طالب كثيرون من المهتمين بالشأن الفلسطيني بإجراء مراجعة نقدية للمسار السياسي الذي أوصل الحركة الوطنية إلى مأزق هو الأخطر في التاريخ المعاصر. ربما لا يختلف المهتمون في أن المراجعة المطلوبة هي المراجعة التي تتعرف على عناصر الضعف والأخطاء الكبيرة والصغيرة، وفي الوقت نفسه، تتعرف على عناصر القوة وتعمل على تعزيزها، في سياق محاولات فتح أفق سياسي بمقومات واقعية. الباحث د. ماهر الشريف استعرض، بجهده البحثي المثابر، كمّاً كبيراً من الأفكار المتداولة في المحطات والمنعطفات التاريخية، وقدمها في بناء فكري سياسي متسلسل في كتابه الجديد " المشروع الوطني الفلسطيني: تطوره ومأزقه ومصائره". البحث جاء في الوقت المناسب، وفي أجواء مثقلة بتخبُّط سياسي وفكري، وأعتقد أنه فتح الأابواب أمام كلّ مَن يهمه تجاوُز المأزق، بالدخول على خط التشخيص والنقد وتقديم الأفكار والمبادرات والأسئلة.
البحث يُكمل أبحاثاً سابقة في الفكر السياسي الفلسطيني وما انبثق منه من برامج ومشاريع واستراتيجيات فلسطينية كان الشريف أبحر في أعماقها، فضلاً عن مساهمات أُخرى، تلك الأبحاث التي عملت على تمحيص الفكر والتفكير السياسي الفلسطيني. تكمن أهمية كتاب "المشروع الوطني ..." في كونه يطرح سؤالاً إشكالياً مفاده، هل شهد الفكر السياسي الفلسطيني تطوراً أفضى إلى تعديلات متواصلة في المشروع الوطني، أم أن التعديلات في البرامج والمواقف كانت نتاجاً للسياسة البراغماتية التي اتبعتها قيادة عرفات؟ هذه القراءة للكتاب ستعرض أهم الأفكار، وستناقش بعض الاختلالات، في محاولة للإسهام في المراجعة والبحث عن مخرج، وهي وظيفة الكتاب الجوهرية.
إخفاق القيادة التقليدية
يُظهر البحث غلَبة التوجهات القومية قبل النكبة، ففلسطين جزء لا يتجزأ من سورية، واستقلالها لا ينفصل عن استقلال سورية الطبيعية. التوجه القومي لم يكن حصيلة فكر قومي تحرُّري، بل حصيلة التعامل البراغماتي مع الروابط القومية الطبيعية بين الشعوب العربية. رافق التوجه القومي عجز الحركة السياسية عن بلورة مشروع وطني واضح المعالم. الاختلال السياسي الأهم في تلك المرحلة، كما يشير البحث، كان رهان القيادة على تغيير المواقف البريطانية لمصلحة فلسطين، على الرغم من انحيازها السافر إلى المشروع الصهيوني، وفصل النضال ضد المشروع الصهيوني عن النضال ضد الاستعمار البريطاني. وتهرُّب القيادة من تحديد موقف من مستقبل الأقلية اليهودية. ولم تخرج القيادة النافذة من إسار العصبيات العائلية والمناطقية، كما أدارت الظهر للقضايا الاجتماعية، وارتكبت خطأً سياسياً تاريخياً، عبر الرهان على دول المحور النازي الفاشي. ويمكن القول إن مواقفها التهادنية من الاستعمار البريطاني اتسمت بالتوافق مع موقعها ومصالحها الطبقية (ممثلو الأشراف – بعضهم من كبار الملّاك- والبورجوازية التجارية في المدن). وقد تخلّف وعي هذه النخبة عن التحولات العالمية التي أفضت إلى تشكُّل معسكر عالمي يدعم تحرُّر الشعوب. وحينذاك، لم تتمكن الاتجاهات التقدمية الناشئة - عصبة التحرُّر الوطني والنخبة المثقفة المتنورة - من ترك بصماتها على قرار القيادة التقليدية، ولم تنجح في وقف خضوعها للدول العربية التابعة للإمبريالية، كذلك لم تنجح في ربط التحرُّر الوطني بالمسألة الديمقراطية الاجتماعية، ولا في التمييز بين اليهود والصهيونية، وفي تعريف حقوق الأقلية اليهودية. بقيت تلك المواقف المتقدمة نواة لفكر سياسي تقدمي على هامش الفكر والثقافة السائدين.
