بين زمنين أتعلم أبجديات الانتظار
التاريخ: 
26/01/2022
ملف خاص: 

بعد إنهائه أول عقدين في سجون الاحتلال كتب الأسير وليد دقة، في حينه، عن الزمن الموازي، ذلك الزمن المغاير للزمن الطبيعي بمختلف تفاصيله "الطبيعية" التي لا تتشابه أبداً مع تفاصيل الزمن الموازي إلّا ببعض المسميات المجردة من أي تشابه فعلي. ففي الزمن الموازي أرواح تحكي آلاف القصص التي تفوق بسحرها قصص ألف ليلة وليلة، بل تفوق كل الأساطير التي تكللت بقصص العاشقين الهائمين عبر الأزمان. هذا الزمن الذي لطالما أخذ حيزاً كبيراً من رحلتي في استكشاف طبيعة الحياة من حولي، فقدر الله استوجب أن أكون على جانب ليس ببعيد عنه، فبعد وعي قليل سأبدأ بإدراكه مع كل حدث وأتجرع فهمه شيئاً فشيئاً، ففي الزمن الموازي، ومع السير على حافته المقابلة، أنت لا تبدأ بعدّ الأيام فيه بالساعات والدقائق البشرية المعهودة، بل مع كل حدث وقصة، وحتى كلمة تأتيك من هناك، ممن سكنوا هذا الزمن؛ مع كل تنهيدة حزن، أو شوق، أو خوف، أو فرح بشعور لم تعهده من قبل، إنه شعور لن يفهمه إلّا من عاش على الضفة المقابلة منتظراً السماح له بالدخول.

بعد ما يقارب العام ونصف من تمسُّكي بحلم احتضنته طويلاً بين جنبات أمل لا أعلم حتى اليوم من أين أتيت به، سُمح لي بزيارة مَن اخترت نفسي شريكة لحياته في الزمن الموازي، فبعد انقطاع طويل لزيارة أهالي الأسرى لأبنائهم في السجون الإسرائيلية بفعل الحجْر الصحي، سُمح لهم، أو بالأحرى "لنا"، وما أجملها من كلمة على الرغم مما تحمله من معاني الألم والأسى في الزيارات أخيراً. هنا كانت لحظة تلاقي الزمانين، لحظة مجنونة تعصف بالطرفين المتقابلين بمشاعر مجنونة متناقضة يغلفها الانتظار، ولكنهما لم يعلما بأن بعد الزيارة الأولى واللقاء الأول، ثم الثانية، وكذلك الثالثة وما بعدها، بوجود محطة انتظار أكثر جنوناً سيبدآن فيها بإتقان أبجديات الانتظار الأكثر قساوة، وبصورة خاصة لدى الطرف الآتي من العالم الطبيعي، فعند دخولك إلى الرحلة لن تخرج منها كما دخلتها.

بدأت رحلتي إلى الزمن الموازي أول مرة صباح يوم الأربعاء الواقع فيه الثامن عشر من شهر آب/أغسطس 2021، لن أسرد تفاصيل الحالة الشعورية في ليلة الرحلة ولا الرحلة ذاتها، فهذا يحتاج إلى حديث يطول.

