حنّا أبو حنّا، باق بإضاءاته التي غُرست في الوجدان والذاكرة
التاريخ: 
02/03/2022

قصة حياة حنا أبو حنا هي قصة صمود ومقاومة شعب تعرض للشطب والإقصاء. وقصة نخبة سياسية وثقافية دافعت عن حقوق شعبها بمختلف أشكال النضال.  كل شخص عايشه في حقول التعليم والثقافة والمسرح والموسيقى والإعلام والنضال الوطني يشعر بأنه مشارك معه في منظومة القيم المحفزة للتحرر من الاستعمار والتخلف، وفي مسار بناء الشخصية والهوية الوطنية. في الثاني من شباط/ فبراير 2022، ترجل الشاعر وساد شعور جمعي وفردي بالحزن والخسارة، وكلما جرى استحضار تجربته الرائدة والغنية بمضامين تحررية وإنسانية، كلما شعر المواطن بخسارة أكبر. في هذا اليوم الحزين خسرت فلسطين علماً ورمزاً ثقافياً كبيراً، توقف قلبه وقلمه، لكنه باق بإضاءاته التي غُرست في وجدان وذاكرة الكثيرين.[1]
 شارك أبو حنا في التظاهرات  ضد الاحتلال في سن الثامنة "كنا نحن صغار السن  نشترك فيها بإلقاء حبوب ‹الكرسنّة› على الأسفلت أمام الخيول التي يركبها البوليس الإنجليزي لتتزحلق، وكنا نشعر بفرح كبير عند حدوث ذلك"، قال أبو حنا مستذكراً طفولته.[2]  تنقّل حنا منذ نعومة أظفاره في أرجاء متعددة من فلسطين، بدءاً بالرينة مسقط رأسه، مروراً بحي الطور في القدس، ثم رام الله وبيرزيت وأسدود وقرية نجد، وصولاً إلى حيفا والناصرة. كان كثير الترحال بسبب وظيفة والده (مسّاح أراضٍ متنقل). وقد ترك المكان بصماته على انتمائه الوطني وحبه للبلاد، عبر الأماكن التي عاش فيها. في أثناء التطهير العرقي، رفض فكرة مغادرة فلسطين مهما كانت الأسباب، وقد أوضح ذلك بالقول: "ناضلت ضد الهجرة. وقد حضر أصدقاء والدي من المسّاحين وصاروا يشجعونه على الهجرة معهم إلى الخليج، فقلت له: ‹وطننا هنا والصهيونيون يريدون إخراجنا منه، وعليه، يجب أن نضحي ونحمل الراية. أنا ضد الرحيل، ولا أستطيع أن أمنعك، لكني وإخوتي لن نرحل، نحن ندعو إلى الصمود.›" وبقي صامداً.

ترك المكان أثراً في نموه النفسي كطفل تبادل مع الأطفال الألعاب والخبرات والفرح في العديد من الأماكن. وعندما دخل معترك الثقافة والشعر لم ينقطع عن طفولته، بل تواصل معها وارتقى بها عبر كتابه الشهير الموجّه إلى الأطفال "دنيا الأنغام"، وهو من أجمل الكتب التي دمجت جماليات المكان والبيئة في عذوبة الأطفال ومرحهم وبراءتهم، رافعاً الذائقة الجمالية لدى الأطفال الذين قرأوه، أو غنوا نصوصه.

