"سيرة سكان مدينة ر" ديوان شعري للكاتبة والشاعرة داليا طه، صدر عن دار الأهلية للنشر في أيلول/سبتمبر 2021، والديوان عبارة عن شعر في مونولوجات. وداليا حاصلة على شهادة الماجستير من جامعة براون في الولايات المتحدة، ولها عدد من الإصدارات الشعرية والكتابات المسرحية، وهي تقيم وتعمل في رام الله.
لم أعرف مَن قرأ "سيرة سكان مدينة ر" من دون أن يقرّ بأن هذا الديوان الشعري عنه وعنا. تذكّرنا داليا طه، ليس بحقيقة أننا نبحث عن أنفسنا فيما نقرأ، بل أننا بحاجة إلى نص شعري يحكي ما نعيش، وأننا نشتاق إلى الشعر، نشتاق إليه حقاً.
تدرك داليا أن القارئ يبحث عن التشابه فتشاركه اللعبة، وتخفي أسماء المعالم، بينما تجسدها بشكل فاضح، ليتسنى للقارئ إكمال الفراغ، ومشاركة القصيدة نسج معالمها. وإن كان الشعر يستطيع بناء صلات كونية وإنسانية، إلا أننا نحب أن تكون الحجارة التي يُبنى فيها هذا الشعر مألوفة ومحلية، فنحن بحاجة إلى شعر لا يفهمه الجميع بتلقائية- وإن اعتقدوا ذلك-، إنما إلى شعر نفهمه نحن ونحتكر مشاهده لأنه عنا، عن زوجة الرجل الذي اعتقلوه، وعن الصحافي الذي فقد إحدى عينيه، وعن عامل النظافة في مدينة ر. ونحن بحاجة إلى شعر لا ينغمس في هذا الواقع، فيصبح أحد تجلياته شعراً ممعناً في اليأس، أو شعراً يتعالى على الواقع فيتجاهل يأسنا، إنما ينطلق من تفككنا ليخلق سردية تسبكنا جماعةً بشرية تقاتل، والقتال دوماً يصنع التفاؤل.
وعلى عكس أجيال سبقتنا، لم نربِّ شاعراً، ولم نرقب الصحف أو دور النشر لنتابع أعمال شاعر/ة، ولم يحظَ الكثير منا بشغف البحث عن مقعد في أمسية لشاعره، أو حتى شراء دواوين من دون جهد قراءتها. وما زلنا نعيد على مسامعنا "مديح الظل العالي" كما لا يزال شعراء جدد يمررون لنا نسخاً شديدة التأثر بدرويش، في واقع لا ثورة فيه، وتبدو مأساة اللاوضوح أشد مآسيه.
بأسلوب شعري مختلف لا يتغذى من بلاغة درويش، حضرت داليا طه، شاعرة تكتب للمدينة وسكانها سيرة محفوفة بالغضب والأمل.
"باجتهاد فأر"
بشيء من القلق والتواضع، يبوح درويش "مَن أنا لأقول لكم ما أقول لكم"، والشعراء مشغولون بسؤال جدوى الشعر، كما تداخل داليا؛ فهم المضطرون إلى تقديم مرافعات باسمه، وبينما يشوب درويش خجل من موقعه كقائل كما زهد وخجل الأنبياء سعاة بريد السماء، تتنصل طه من هذا الموقع، لتتخذ صفة المستمع والمشاهد، "جميعهم يريدون أن يقولوا لي شيئاً، لكنهم يترددون"، لكنها لا تكتفي بتردُّدهم "أمشي وراءهم... أحاول أن أسرق منهم شيئاً لن يلحظوه وأضعه في قصيدة"، لكن المراقبة وحدها تحول المراقب إلى موضوع، وعلى النص أن يكون سيرة سكان هذه المدينة، لا وثيقة استشراقية الطابع عنهم، وهنا كان على الشاعرة اغتيال المسافة بالتقمص "أستطيع أن أصوب السؤال نحوك كمسدس: ماذا لو كانت حياتك هي حياتي؟"، ليصبح النص لا حكواتياً نلحظ تغيُّر صوته بالانتقال من شخصية إلى أُخرى، إنما مدينة حية وهب سكانها فجأة البلاغة والشاعرية.
ساهمت خلفية داليا المسرحية في أن تنأى بفرض نفسها عن القصيدة، الأمر الذي تصفه بفهمها النظري للشعر والعالم "الآخرون هم كيف نخترع أنفسنا ونعيد حكاية حكايتنا"، والذي تجسده بنوع النص "شعر في مونولوجات".