موقف الاتحاد السوفياتي الداعي إلى تصفية السلطة الاستعمارية البريطانية، من خلال التفاهم بين العرب واليهود، اصطدم بواقع استقطاب السواد الأعظم من اليهود في المشروع الصهيوني الذي لم ينفصل في كل مراحله عن الإمبريالية، ولا يمكن فصل انحراف وانحياز الشيوعيين اليهود إلى الفكرة الصهيونية عن الرهان السوفياتي على الانفكاك الإسرائيلي عن الإمبريالية، وعن أدوار الكيان الصهيوني بعد إنهاء مرحلة الانتداب البريطاني، وحتى سنة 1954، ساهم الرهان السوفياتي الخاطىء، إلى جانب الخلل الكبير في موازين القوى، وضعف بنية الحركة الوطنية، وتبعية الأنظمة العربية للإمبريالية، هذه العوامل كلها أدت إلى هزيمة فلسطين سنة 1948.
مشاريع ما بعد النكبة
بعد النكبة، وحتى منتصف الخمسينيات، طغى نفوذ التيار القومي (حزب البعث وحركة القوميين) على المشهد السياسي. القضية الفلسطينية تحولت إلى قضية عربية، والحل قومي والمعركة قومية، بحسب الفكر القومي، في الوقت الذي افتقد القوميون استراتيجية تحرير، واقتصر الأمر على خطابات الوحدة العربية. لم يطور القوميون الفكر القومي وظلت مواقف وخطابات عبد الناصر هي الركيزة الأهم.
كان ثمة حضور للحزب الشيوعي بتنويعاته في الأردن والضفة الغربية وقطاع غزة ومناطق الـ 48، وقد تميز الشيوعيون: بتبنّي قرار التقسيم وإقامة الدولة الفلسطينية وتثبيت حق اللاجئين ومقاومة التمييز؛ بعد النكبة، توحّد الشيوعيون الفلسطينيون مع الشيوعيين اليهود الإسرائيليين في "الحزب الشيوعي الإسرائيلي" الذي دعا إلى تطبيق قرار التقسيم وفك ارتباط إسرائيل بالقوى الاستعمارية. وشُكِّل الحزب الشيوعي الأردني، ودعا إلى توحيد نضال الشعبين لتحقيق إنهاء المعاهدة الاستعمارية وتطبيق قرار التقسيم وعودة اللاجئين. وفي غزة، شكّل الشيوعيون الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي دعا إلى قيام دولة فلسطينية وفقاً لقرار التقسيم، وإلى إسقاط مشروع التوطين.
إلى جانب القوميين والشيوعيين، ظهر تنظيم الإخوان المسلمين الذي ساوى بين الصهيونية واليهودية، واعتبر فلسطين أرض وقف إسلامي، وتحدث عن تحالف الصليبية واليهودية والكتلتين الشرقية والغربية. ودعا إلى القضاء على الدولة اليهودية.
