الشخصية، ولم ينفصل المسرح عن السياسة لديه منذ بداياته المسرحية في منتصف الستينيات، ويُعتبر من أوائل الذين واكبوا حركة المسرح الحديث في الناصرة الذي أُسِّس في منتصف الستينيات، وعايش كل التحديات التي واجهها المسرح الفلسطيني في الداخل المحتل. ساهم مع  زملاء آخرين في إنشاء مسارح محلية وإنتاج أعمال مسرحية محلية في الناصرة. ومن الأعمال المسرحية التي شارك فيها في منتصف الستينيات: مسرحية "الأب" و"خادم السيدين"، من إخراج الراحل أنطوان صالح سنة 1967، ومسرحية "الأيدي الناعمة" في سنة 1966، وغيرها.

وكان له محاولات لعروض كوميديا ارتجالية، بالإضافة إلى أعمال صامتة (بانتوميما) في فترة السبعينيات والثمانينيات، قدم أغلبيتها لدى عرافته للأمسيات الفنية في مخيمات العمل التطوعي في الناصرة.

من أهم المسرحيات التي شارك فيها: “رجال في الشمس” (1976) على مسرح بيت الصداقة، والتي منعت الرقابة الإسرائيلية عرضها، وسُمح لاحقاً بعرضها من جديد بعد إثارة القضية في الصحافة والكنيست[1]، ومسرحية ”الأعمى والأطرش” (1986) على خشبة مسرح الناصرة، وكلاهما لغسان كنفاني، ومن إخراج المخرج الراحل رياض مصاروة، إذ عمل الإثنان معاً في العديد من الأعمال الوطنية التي تتحدث عن النكبة والوطن، كان آخر عمل جمعهما “الموجة التاسعة”، وهو عمل مسرحي مشترك بين المسرح الثقافي البلدي في الناصرة ومركز الأبحاث والتدريب المسرحي في والونيا لييج (بلجيكا)، يروي قصة النكبة عبر تسع رقصات. ويقول قبطي "للأسف، توقف عرض المسرحية ولم تأخد حقها بسبب اندلاع حرب الخليج سنة 1990".

 

من عرض مسرحية رجال في الشمس

 

ومن الأعمال المسرحية التي شارك فيها أيضاً مسرحية "الملك هو الملك" (1979) مع المسرح البلدي، من تأليف سعد الله ونوس وإخراج فؤاد عوض، ومسرحية "الحضيض" لمكسيم غوركي (1980)، من إنتاج المسرح البلدي وإخراج رياض مصاروة.

غياب وإحباط التسعينيات

غاب قبطي عن المسرح خلال فترة التسعينيات لأسباب مختلفة، وكانت بمثابة فترة قاسية عليه مليئة بالإحباط، زاول خلالها عدة أعمال متفرقة، فعمل محرراً في صحيفة "الصنارة" عدة سنوات قبل أن يستقيل بسبب خلافات مع إدارة الصحيفة. عمل أيضاً مع عدد من مكاتب التسويق لفترات قصيرة في التحرير وكتابة المضامين، وترجم عدة أعمال مسرحية إلى اللغة العربية، مثل مسرحية "ملثمون"، و"أبو كمونة"، من إنتاج مسرح انسمبل فرينج الناصرة، ومسرحية "زهرة الأقحوان"، من إنتاج وإخراج مسرح الخيال. بالإضافة إلى ذلك، عمل قبطي في مطلع الألفية الثالثة مُركزاً لقاعة مسرح الميدان في الناصرة، ومدير العروض في قاعة المسرح الجديدة في حيفا.

بث الروح من جديد

في سنة 2002، بدأ قبطي بالعودة مجدداً إلى حياة المسرح، حيث عرض عليه الفنان والمخرج محمد بكري سنة 2002 دوراً في مسرحية “مشهد من الجسر”، من تأليف آرثر ميلر، وأنتجها مسرح الميدان سنة 2002، وهي من إخراج محمد بكري، وكانت هذه الدعوة بمثابة بث الحياة من جديد في روح قبطي وعودة إلى الفن والتمثيل، وشارك بعدها أيضاً في مسرحية "1945"، من إخراج بشار مرقص في مسرح الميدان – حيفا (2015)، ومسرحية "يا شمس لا تغيبي" (2010)، من إنتاج مسرح انسمبل فرينج الناصرة وكتابة أيمن اغبارية، ومن إخراج منير بكري، وغيرها العديد.

