في الثاني من حزيران/يونيو 2002 بدأت حياتنا الجديدة. إنها الحياة القسرية التي فرضها واقع الاحتلال والقهر على شعب فلسطين أهل البلاد. إنه واقع، كل شيء فيه كان غير متوقع يصبح متوقعاً، وكثير من الأمور المتوقعة تصبح بعيدة المنال، ولا نستطيع رؤية مناليتها إلّا من منظار طريق الحرية الطويل. إنه تاريخ اعتقال المناضل والقيادي في كتائب شهداء الأقصى ناصر الشاويش، والذي يصح فيه قول الشاعر "أحمل روحي على راحتي". إنها فترة الانتفاضة الثانية التي واجه فيها شباب فلسطين الاحتلالَ بأرواحهم، وكان لسان حالهم تحرير الوطن وتكملة قول الشاعر "فإمّا حياة تسرّ الصديق، وإمّا مماتٌ يغيظ العدا". ناصر الذي بات من قيادات الحركة الأسيرة، ومن المثقفين المشتبكين، الصامدين، ذوي الصلابة. وعلى الرغم من ضعف الجسد والحالة الصحية، فإنه يمضي الكثير من وقته في إعداد الأسرى الشبان للتوجيهي، وفي التدريس الجامعي في السجن.
ملصق للفنان سليمان منصور، أرشيف ملصق فلسطين
لقد ألقَت الحياة الجديدة أوزارها عليَّ وعلى أسرتي الصغيرة، وبقينا وحدنا نحن الثلاثة، ابنتنا وابننا وأنا، ننتظر ما يخبئه لنا القدر. انتظرتُ الأيام والليالي التي كانت تطول ولا تنجلي، ليالٍ من الوحدة والخوف والقلق المضاعف على ناصر، وعلى طفلينا، ومن وحشة الوحدة القاتلة. بعد أربعة أشهر من التحقيق القاهر والتعذيب مضت كأنها سنوات، علمنا بأن التحقيق انتهى، وتم نقله إلى "مقبرة الأحياء" الجديدة القديمة، فأدركنا أن الحكم الاحتلالي سيكون طويلاً إلى أقصى حد، ليصدر لاحقاً الحكم بالسجن مدى الحياة، وبالمؤبدات المضاعفة. هكذا كان مصير المناضلين ممن لم يستشهدوا في مواجهات تلك الملحمة.
حين بدأت جلسات المحكمة العسكرية اعتقدنا أنها فرصة لرؤية ناصر، لكنها كانت رحلة عذاب داخل رحلة عذاب أطول. كان التنقل إلى حضور جلسات المحكمة صعباً جداً، إذ كنت بحاجة إلى تصريح بالسفر من نابلس إلى رام الله، فكنت أنطلق في الصباح الباكر، وعبر الطرق الالتفافية كي أُحضِر التصريح. وفي إحدى الجلسات في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، كان ناصر تقدّم بطلب للسماح له برؤية ابنته، وطلب مني أن أحضرها معي في الجلسة التالية، إذ كان شديد التعلق بها، وللأسف، عندما خرج لرؤيتها كان رأسه معصوباً بعد أن اعتدى عليه جنود الاحتلال وحرس المحكمة بسبب رفضه الإدلاء بشهادة ضد صديقه ورفيقه في الكفاح والكتائب مروان البرغوثي. حتى أن ملامحه تغيرت، وبدلاً من أناقته المعهودة، كان شعره قد طال وتشعّث نتيجة التحقيقات المضنية والتعذيب السادي. ويبدو أن الطفلة الصغيرة صُدمت وهالها المشهد، وبعدها باتت تفيق من نومها بعد منتصف الليل وهي تبكي وتنادي "بابا". في شهر آذار/مارس 2003، اقتادوه مرة أُخرى إلى المحكمة، وكان يرفض أن يكلف محامياً للدفاع عنه، فوقف وألقى كلمة دافع فيها عن نفسه، وعن حق الشعب في مقاومة المحتل، وعن رفضه الاعتراف بالمحكمة، كونها تنطق باسم الاحتلال وبروحه الإجرامية. في جلسة النطق بالحكم حكموه بالمؤبد مدى الحياة والمكرر أربع مرات؛ في تلك اللحظة، كان الظلام قد حلّ وامتزج بظلم الاحتلال وظلام الحال، وكانت الساعه حوالي السابعة والنصف مساءً، فكيف أعود إلى نابلس؟ لقد كانت ليلة مفصلية وفاصلة، وأحسست بحال أسرتي وتشتُّتها، ناصر في السجن، وأنا نمت في رام الله، وأولادي نائمون بعيداً عنا. كانت الليلة الفاصلة بين التسليم والتحدي.