المساعي الاستعمارية لتوطين اللاجئين بعد النكبة وإذابتهم في المحيط العربي عززت الاحتياج الفلسطيني إلى تنظيم يعبّر عنهم ويقود نضالهم؛ في هذا السياق، برزت ظاهرة التنظيمات المسلحة المستقلة عن الأنظمة التي كان أبرزها حركة "فتح" التي دعت إلى دور وطني فلسطيني مستقل. ترافقت مع هذا المسعى مبادرة مصر الناصرية لتنظيم الكيان الفلسطيني وترسيمه في الإطار العربي، كان ذلك بمشاركة الأردن الذي تمثل برموز عديدة في أول مجلس وطني، والذي انتزع نصاً في الميثاق القومي يقضي بعدم سلخ الضفة الغربية عن الأردن وضمّها إلى الكيان الفلسطيني. السباق بين إحياء كيان فلسطيني مستقل مدعوم بتنظيمات مسلحة وبين كيان فلسطيني تحت السيطرة العربية، حُسم في سنة 1964 لمصلحة النظام العربي، بتأسيس م.ت.ف. التي خضعت لوصاية وشروط عربية.
مشروع حركة تحرُّر
يسجّل الكتاب وجود تعدُّد سياسي يضم القوميين واليساريين والإسلاميين داخل المجتمع الفلسطيني، ويلاحِظ تقبُّل الفكر التقدمي، وانتشاراً ملحوظاً للحزب الشيوعي في الأردن والضفة الغربية وقطاع غزة، وفوز مرشحين شيوعيين في الانتخابات البرلمانية الأردنية، وتحوُّل الشيوعيين في مناطق الـ 48 إلى رافعة للصمود والنضال والهوية والثقافة الوطنية، وبهذا أصبح للفكر السياسي الفلسطيني منحى تقدمي. حركة "فتح"، بدورها، قدمت مشروعاً تحرُّرياً في النصف الأول من الستينيات، انطلق من فكرة تفجير ثوري وثورة شعبية مسلحة طويلة الأمد، تهدم الواقع الفاسد وتتولى عملية البناء الثوري، بالاعتماد على الشعب، ودعا إلى انتزاع زمام المبادرة والتحرُّر من الوصاية العربية وتسلُّم زمام القضية، وبناء قاعدة آمنة وكيان فلسطيني ثوري يتولى مهمة تحرير فلسطين. ورأى المشروع أن الوحدة تتحقق من خلال المعارك، لكن حركة "فتح" رفضت التنازع الفكري والصراع الطبقي، وقفزت عن المسألة الاجتماعية. مشروع "فتح" بلور الهوية الوطنية والدور المستقل للنضال الفلسطيني، متجاوزاً بذلك طمس الهوية الوطنية، مضيفاً إلى الفكر السياسي ملمَحاً ثورياً، لكنه بلا مضمون اجتماعي تحرُّري، وهو ما جعله مفتوحاً على تحولات سلبية.
تحولات ما بعد هزيمة الـ 67
بعد هزيمة الـ 67، سقط الرهان الفلسطيني على الجيوش، وتحرّر العمل الفلسطيني من الوصاية، وترسّخ منطق الثورة التي اتسع نطاقها وانخرطت فيها فصائل عديدة. انتقلت قيادة المنظمة في الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني سنة 1968 إلى الثورة بقيادة "فتح". وأدخلت تعديلات على بنود الميثاق القومي لسنة 1964. الشعب الفلسطيني صاحب الحق الأول في تحرير وطنه. والحفاظ على الشخصية الوطنية الفلسطينية كبديل من الطمس والإذابة تحت مسميات قومية وبديلة. رفض الخط السياسي الجديد كل أنواع الوصاية بصورة واضحة لا لبس فيها. وحذف بند عدم ممارسة أي سيادة على الضفة والقطاع والحمة من الميثاق الوطني الجديد. الثورة المسلحة هي عنصر التحول الكبير، إذ اعتمد الكفاح المسلح أسلوباً وحيداً للنضال بأفق التحول إلى حرب تحرير شعبية طويلة الأمد. في البدء، حاولت فصائل الثورة إقامة قاعدة ارتكاز ثورية في المناطق المحتلة سنة 67، وخلق حالة جماهيرية داعمة لها، لكنها أخفقت بفعل الارتجال وغياب استراتيجيا