تأتي هذه المونولوجات على ألسنة شخصيات متعددة لها كينونات مكتملة، أي بمعنى لا حاجة إلى أن تحمل حواراتها الداخلية تعريفاً لذواتها وتبريراً لها، ففي هذا المسرح الحي والمستمر زمانياً، تجسد المونولوجات اقتطاعاً من حياة نابضة ومكثفة، لا اختلاقاً ركيكاً لها، فها هو عامل النظافة يفكر في الشجر في مدينة ر، وها هو الرجل المعتقَل للتو يفكر في الصور الفوتوغرافية وغياب الأمل، وها هي التي تعمل في إذاعة الأسرى تفكر في طليقها، بينما لا تفكر فيه.
تحكي داليا، بينما تترصد المدينة، عن سكانها- زبائن محل العصير الذين "يقولون جملاً غير واضحة عن السنوات التي أمضوها هنا. ثم يمشون... ولكني باجتهاد فأر أجمع ما يسقط منهم"، وبالاجتهاد نفسه وبالموهبة، تعيد داليا هذه الجمل غير الواضحة إلى أصحابها قصيدة وسيرة. وإن تنصلت داليا من موقع القائل، إلا إن هاجساً يصعد أحياناً يكشف أنها تبرره، أقول لكم ما أقول لكم، لأنني "الشاهد الذي سيتعلم كيف يكتب"، لأنه لم يكن شريكاً كافياً للحدث، أخت صغرى "تريك صور العائلة على الحائط دون أن تكون في واحدة منها"، أو بين قوسين توأماً ثالثاً.
"نحن لسنا صامتين، نحن نتربص"
تفترض طه أن الشعر والسياسة يتجاوران "بكونهما يحاولان النظر إلى كل العوالم المبطنة في أي لحظة"، وهذه النظرة هي التي تجعل النص سياسياً من دون أن يعلن ذلك، في خطاب يائس أو تحريضي (تعبوي/دعوي)، يمكّن الشاعر/ة من التحلل من الواقع، ومن دون قفز إلى الماضي أو المستقبل كملجأ، متحللين من اللحظة.
والراهن ليس سؤال الشاعر فقط، إنما هو السؤال الذي يطرحه سكان المدينة كافة، ما الذي يحدث؟ كيف يتحول هذا الصراع إلى مدينة مسالمة، وكيف يتحول هذا السلم إلى شهداء ومعتقلين؟
وداليا تحفر في المشهد اليومي، من دون ادعائه، فنحن لم نُهزم بعد، ونحن لسنا في ثورة كذلك. ولأن الشعر عند داليا عليه علاج مأزق عدم الإيمان، الإيمان بتغيير العالم، وبأن عوالم أُخرى ممكنة، تنطلق داليا مع قارئها من المعاش، وباستخدام ضمير نحن الودود "صحيح أننا نبدو مسالمين... صحيح أننا لا نبدو كأننا على وشك أن نحرق العالم..." وتشارك القارئ قصصاً مألوفة حدثت وتحدث معه من دون أن يمنحها مدلولاً سياسياً، حوارنا "حول كل الطرق التي يحاول فيها الإسرائيلي قتلنا"، شتمنا لكل شيء "في التاكسي الذي سيقلنا"، وتمرر للقارئ ما يدركه من دون لغة، وما تبعثره اللغة، أن "هكذا يبدو أيضاً مَن يخططون لثورة"، وأن علينا الإيمان، ليس بأن هنالك عالماً آخر ممكناً فقط- فنحن كفلسطينيين، على الأقل نعي أن عالمنا غير ممكن، كما رأينا ملامح من عوالم أُخرى ممكنة حفل بها تاريخنا- إنما الإيمان بأننا نصنع هذا العالم حتى لو لم نظهر كذلك "نقشر الدهان عن الحائط لقتل الوقت ولكننا سراً نتمنى أن نجد حياة أسفله"، والإيمان بأن كل هذا الركود والصمت ليسا حقيقيين "الجنود لا يعرفون كل العتمة التي نحملها تحت جلودنا ونحن نعبر الحواجز تلك التي نربيها ككلب متوحش"، فنحن بالنهاية "لسنا صامتين بل نتربص".
"جيش خفي"
في مرافعتها عن الشعر، ترى داليا أن أهمية الشعر ومهمته هي "عقد صلات بين لحظات متنافرة... وخلق الصلة هي لحظة سياسية"، فكل الممكنات السياسية تحققت بعد لحظة إدراك، لحظة أدرك العامل أنه ليس وحده، لحظة أدرك المستعمر أنه ليس المستعمر الوحيد.