 

عرض مسرحية يا شمس لا تغيبي

 

عرض مسرحية يا شمس لا تغيبي

 

جارنا كلنا: محطات مفصلية

وكانت هذه العودة أيضاً بداية التألق في السينما، وعلامة فارقة في حياته المهنية بعد تأديته دور "الجار" في فيلم "الزمن الباقي" لإيليا سليمان، إذ جسّد الدور بقوة، فانهالت عليه العروض من مخرجين كثر للمشاركة في أعمال سينمائية ومسرحية. من الأعمال السينمائية التي شارك فيها أيضاً فيلم "عشر دقات الجرس" (2017) لإيلي رزق، وفيلم "المنسيون" (2011) للمخرج إيهاب طربيه، وغيرهما العديد.

البيت، العائلة، السياسة

يُعَد قبطي من الفنانين المنحازين إلى القيم والفن والإنسانية، "تنفّس المسرح"، على حد تعبير ابنته، ولم يتوانَ قط عن دعم المخرجين الفلسطينيين الشباب، والمشاركة في أعمال إنسانية وتطوعية، وكان يشارك في أفلام المخرجين الشباب الأولى من دون أي مقابل. لقد زرع في ابنتيه وابنه حب الوطن في عمر صغير جداً، فكانت الرحلات التي يصطحبهم فيها زيارات إلى القرى المهجّرة ومعالم تاريخية، وتعلّم أبناؤه قيم الكرامة والعدل والتمسك بالحقوق، عبر استماعهم إلى نقاشاته السياسية مع الأصدقاء والأقارب، واهتم بتعليمهم وتنمية مهاراتهم ودعمهم في مواصلة شغفهم. امتد البيت إلى العالم والمحيط، فكان يتحول إلى ساحة حرب في كل مرة تحدث فيها مواجهات بين الشبان والشرطة الإسرائيلية، عقب تظاهرات أو أحداث سياسية، مثل مجزرة صبرا وشاتيلا، والانتفاضة الأولى والثانية، وهبّة أكتوبر التي أصيب قبطي فيها برصاص مطاطي في يده أطلقته الشرطة الإسرائلية وحرس الحدود في أثناء وقوفه أمام مدخل البيت، إذ كان منزله مستهدفاً، ولم تتمكن عائلته من إسعافه لأن الشرطة الإسرائيلية أغلقت الطريق أمامهم، فقام الأقرباء بإنزاله من الشرفة الخلفية عبر سلّم طويل، وتم نقله إلى المستشفى من الشارع الخلفي في حي الأقباط.

السنوات الأخيرة

كانت مشاركته في مهرجان كان السينمائي سنة 2019 عن فيلم إيليا سليمان الأخير "إن شئت كما في السماء"  بمثابة تتويج وتكريم لمسيرته الفنية وعطائه اللامحدود، وعلى الرغم من الظروف الصحية التي كان يمرّ بها، فإنه شعر بالفخر والسعادة. وقام مسرح الحنين في الناصرة في كانون الثاني/ يناير الماضي، وقبل وفاته بشهر، بتكريم قبطي والتحدث عن مسيرته وشغفه بالمسرح والتمثيل، وألقى قبطي كلمة قصيرة بالمناسبة، فكان هذا الحفل بمثابة الوداع الأخير من محبيه من زملاء المسرح.

 

مشاركة قبطي في مهرجان كان السينمائي

 

ومن الأفلام الأخيرة التي شارك فيها قبطي بدور بطولة ولم يُعرَض بعد، فيلم “طعم التفاح الأحمر” للمخرج إيهاب طربيه، من الجولان السوري المحتل، والذي انتهى من تصويره قبل عام من وفاته، كان وقتها قد أنهكه جسده، لكنه وافق على التصوير واستعاد طاقته وحماسته وأدى الدور بكل إخلاص وتفانٍ.

تقول ابنته، رداً على أحد أسئلتنا: "أبي كان يتنفس الفن والسينما، كانا بمثابة الهواء الذي يبقيه في قيد الحياة".

وستبقى ذكرى الفنان قبطي ومسيرته في الوجدان والذاكرة، ليس فقط عبر الإرث الكبير الذي تركه لنا في الفن والمسرح والسينما، بل عبر القيم التي عرف عنها من محبة وإخلاص وتفانٍ وعطاء وحب للوطن وللعائلة.  توفي قبطي بتاريخ 23 شباط/ فبراير الماضي عن عمر ناهز 78، في إثر وعكة صحية ألمّت به، ودُفن في مسقط رأسه الذي لم يغادره أبداً، الناصرة.

 

[1]https://www.startimes.com/?t=10905462