مقاومة مسلحة تأخذ بالاعتبار خصائص الاحتلال الكولونيالي والأرض والأنظمة العربية المحيطة بفلسطين. فاستعاضت الثورة عن قاعدة الارتكاز في الضفة بقاعدة آمنة نسبياً في أغوار الأردن، ولاحقاً في لبنان، وكذلك في سورية بموافقة النظام . لكن سياسة الأرض المحروقة التي اعتمدتها إسرائيل فاقمت التناقض بين الثورة والأنظمة، وتحديداً مع الأردن الذي كان مركزاً للثورة. حاولت حركة "فتح" حلّ التناقض بالدعوة إلى تشكيل جبهة عربية مشاركة بالثورة، بهدف تحويل الجماهير العربية إلى قاعدة لحماية الثورة، وتحويل الأراضي العربية إلى مراكز انطلاق للعمل الفدائي. في مقابل ذلك، دعت الجبهة الشعبية إلى تحويل عمّان إلى هانوي عربية. ورفعت الجبهة الديمقراطية شعار "لا سلطة فوق سلطة المقاومة". الدورة الطارئة للمجلس الوطني، بدورها، دعت إلى تحويل الأردن إلى معقل للثورة. غير أن هذا التناقض حُسم لمصلحة الأردن الذي أنهى بالقوة العسكرية الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن في سنتيْ 1970 و1971.
سياسياً، رفضت الثورة أنصاف الحلول، وعارضت إقامة دولة فلسطينية، ورفضت مبادرة الرئيس بورقيبة في سنة 1965، التي دعت إلى التخلي عن سياسة كل شيء أو لا شيء، والعودة إلى قرارات الأمم المتحدة، ورفضت مبادرة الوزير الأميركي وليم روجرز في سنة 1970.
المسألة اليهودية
الميثاق القومي دعا اليهود إلى المغادرة، أو مواجهة خطر الإفناء، وانسجم هذا النص مع الفكر القومي السائد ما قبل الثورة، ومع موقف حركة "فتح" في بداية انطلاقتها، والقائل: يعود المستوطنون إلى بلادهم ويعود اللاجئون إلى وطنهم (نموذج الجزائر). لكن هذا الفكر تبدّل مع سيطرة فصائل الثورة على المنظمة، التي عدّلت الموقف في الميثاق الوطني ليصبح: دعوة اليهود من أصل فلسطيني إلى البقاء في فلسطين إذا رغبوا في العيش بسلام.. وأجازت حركة "فتح" لليهود، الذين كانوا يقيمون إقامة عادية بفلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني، البقاء فيها بعد تحريرها.. ثم جاء في كرّاس لحركة "فتح"، أن نضالها لا يستهدف اليهود كيهود، وإنما يستهدف النظام الفاشي الصهيوني. وفي فلسطين المحررة الديمقراطية المُحبة للسلم، تبدأ حقبة جديدة، يعيش فيها الفلسطينيون واليهود بانسجام، وجنباً إلى جنب. وتحدث بيان "فتح"، الموجّه إلى الأمم المتحدة في سنة 1968، عن دولة ديمقراطية مستقلة يتمتع في ظلها جميع المواطنين الشرعيين بحقوق متساوية، بغض النظر عن الدين واللغة. تطور الموقف من المسألة اليهودية تطوراً ملموساً ومهماً في الفصل بين اليهود والصهيونية، وفي ضرورة تحرير اليهود من الصهيونية والتعامل مع اليهودي كإنسان، وفي دعوة الدول العربية إلى استقبال مواطنيها اليهود الذين سُلخوا عن شعوبهم وبلادهم، وإعادة أملاكهم وحقوقهم المدنية. مواقف التنظيمات اليسارية دعمت التطور في التفكير السياسي الفلسطيني بدعوتها إلى حفظ الحقوق الثقافية والدينية للتجمعات غير العربية، كالتجمع اليهودي. ورأت أن حلّ المسألة اليهودية يأتي في سياق النضال من أجل الاشتراكية. وقبل الاشتراكية، يُصار إلى إقامة دولة عربية ديمقراطية تُحفظ فيها الحقوق الثقافية والدينية للتجمعات غير العربية، بحيث يتمتع العرب