الصراع الفلسطيني مع المشروع الصهيوني شمل كل شيء، لكنه تركز في حقل التعليم الذي كان أبو حنا من فرسانه. فمن يملك التعليم تكون يده طولى في الثقافة، وفي بناء ركائز صمود وتحرُّر فلسطين، أو في بناء الهيمنة الاستعمارية العنصرية لـ "دولة إسرائيل". الكلية العربية ودار المعلمين كانتا أعلى مستوى تعليمي فلسطيني تناوب عليهما منذ سنة 1918، خليل السكاكيني، وخليل طوطح، وأحمد سامح الخالدي، وغيرهم.  مقابل الجامعة العبرية في القدس التي تأسست في سنة 1925، والتخنيون في حيفا، 1924، مؤسستان صهيونيتان وُضعتا في خدمة المشروع الصهيوني وبناء دولته. النخبة الأكاديمية ومؤسسات التعليم الفلسطينية كانت تتعرض للقمع الاستعماري البريطاني، وتُفرض عليها القيود، ولا سيما حظر مشاركتها في أي نشاط سياسي، ويتعرض "المخالفون" للعقاب، كفصل خليل طوطح وجورج معمر ودرويش المقدادي وجلال زريق، بتهمة تشجيع الطلاب على الإضراب، وكاعتقال العديدين. في مقابل ذلك، كانت الجامعة العبرية ومعهد التخنيون يتلقيان كل أنواع الدعم  الاستعماري، ومن دون أي قيود،  يكفي أن آرثر جيمس بلفور جاء إلى فلسطين للمشاركة في افتتاح الجامعة العبرية. كان الاهتمام الصهيوني بالتعليم مُمأسَساً، وفي خدمة استراتيجية استعمار فلسطين، أما الاهتمام الفلسطيني بالتعليم، فقد اعتمد فقط  على مبادرة أكاديميين ومربّين، وانعزل عن الاستراتيجية الوطنية. لمع نجم حنا أبو حنا في الكلية العربية، وقد شارك في قيادة الإضراب والتظاهر ضد المشروع الصهيوني. وتأثر بأساتذته في الكلية العربية، وبصورة خاصة نقولا زيادة وعبد الحافظ كمال، اللذين كانا ينظّمان رحلات المشي في البلاد لترسيخ حب الوطن، كما تأثر بإسحاق موسى الحسيني الذي شجع على كتابة أبحاث عن التراث، وفي هذا السياق،  كتب أبو حنا  عن الشاعر أبي إسحاق الغزي.

بدأت معركة التعليم بمحاولة العبرنة– تعليم جميع الدروس باللغة العبرية-واغتيال اللغة العربية. عملية أشرف عليها بن غوريون مع فريق من الخبراء. لكنها أخفقت بفعل المقاومة من داخل العملية التعليمية ومن خارجها، وانتصرت اللغة العربية على كل محاولات النيل منها. الفشل الإسرائيلي دفع إلى محاولة الصهينة والأسرلة، من خلال بث الروح الصهيونية في الطلاب والمعلمين والجمهور العربي. بدءاً بالاحتفال المفروض بعيد "الاستقلال"، وحفظ أناشيد تكرس الرواية الصهيونية، عبر الكتب المدرسية وبعض الصحف الموجهة إلى العرب، كصحيفتيْ "اليوم" و"المرصاد"، ومن خلال فصل وقمع وعزل الذين يملكون الوعي الوطني ويعملون على تسريبه للطلبة. في مواجهة ذلك، انبرى معلمون، أبرزهم حنا أبو حنا، لتقديم الرواية الفلسطينية، شارحين لطلبتهم أهم محطات الصراع. كانوا يعلّمون الطلبة من خارج المقررات، الأناشيد والأشعار الوطنية لإبراهيم طوقان وأحمد شوقي وبشارة الخوري، ويسردون وقائع النكبة، ويُعرّفون بالحقوق الفلسطينية المشروعة، ويبنون الهوية والشخصية والثقافة الوطنية، من خلال المشاركة مع النخبة الثقافية، مثل إميل حبيبي والشعراء راشد حسين ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد.