ومن هذا الطرح ينسج الديوان، الذي يُفتتح بنص "أنت" وما يحمله من أسئلة وجودية، من دون تحديد الزمان والمكان، أو حاجة إلى الارتباط بهما "نحن ضيوف مثلك في هذا العالم"، وعلى الرغم من أن نص "أنت"، يزخر بالتعبيرات عن الوحدة والقلق الوجودي، والتي أصبحت ظاهرة لا ترتبط فقط بالفضاء الأدبي. فإن حضور هذا النص يختفي مع الاستمرار في القراءة، وبنهاية الكتاب ليس الشعور بالوحدة وعبثية الوجود هما ما تودعهما أو يودعهما النص فيك. فهذا الكتاب الذي ابتدأ بأنت وانتهى بنص "نحن" ليس حكاية عن "الأنا مقابل العالم"، فالجحيم ليس الآخرين، عند طه، كما عند سارتر، فالآخرون، بحسب قول داليا، "يساعدونا أن نحكي حكايتنا وأن نخترع أنفسنا ونحن نحكي حكايتنا."
وداليا تحكي سيرة الأنت أو المدينة، عبر صور ومونولوجات عديدة لشخوص لا يعرفون بعضهم بعضاً، ويملكون مسارات لا تبدو متشابهة، وهذه هي الصلة التي تعقدها داليا، والتي تشحن النص بالسياسة، هي "لحظة راديكالية في كيف نرى أنفسنا كمجموعة وكيف نرى أنفسنا كبشر"، وأن نرى أنفسنا كمجموعة، وهو أكثر ما نفتقده اليوم في مجابهة مشروع تحويلنا إلى أفراد، وانتزاعنا من سياقاتنا وروايتنا المؤسسة لذواتنا. وهنا تصبح الصبايا الغريبات والبعيدات في مدينة ر مجموعة من الغاضبات، ونصبح "نحن الجيش الذي يكبر في كل العالم"، والذين لا حاجة لنا إلى التعريف لأننا "سنعرف بعضنا من جلدنا الذي نرتديه بالمقلوب"، ولا حاجة إلى أن نقلق من لحظة البداية لأننا "جيش بإشارات سرية يتقدم رغم أنه يبدو كأنه لا يغير مكانه." ولا حاجة إلى أن نعرف وجوه بعضنا، أو نخاف من تضحياتنا لأنه "يوجد مَن سيهتف دوماً من أجل حرية مَن لا يعرفه."
وأي مجموعة من البشر هي بحاجة إلى رواية تجمعها، والرواية هنا جاهزة، هي الماضي المتجاهل كفاعل، والحاضر غير المحكي، والمستقبل المرعب، والتي هي مشروع داليا في السيرة التي تربط كل هذه الذوات المتباعدة في نحن، وتعيدها إليهم.
"نحن التعساء"، "نحن الذين نقطع الحواجز ونحلم بالأفق"، وستقف هذه النحن، أما العالم المهول "وقبل أن نندهش سنكون قد مسكنا أيدي بعضنا البعض بجزع."
"الطمأنينة في مواجهة الخوف"
تجادل الشاعرة في أن كل عمل أدبي تتجاور فيه الحلكة مع الطمأنينة، وعلى خلاف العالم المعاصر الذي يروج مفهوم الأمان وما يصوره بأن الآخر خطر، والذي تحت رايته (الأمان) تُشَن الحروب ويُعتقل النشطاء، تروج داليا مفهوم الطمأنينة، الطمأنينة التي لا تلغي مفهوم الشر، إنما تواجهه، والمواجهة تعني أن في "هذا العالم الموحش نحن لا نملك سوى بعضنا البعض". فنواجه الفقد بالانتماء "حتى يصدقوا أنهم ينتمون لبعضهم البعض... بعد أن فقدوا أشياء كثيرة"، وحين ننتمي إلى الآخرين ونحبهم، نحن نواجه دواخلنا "هل فكرت مرة وأنت تمرر أصابعك في شعر من تحب... بأنك تحمل داخلك نفس العتمة التي كانت تلف العالم بأكمله." ونحن نرقب الحلكة والوحدة أو ندرأهما يبزغ القمر الذي "يجعلنا نشعر للحظات بأننا جميعنا أشقاء في هذا العالم".
والطمأنينة ليست غاية تصل إليها كفرد، وهنا تحاول الشاعرة استراد المفهوم من احتكار الروحانيات، إنما هي محصلة مقدرة الجماعة، وهذه المقدرة على الرغم من غيابها النسبي عن عالمنا المعاصر، فإنها لا تزال حاضرة في المخيلة الجماعية للفلسطيني، والتي تستمد كثافة تعبيراتها وحقيقيتها مع كل فعل سياسي جمعي، لا يزال الناس يتحدثون بشاعرية عن أحداث الشيخ جرّاح والهبّة التي رافقت معركة سيف القدس.