واليهود بالمساواة التامة في الحقوق والواجبات. وذهبت الجبهة الديمقراطية إلى أبعد من ذلك عندما تحدثت عن تكوّن شعب يهودي على الأرض الفلسطينية، يحق له التمتع بالمساواة التامة في الدولة الديمقراطية، وأن يطور ثقافته القومية، ودعت العرب إلى نزع النهج العنصري الرجعي تجاه اليهود، ونزع اليهود النهج العنصري والرجعي تجاه العرب، ولن يكون ذلك ممكناً إلاّ في ظل نظام اشتراكي. تميزت الجبهة الديمقراطية بالتوجه إلى مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي والحوار مع جميع التقدميين في إسرائيل، ودعوتهم إلى المشاركة في التحرُّر الفلسطيني من أجل تصفية الكيان الاستعماري، وأجرت حواراً مع المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية (ماتسبن) التي دعت إلى قيام دولة ثنائية القومية، واستعدت الجبهة لإجراء حوار مع الحزب الشيوعي. بدوره، المجلس الوطني تبنّى هدف الدولة الديمقراطية في دورته الثامنة في سنة 1971. وتضمنت قرارات المجلس الوطني، الدورة 13 لسنة 1977، قراراً يوضح أهمية العلاقة والتنسيق مع القوى اليهودية الديمقراطية والتقدمية التي تناضل ضد الصهيونية.
السؤال: هل عبّرت الأفكار المتداولة والنصوص البرامجية عن تطوُّر في الفكر والتفكير السياسي الفلسطيني في المسألة اليهودية؟ يجوز الإجابة بنعم، قياساً إلى موقف العداء لليهود كيهود، وإدماجهم جميعاً، داخل وخارج فلسطين، بالحركة الصهيونية وطردهم من فلسطين، أو إفنائهم. لكن هذا الفكر لم يتأصل ويتعمق ويتحول إلى ثقافة وطنية، بل بقي في إطار النخبة والتسويق البراغماتي والبحث عن صيغة تضمن التعايش مع التجمع السكاني اليهودي في فلسطين، تكون مقبولة دولياً. وبمرور الوقت، ذوى الحديث عن المسألة اليهودية، وأصبح الرأي العام ما بين التقاطع مع الرواية الصهيونية، وبين عودة المفهوم القديم – الصراع مع اليهود كيهود - إلى الصدارة مع صعود الإسلام السياسي. ويمكن القول إن الإطار التنظيمي المشترك لليهود والفلسطينيين (الحزب الشيوعي الإسرائيلي) لم ينجح في استقطاب اليهود إلّا بأعداد قليلة جداً، على الرغم من نجاحه الكبير في استقطاب الفلسطينيين، وعلى الرغم من نجاحه في قيادة نضالهم في كل المجالات. ثمة علاقة بين فشل تجربة النضال المشترك والفكر السياسي الذي يتصدى لحلّ المسألة اليهودية.
البرنامج المرحلي
على الصعيد الرسمي العربي، ثَبَّتَت هزيمة الـ 67، عملياً، نتائج حرب الـ 48، بسيطرة إسرائيل على 78% من أراضي فلسطين التاريخية. تلك النتائج التي كانت مرفوضة، عربياً وفلسطينياً، لكن هزيمة الـ 67 فرضتها. فقد جاء في القرار 242 المعبّر عن الهزيمة: "إنهاء جميع إدعاءات أو حالات الحرب، واحترام واعتراف بسيادة وحدة أراضي كل دولة في المنطقة، واستقلالها السياسي، وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة، ومعترف بها، وحرة من التهديد وأعمال القوة."[1] وهذا يعني اعترافاً عربياً رسمياً بحق إسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة ومعترَف بها، وهو ما جعل هدف طرد المستوطنين وإقامة الدولة الديمقراطية - نموذج الثورة الجزائرية - شائكاً. على الرغم من ذلك، فإن الثورة استمرت في برنامج الدولة الديمقراطية حتى سنة 1974.
بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، التي فتحت احتمال إبرام تسويات عربية إسرائيلية، بعد اتفاقات فك الاشتباك على الجبهتين المصرية والسورية، أرادت القيادة الفلسطينية أن تكون جزءاً من التسويات، فشددت على تمثيل المنظمة للشعب، وحظيت بالاعتراف عربياً ودولياً، ولا سيما الاعتراف السوفياتي. هنا حدثت نقلة في التفكير السياسي الفلسطيني، عنوانها إعطاء حيز كبير للعمل السياسي، متجاوزةً الكفاح المسلح كأسلوب وحيد، وقد أدى ضعف وتراجُع العمل المسلح والتحولات في النظام العربي دوراً في هذه النقلة. التراجع في العمل المسلح لم تسعفه العمليات الخارجية في الحفاظ على فعاليته (عمليات أيلول/سبتمبر الأسود، وعمليات الجبهة الشعبية تحت شعار مهاجمة العدو في كل مكان). العمليات عبّرت عن مأزق المقاومة المسلحة، وأحدثت تقاطعاً بين تهمة الإرهاب التي تطلقها إسرائيل على النضال الفلسطيني المشروع، وبين وسم العمليات التي تستهدف مدنيين بالإرهاب، وفقاً للقانون الدولي.
مهمة طرد الاحتلال من الضفة والقطاع وانتزاع حق تقرير المصير، طُرحت من جانب الجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي واتجاه من حركة "فتح". تأسس الموقف السياسي الجديد على احتمال التوصل إلى تسوية تستند إلى "الحقائق التي أفرزتها حرب أكتوبر"، واحتمال أن يكون هناك تسوية من خارج التمثيل الفلسطيني. وارتأت تلك القوى أن قطع الطريق على التصفية يكون عبر مشروع فلسطيني مرحلي يؤكد الحقوق الفلسطينية المشروعة. جاء ذلك على خلفية الاعتقاد أن حرب أكتوبر أفرزت توازناً عسكرياً نسبياً وتضامناً عربياً ودعماً دولياً، كان من مظاهره قطع الدول الاشتراكية ودول عدم الانحياز علاقاتها مع إسرائيل.
دورة المجلس الوطني الفلسطيني الـ 12 في سنة 1974 تبنّت برنامجاً مرحلياً يمكِّن المنظمة من تحمّل مسؤولياتها عن الأراضي الفلسطينية المحتلة ويؤهلها إلى المفاوضات. دُعِّم ذلك التوجه بدعوة م.ت.ف. ورئيسها إلى حضور اجتماع الجمعية العامة للمداولة السياسية، تحت بند القضية الفلسطينية والقرار 3237، الصادر عن ذلك الاجتماع، والذي نصّ على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال والسيادة والعودة، ومنح م. ت. ف. صفة مراقب في الأمم المتحدة. وعُزِّز القرار التاريخي بقرار الجمعية العامة في سنة 1975، الذي اعتبر الصهيونية حركة عنصرية.