استجاب أبو حنا للفكر التقدمي من الوهلة الأولى، وكأنه يملك استعداداً لقبوله كفكر داعم للنضال، وقال إن صليبا خميس زاره ذات يوم في بلدة الرينة وخبأ عنده حقيبتين من الكتب، "في ذلك المساء فتحت واحدة من الحقيبتين فإذا فيها العديد من كتب ماركس وإنجلز بالإنجليزية وكتاب رسائل بينهما، وكان هناك بعض الروايات الروسية. أقبلت على القراءة بِنَهم، وكلما اتسعت القراءة زاد طلب المزيد. باختصار: تبنيت الرؤية نظرياً." ويضيف أبو حنا أنه انتمى، لاحقاً، إلى عصبة التحرر، التنظيم الشيوعي الذي كان يملك حضوراً قوياً، على الرغم من الحملة التي تعرّضت لها قيادة العصبة، آنذاك، ومن بينهم صديقه صليبا خميس، على خلفية قبول قرار التقسيم. وكان الشاعر عبد الرحيم محمود ضابطاً في جيش الإنقاذ وصديقاً لصليبا خميس، وقد دافع ورفاقه عن عصبة التحرر، وحال دون اعتقالهم من جيش الإنقاذ، كمناضلين مشهود لهم بالإخلاص للوطن. تعمق أبو حنا في دراسة الماركسية وقراءة الأدب السوفياتي، بحثاً عن العدالة والحرية، بحسب ما ذكر في الحوار. ترافق ذلك مع شعوره بأهمية تنظيم الجهود المشتركة، فبادر إلى الدفاع عن الشعب بمشاركة الطلاب اللاجئين من حيفا وطبرية وبيسان، بإنشاء اتحاد الشبيبة الديمقراطية. وكان من بواكير أعماله تنظيم إضراب في المدرسة التي كان يعلّم فيها، وامتد الإضراب إلى سوق المدينة بقيادة اتحاد الشبيبة، احتجاجاً على قمع العائدين إلى بيوتهم وبلداتهم، ونجح الإضراب في فرض التراجع على السلطات الإسرائيلية. تلقى المعلمون دعوة من الحاكم العسكري وجرى فصلهم، عقاباً على عدم منع الطلبة من النشاط والإضراب.

اتحدت عصبة التحرر مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي في أواخر سنة 1948، وتوحد اتحاد الشبيبة الديمقراطية مع اتحاد الشبيبة الشيوعية في اتحاد واحد بالاتفاق بين أبو حنا وصليبا خميس. كان الإطار التنظيمي الوحيد في ذلك الوقت هو الحزب الشيوعي، وقد ناضل الشيوعيون ضد الترحيل وسلب الأراضي ودفعوا الثمن سجناً أو نفياً، أو حرقاً لمقراتهم من طرف عملاء جرى تجنيدهم لمحاربة الحزب، وقد قام هؤلاء العملاء بحرق سهيل زريق شقيق سكرتير فرع الحزب في عيلبون لطفي زريق المستهدف بالحرق. منذ ذلك الوقت، مارس أبو حنا النشاط الوطني مع الحزب الشيوعي. تنقّل الشيوعيون، بينهم حنا، من سجن الناصرة إلى الجلمة، ثم إلى يافا والرملة والدامون.

تميز أبو حنا بممارسة النقد في ذلك الزمن الذي خلا من النقد. فتجرأ على النقد في مؤتمر الشبيبة الشيوعية في موسكو سنة 1954 وقال في الاجتماع: لماذا النظام الرأسمالي يُنتقد والنظام الاشتراكي لا يُنتقد؟ فأجابوا: نحن لا نتعلم من الدول الرأسمالية. وتعرّض في أثناء حديثه وبعد الاجتماع للضغط والمساءلة من رفيقه عوزي عضو اللجنة المركزية. وانتقد أبو حنا  دور قيادات إسرائيلية في الحزب الشيوعي في جلب السلاح لإسرائيل وتعاونها مع منظمات الهجرة، مستنداً إلى اعتراف السكرتير العام للحزب شموئيل ميكونس بمساهمته في جلب السلاح والمهاجرين. استمر الصراع داخل الحزب مع اتجاه صهيوني بقيادة ميكونس وأدى إلى انقسامه سنة 1965 إلى جناحين؛ الجناح الذي يضم أغلبية عربية، وهو الجناح المناهض للصهيونية والاستعمار والعنصرية، وأسس هؤلاء القائمة الشيوعية الجديدة (راكاح)؛ والجناح الصهيوني الذي عمل تحت اسم ماكي – الحزب الشيوعي الإسرائيلي – الذي اختار الصهيونية وقاد الشيوعي اليهودي مئير فلنر “راكاح” أعواماً طويلة.. وبعد وقت انهار الأول وصمد الآخر واستعاد اسم الحزب. وفي سنة 1977، شُكِّل ائتلاف الحركة الديمقراطية للسلام والمساواة – حداش –  ضم الحزب منظمة الفهود السود.[3]

وعلى جبهة الثقافة، عمل أبو حنا محرراً في صحيفة الاتحاد مع لجنة التحرير، مع توفيق طوبي وإميل حبيبي وإميل توما وصليبا خميس وسمير مراد الشيوعي العراقي الذي  كتب باسم سامي ميخائيل.