تُستحضر الانتفاضة الأولى في الخطاب الفلسطيني كبديل من عالمنا اليوم، ليس على المستوى السياسي فقط، بل على المستوى الاجتماعي والنفسي، وهي شديدة الالتصاق بفهم الطمأنينة، فحوارات كثيرة تبدأ بأن الجيران في عمارات هذه المدينة لا يعرفون بعضهم البعض، وتنتهي بحديث عن الانتفاضة الأولى.
تستعيد الشاعرة الانتفاضة بصورة واضحة في المونولوج رقم 6 المعنوَن بـ "المعلمة التي تدرس..." تجيب الانتفاضة عن الاغتراب والوحدة "أشخاص كثيرون أمر عنهم يومياً دون أن نتبادل كلمة واحدة... الآن نتصافح ونبتسم ابتسامات عريضة"، كما تجيب عن أكثر همومنا الشخصية "أنا الآن محشورة بين أجساد كثيرة ومع ذلك لا أشعر بالضيق ورغبتي بالصراخ في وجهك تلاشت تماماً"، وتجيب عن كل ضبابية العالم ولا جدواه "وضوح مذهل يجعلني قادرة على الحب"، "أشعر بالطمأنينة".
على الرغم من أن الانتفاضة الأولى تشكل حدثاً مؤسساً في الهوية التي تقوم على المواجهة الباعثة على الطمأنينة، فإن الماضي وتمثلاته لا يعملان بالضرورة على نفس الوتيرة، وهنا يأتي استحضار النكبة والهزيمة، كتراجيديا تفوقنا، "منذ وُلدنا وآباؤنا وبكامل الحب يطلقون علينا أسماء قراهم ثم يقتلوننا بصمت"، الصمت ذاته "الذي يطبق على المشهد بعد المذبحة ولا يغادرها أبداً"، وهذا الاستحضار جعلنا نعرف ذواتنا على أننا "نحن جيل يتيم... أباؤنا حملوا بنادق"، ونحن لإبائنا "مَن نحمل كل ما فقدتموه"، وهذا القلق المنبعث والمتوارث، لا مفر منه، سوى أن تقر ضحية الضحية بأننا "لن ننظر للخلف... نحن سنسحق كل شيء ونبدأ من جديد."
"المدينة"
لم تبخل الأكاديميا في وصف "مدينة ر"، في اغتراب سكانها، وجنون عمرانها، في أجهزتها الأمنية، ومؤسساتها المدنية. هذه المدينة التي طرأت علينا، واستمر حضورها أكثر مما تنبأنا.
وهذه المدينة لا تنضح بالشعر، إنها مدينة عادية تقوم بدور استثنائي، فيستعصي على الشعر أن يجعلها مغناة، ويستعصي على سكانها أن يحكوها، وأن يسردوا أنفسهم من خلالها، ففضاء هذه المدينة خُصص لمنافسة الذوات ومزاحمتها، ومرايا المدينة خُصصت لتفقّد العابرين وحدتهم، وكل ما في المدينة يشي بأنها تُقاد بعيداً عن تاريخ قاطنيها وعن حقيقتها.
وفي مواجهة المدينة، استطاع النص أن يكون سيرة لسكان المدينة، والسيرة هي الذاكرة والهوية التي يحتاج إليها الأفراد ليعرفوا أنفسهم، وليعرفوا الآخرين، وهي الوسيلة لينسجم اليومي مع الحلم فيستعيده.
لكن المدينة، أحياناً، تصبح أشد حضوراً من القصيدة، فيقاطع هذا الديوان "بيانان"، واحد في مواجهة السلطة والممارسات القمعية، وآخر في مواجهة التعذيب في المعتقلات الصهيونية.
والديوان الشعري الذي كُتب على يد شاعرة لا يبتذل ضمير "نحن" الجماعي، ويحوله إلى سلطة، إنما يجادل "النحن" في الوقت الذي يسعى لتشكيله والاستناد إليه، وهنا تستحضر الشاعرة الصوت النسائي للمواجهة "نحن غاضبات على آبائنا الذين لا يبكون"، "نحن غاضبات من قلة الحيلة"، وهذا الصوت ليس مَقاطع يمكن اقتباسها فقط، إنما هو قدرة الشاعرة على الالتزام بحكايا الآخرين من دون استعراض، وبجمال اللغة من دون تبجُّح.
ينتهي النص، وقد أزاح قليلاً من الوحدة والاغتراب التي تسحق بهما المدينة سكانها، وقد جعلنا ننتظر المزيد من الشعر...
المراجع
درويش، محمود. "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي". بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2009.
طه، داليا. "سيرة سكان مدينة ر". عمّان: دار الأهلية للنشر والتوزيع، 2021.
طه، داليا. "الشعر والسحر والسياسة". مداخلة قُدمت في مؤتمر "الثقافة الفلسطينية اليوم: تعبيرات وتحديات وآفاق". بيرزيت: جامعة بيرزيت، 2021.