جرى القطع مع الحضور السياسي الكبير للمنظمة، باتفاقية سيناء لفك الاشتباك بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية، والتي دشنت تفاوضاً ثنائياً بين مصر وإسرائيل بلغ أوجه بزيارة السادات إلى القدس وإلقائه خطاباً في الكنيست الإسرائيلي. ثبت أن حرب الـ 73 لم تُحدث توازناً عسكرياً، بدليل أن قرار مجلس الأمن الرقم 338 لإنهاء الحرب اقتصر على تطبيق قرار هزيمة الـ 67 الرقم 242. كان هدف النظام المصري من الحرب تحريك الجمود السياسي والبحث عن حلّ تفاوضي خاص بمصر. ذلك المسعى الذي قاد إلى اتفاقات كامب ديفيد التي أخرجت مصر من الصراع، وكان بمثابة نصر استراتيجي إسرائيلي لا يقلّ أهمية عن النصر الإسرائيلي في حرب الـ 67، ووضعت الاتفاقات سقفاً للتسوية، وموقع الفلسطينيين فيه هو السقف الذي حددته دولة الاحتلال الإسرائيلي بحكم ذاتي لا يؤدي إلى دولة فلسطينية وحلّ من خلال الأردن.
وكانت دورة المجلس الوطني الرقم 13 في سنة 1977 شددت على النضال السياسي والدبلوماسي والمشاركة بصورة مستقلة في مساعي التسوية والدولة المستقلة، من دون الإشارة إلى الدولة الديمقراطية على كامل فلسطين. الخارجية الأميركية حددت المشاركة الفلسطينية في مؤتمر جنيف عبر وفد أردني أو عربي مشترك، من خارج م.ت.ف. اعتقد البعض أن تراجُع الرئيس جيمي كارتر عن مشاركة المنظمة في المفاوضات جعل السادات يحسم أمره ويندفع نحو الصلح المنفرد. لكن السادات تخلى عن النظام السوري، شريكه في الحرب، وذهب إلى الحل المنفرد، وكان التنازل عن الشركاء جزءاً من الصفقة. هذا ما يؤكده د. مراد وهبة بعرضه ما جرى بين السادات وعزرا وايزمان في أثناء زيارة الأخير إلى مصر، يقول: تساءل وايزمان، مَن الذي سيحكم يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وغزة؟ فأجاب السادات: إذا دخل الأردن فى المفاوضات سيكون الأردنيون والإسرائيليون ممثلين للسكان المقيمين: أفهم من ذلك عدم وجود دولة فلسطينية، قال وايزمان: نعم، هذا صحيح، أجاب السادات، وأضاف: إذا قلت ذلك لبيغن فإنه سيعلن ذلك فى اليوم التالي من أعلى العمارات. لكنني أستطيع أن أقول ذلك لك وليس لغيرك[2].
الرهان على الأردن
اتفاق كامب ديفيد أوصد الأبواب أمام المشاركة الفلسطينية المستقلة في التسوية، وقطع الطريق على احتمال قيام كيان فلسطيني. لكن عرفات لم يسلِّم بهذه النتيجة وواصل مساعيه، فَقَبِلَ مبادرة قمة فاس، 1981، التي تحولت فيما بعد إلى مبادرة السلام العربية، وتعامل مع إشارات مشروع ريغان، في مطلع أيلول/سبتمبر 1982، موقناً أن المشاركة الفلسطينية فقط عبر تحرُّك سياسي مع الأردن، أبرم اتفاق عمّان سنة 1985، الذي دشّن عملية التنسيق السياسي الفلسطيني مع الأردن، وفي هذا السياق، وافق على القرار 242، وعلى تشكيل وفد أردني فلسطيني مشترك للمشاركة في المؤتمر الدولي. كما شجب ودان جميع العمليات الإرهابية ضد الأبرياء العزل في أي مكان، وجميع العمليات الخارجية، وعلى الرغم من ذلك، فإن أبواب واشنطن لم تُفتح أمامه، وانتهى هذا التوجه بإعلان الملك حسين وقف التنسيق مع المنظمة في سنة 1986، وانتهى اتفاق عمّان إلى لا شيء. بعد هذا الإخفاق السياسي، عُقدت دورة المجلس الوطني الـ 18 في سنة 1987، جرت خلالها استعادة الوحدة الوطنية، واعتبر بيان المجلس أن مشروع فاس يُعَدّ أساساً للتحرك العربي.