مسحت دمعات عيوني وقررت أن أتحدى لأوفّر لأولادي الحياة الكريمة وأقف إلى جانب زوجي، وأزوره وأسنده، ولا أنقطع عنه مهما طال زمن السجن والاحتلال. بعد فترة من الزمن، سمحت دولة الاحتلال لي بالزيارات التي كانت مشروطة بتصريح أمني منفرد لكل زيارة، وكنت قبل الزياره التقطت صوراً للأولاد كي يشاهدها والدهما عن طريق تلفزيون السلام في طولكرم، إذ كانت والدة أحد الأسرى زارت ابنها وعرفت منه أن الأسرى يحضرون برنامج "سلامات" من أهاليهم، حيث كان الإرسال ممكناً، نظراً إلى قرب سجن هداريم من طولكرم. وفعلاً، رأى ناصر ابنته وابنه على شاشة التلفاز، واستنشق فرحاً ملأ روحه. ففي يوم اعتقاله كان عمر ابننا خالد أربعة أشهر، وابنتنا سنة وسبعة أشهر.
بعد ثلاثة أعوام ونصف سُمح لي بالزيارة، بعد سلسلة من الرفض. ذهبت إلى طولكرم لزيارة إحدى الصديقات من أمهات الأسرى ذوات التجربة المريرة في زيارات السجون، لتساعدني على تحمُّل مشاق الزيارة وتخفّف من توتري. عشية الزيارة الأولى، كان الليل طويلاً، ولم أعرف للنوم مذاقاً، خوفاً من ألّا نصحو في الموعد، تمام الساعة الرابعة فجراً. طوال الطريق كنت خائفة من عدم تقبُّل طفلينا لوالدهما، وأن يترك ذلك أثراً فيه، فيحزن بدلاً من أن يفرح بهما. في السجن، وبعد طول انتظار وإرهاق، سجلنا الدخول إلى قاعة الزيارات، واقترب الموعد والمشاعر تتضارب خوفاً وشوقاً وحزناً، وخطوات وإجراءات طويلة، وعند فتح كلّ باب كنت أظن أن ناصر وراءه، فأجد باباً آخر، مشينا مسافة طويلة، لا أعرف كيف مشينا، حتى وصلنا إلى باب زجاجي، وقبل الدخول كان هنالك شبابيك خلفها شبان يرونك من دون أن تراهم، وتسمع أصواتهم؛ جاءت اللحظة، دخلنا إلى غرفة الزيارة التي كانت من دون زجاج فاصل، فقط شبك. جاء الأسير يدفعه شوقه ويبطّئ خطواته الخوف من ألّا يتقبّله الطفلان كي لا يصاب بصدمة، بان عليه أنه عانى جرّاء قلة النوم. كانت لحظة عظيمة لا توصف، إذ بات الشبك الفاصل مَعبَراً للقبلات وللشوق. تبادلنا التحية والأشواق والأحاسيس المرهفة من وراء الشبك، ليمضي الوقت وقبلات لأصابع طفلينا، وسمّيناها "لعبة الأصابع"، لينقشع التوتر المسبق خوفاً من عدم تقبّل الطفلين لأبيهما، وسرعان ما اندمجا في هذه اللعبة، يمدّ الابن إصبعه، فيحظى بقبلة، وكذا الابنة، ثم يمدّ ناصر إصبعه ليلامس وجنتيهما، وأحياناً يقبّلان إصبعه، فيضحكان وتضحك قلوبنا الأربعة. وكما حدثني ناصر في إحدى رسائله بعد الزيارة، فإنه عاش صدمة صاخبة ومشاعر متضاربة، فبعد تلك الزيارة جلس في الزنزانة على بُرشِه وهو يقبّل يديه، حيث قبّلاه، وأصابعه التي لامست وجنتيهما النضرتين.
وكي يكبر والدهما فيهما، كنت أقنع الابنة والابن بأنه عند الحاجة لأي غرض من ناصر، عليهما التحدث إلى القمر في السماء، فهو ينقل الرسائل والأمنيات الى أبيهما، كنت أُفهمهما أن القمر في السماء هو مَن يوصل الأخبار إلى بابا، و"إنتو شو بدكم إحكوا للقمر". وفي اليوم التالي كنت أحضر لكلّ منهما ما يرغبان فيه على أنه من أبيهما الأسير. وفي نهاية الزيارة، وحين سمع صوت الجرس انتبه وقال لي: "سامحيني ما حكيتك كثير بس اولادي أخدوا عقلي"، تفهّمت ذلك، فأولادنا ينوبون عنا ويأخذون عقولنا، وزمن الأسر طويل، ودوري أن يبقى حضور ناصر في قلب وذهن وحياة طفليه اللذين باتا في جيل الشباب، ننتظر الحرية ونسعى لها.