الجديد والغد والاتحاد ودار نشر الكتب المختارة حرصت على إعادة طباعة ونشر كتب طه حسين ويوسف إدريس وأبو العلاء المعري وأشعار محمود درويش، بالإضافة إلى شاعر الصعاليك عروة بن الورد والمتنبي وشعراء فلسطين، عبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان وأبو سلمى وحسن البحيري ومحمود درويش، وجرى التعريف بأعلام الأدب العالميين. وفي الصراع مع  ثقافة الإنكار وإسكات التاريخ الفلسطيني، قال أبو حنا: كان ردنا على شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، أن هذه الأرض كانت عامرة بشعب حيّ أنبت شعراء، اقترن كل منهم ببلده، كشاجم الرملي، 970 م، وابن القيسراني، 1153، وأبو إسحق الغزي، 1130، والقاضي الفاضل العسقلاني، والتميمي الطبيب، والمقدسي الجغرافي العلم. قصة نجاح المستوى الثقافي تمثلت في إتاحة الوعي لفئات واسعة من المجتمع، وخصوصاً الطلاب. قال أبو حنا : أردنا أن نعوض على طلابنا ما حرمهم منه التعليم الرسمي الإسرائيلي فكانت فرق تحمل الصحيفة والمجلة الى البيوت، وكانت مجلتا الغد والجديد تستضيفان الكتّاب الشباب وجذبتا العديد منهم، كان من بينهم درويش راشد حسين وسالم جبران، ولغير المتعلمين نقيم مهرجانات شعرية في القرى والمدن. وفي هذا السياق، أسس حنا أبو حنا فرقة الطليعة مع الموسيقار ميشيل درملكنيان، وكان لها حضور ثقافي مقاوم، عبر جماليات اللحن والكلمات. وعندما سُجن وتوقف عن كتابة زاويته الأسبوعية في جريدة الاتحاد بعنوان "وحي الأيام"، تطوع عدد من الشعراء للكتابة كي تستمر الزاوية، وظل "وحي الأيام" حياً ينبض.

رحل الشاعر والمثقف الثوري وأستاذ الأجيال حنا أبو حنا، الذي ظل طوال عمره المديد مثابراً على الحضور والعطاء حتى الرمق الأخير، وترك وراءه ثروة في الشعر، بدلالة قول الشاعر محمود درويش "حنا أبو حنا علّمنا ترابية القصيدة"، وقد قام بتحويل الأحداث والهموم والأخبار اليومية إلى قصائد، وترك نموذجاً خلاقاً في السيرة الذاتية "ظل الخيمة"، و"مهر البومة"، و"خميرة الرمال"، وترك عدداً من الأبحاث، أهمها "رحلة البحث عن التراث، وقصصاً للأطفال، "دنيا الأنغام"، فضلاً عن ترجمات، والأهم تجربة نضالية ملهمة للأجيال. حنا أبو حنا رحل جسداً وبقي ثقافة وفكراً وقيماً ومرجعية.

 

[1] كانت "مجلة الدراسات الفلسطينية" أجرت مقابلة مع الشاعر والمربّي حنا أبو حنا في سنة 2016. المقابلة التي  شارك فيها سليم تماري ومنير فخر الدين، وأنا قدمت نبذة عن حياته وتجربته، وقد اعتمدت عليها في كتابة هذا المقال.

[2] من حديث الشاعر حنا أبو حنا في "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 105 (شتاء 2016)، ص 96. 

[3] انظر الرابط

عن المؤلف: 

مهند عبد الحميد: كاتب وصحافي فلسطيني، رام الله.