إعلان الاستقلال
فتحت انتفاضة سنة 1987 آفاقاً جديدة أمام النضال الوطني، وأحيت دور المنظمة، وتركت تأثيراً في الفكر السياسي الذي طرح - الحرية والاستقلال- ورسم حدود الدولة، وأعاد القضية إلى سلّم الاهتمامات العربية والعالمية. أدت الانتفاضة إلى إعلان فك الارتباط الأردني، وأثرت إيجاباً في النخبة الثقافية واتجاهات داخل المجتمع الإسرائيلي. ترافق ذلك مع مناخات الانفراج الدولي والبيروسترويكا السوفياتية. أدركت المنظمة أن الأوضاع باتت مهيأة كي تطرح مبادرة سياسية، حين أطلقت إعلان الاستقلال في الدورة الـ 19 للمجلس الوطني في سنة 1988. أحدثت الانتفاضة تحولاً في التفكير السياسي الفلسطيني، فلأول مرة يتم اعتماد الشرعية الدولية التي تعاملت معها الحركة الوطنية كسلاح، وطرح الإعلان مفهوماً للدولة، باعتبارها دولة للفلسطينيين أينما كانوا، وكان هدف عودة اللاجئين من البنود الأساسية في البرنامج، وطرح المساواة للفلسطينيين في مناطق الـ 48. وبهذا ربط الإعلان مصالح مكونات الشعب الفلسطيني مع بعضها البعض، مكرساً بذلك الوحدة الوطنية.
على الرغم من المرونة والاعتدال الفلسطيني، فإن المواقف الإسرائيلية بقيت على حالها، ولم يُفضِ الحوار مع الإدارة الأميركية إلى شيء. في الوقت الذي عجزت الانتفاضة عن التحول إلى العصيان، فقد تراجعت المشاركة الشعبية في النصف الثاني من سنة 1989، ويمكن القول إن مركز ثقل الفعل الانتفاضي تحول نحو المجتمع، كالانشغال في تصفية العملاء بإفراط، ومن دون تدقيق أو محاكمات، وجرى فرض أخلاقيات الإسلام السياسي على المجتمع - كمنع الاختلاط، وفرض الحجاب، وحظر المشروبات الكحولية والأعراس. كانت مبادرة السيطرة على المجتمع باستخدام الدين من صميم فكر الإسلام السياسي. لكن حركة "فتح" وتنظيمات يسارية تنافست على فرض سلطتها، من خلال الإجراءات ذاتها، وكان هذا مناقضاً للفكر العلماني واليساري المعبّر عنه في قرارات وبرامج التنظيمات والمنظمة. تعمق الانسداد السياسي بفعل تورُّط القيادة في تأييد صدام حسين بعد احتلاله الكويت، وساهم تدفُّق المهاجرين اليهود – أكثر من مليون مهاجر - من المعسكر الاشتراكي إلى الأراضي المحتلة، في إعادة لزخم الاستيطان الإسرائيلي والابتعاد عن محاولات إيجاد تسوية. كما أن طرد نحو 300 ألف فلسطيني من الكويت فاقم الأزمة المالية للمنظمة التي تعرضت لحصار مالي، وشهدت العلاقات الفلسطينية مع الأوروبيين حالة من الجمود، وتراجع تأييد الرأي العام الغربي للانتفاضة. في ضوء ما تقدم، يجوز القول إن ما كان لهذه الأخطاء السياسية والاجتماعية أن تحدث بهذا المستوى النافر لو كان التطور في الفكر السياسي حقيقياً وجدياً.
[1] من بنود القرار 242 ، انظر الرابط.
[2] السادات رفض إقامة دولة فلسطينية واستبعد منظمة التحرير، "الأهرام" – رأي اليوم، انظر الرابط.