يوصيني أسامة بعد اعتذار كرّره عدة مرات مع اقتراب الزيارة عن تسبُّبه لي بالتعب والمشقة لِما تحمله الزيارة من عناء لأهل الأسير، فأخبره بأنه لا داعي للقلق ولا حتى التفكير في ذلك، فأنا أصلاً لن أكون في الزمن الطبيعي، بل في زمني الخاص الذي سيحملني إلى اقتحام زمنه الموازي، فأنا لن آبه بشيء سوى بلحظة التقائنا ورؤيته لأول مرة في حياتي، ولو من وراء الزجاج؛ إن هذا، بمجرد حدوثه، هو انتصار حاول السجّان حرمان الأسير الفلسطيني منه. يضحك أسامة ويدعو لي بأن يحفظني الله من جنوني، ثم يوصيني بأن أحاول أن استمتع بالطريق، وبالنظر إلى خضرة أرضنا المحتلة عام 48. عند اقترابنا من سجن جلبوع وأسواره المسيجة بكل منظومات القهر، انتابني شعور أدخلني في فوهة أشبه بثقب أسود ابتلع فيه إحساسي بما يدور حولي، ولم أتمكن من الخروج منه إلّا بعد الزيارة الثالثة تقريباً، فخلال هذه الزيارات كنت أدخل إلى غرفة الزيارة وأخرج كأنني في حلم لم أستوعبه بعد، حتى أنني بعد عودتي من الزيارة الأولى حاولت أن أتذكر ملامح وجه أسامة فلم أستطع، أو حتى ابتسامته، ولا حتى أول كلمة نطق بها عبر الزجاج من دون أن أسمع حروفها منه. بعد عودة وعيي برحلتي إلى هذا العالم بدأت تستحوذ عليَّ التفاصيل الصغيرة وأحاول حتى تحليلها والغوص في أعماقها وعدم هدر أي تفصيل منها، فنحن هنا تحت سطوة وقت السجّان وقهر قوانينه. أشد ما وقع في نفسي وبتّ أعي جيداً بأنني فعلاً أعيش زمناً ليس كالزمن الطبيعي الخارجي، كان في الزيارة التالية لحادثة نفق الحرية، كنت أدرك جيداً ما مورس على الأسرى بصورة عامة من ضغط ومحاولة لتفريغ الغضب الناتج من فشل منظومة الأمن الحديدية التي تتّبعها إدارة السجون وخلفهم حكومة الاحتلال، وعلى أسرى جلبوع بصورة خاصة. في أثناء دخولي إلى غرفة الزيارة لم يكن، وكالعادة، يشغل تفكيري بعد رؤية أسامة سوى الوصول إلى المقعد الأخير في الغرفة، فهو وحده من بين المقاعد الأُخرى الذي يمكنك الجلوس عليه والحصول على شيء من الهدوء. فعلى الأقل سيكون بجانبك مقعد واحد بدلاً من أن تتوسط مقعدين للزيارة وتكون مشاركاً في حديث جيرانك في الزيارة. أمّا الخصوصية فلا وجود لها هناك لأنك مراقَب من عيون السجّانين وكاميراتهم، وما يقابلك من أهالي الأسرى. في أثناء دخولنا إلى قاعة الزيارة علت أصوات صاخبة حسبتها مشكلة بين حارس الزمن الموازي وسكانه، لكن ما ارتسم أمامي كان مشهداً لن تكفي كل أبجديات اللغة لوصفه، فبعد ما عاشه الأسرى بفعل نفق الحرية، كانوا مدركين خوفنا وقلقنا عليهم، وبطريقتهم في الضحك والمزاح بصوت عالٍ، وكذلك وقوف بعضهم على مقاعد الزيارة ومشاكستهم لبعضهم البعض، أخبرونا أن وضعهم على ما يرام ومعنوياتهم تعانق عنان السماء، لكن هيهات!

مجلة الدراسات الفلسطينية من السجن وإليه محرَّرة

تمر الزيارة بعد الأُخرى أحاول فيها استيعاب جنون الوقت الذي لا ينتظرني، وفي زيارتي الأخيرة إلى الزمن الموازي، وهذه المرة في سجن ريمون، وهو المكان الذي بدأت قصتنا فيه، فقد انتقل أسامة ومجموعة من الأسرى إليه في إثر إفراغ سجن جلبوع لإعادة تهيئته ليتناسب مع قبضتهم الحديدية، وقد كانت زيارة مختلفة بكل معنى الكلمة، بدأت بعد تجهيز مسبق لجميع الأغراض والملابس التي يطلبها الأسير، والتي تتفحصها عشرات المرات للتأكد منها، فهذه الفرصة لا تُمنح سوى مرتين في السنة، وهي الشيء الوحيد الذي يُسمح بدخوله من الزمن الطبيعي إلى الزمن الموازي. وكان أهم ما شدد عليه أسامة هذه المرة، لأنها فرصة لا تتكرر، كان المصحف الشريف والعدد 128 من "مجلة الدراسات الفلسطينية" التي يُسمح بدخولها هنا، قبل عدة أيام أتى الأسير محمد أبو طبيخ من سجن نفحة في زيارة إلى القسم المتواجد فيه أسامة وأخبره عن قراءته مقالاً بعنوان "من وحي الميلاد ومذاق السجن" للأسير المحرَّر الأستاذ أمير مخول في هذا العدد من المجلة، وأن جميع الأسرى هناك يتناوبون على قراءة العدد وكأنه صيد ثمين، فرح أسامة بذلك كثيراً وشدد على إحضار العدد قبل أي شيء، حتى أنه لم يسألني خلال الزيارة إلّا عنه من بين الملابس وباقي الأغراض التي سُمح بإدخالها له، فهنا كان الموقف يفيض بالعواطف والدموع ولا مجال للحديث عن شيء آخر؛ للمرة الأولى رأيت دموع أسامة يحاول محاصرتها، لكنها تأبى إلّا أن تتمرد.

في أثناء انتظارنا في قاعة الزيارة جلست، وكالعادة، في المقعد "الاستراتيجي"، كان الوضع مختلفاً ومريحاً أكثر من زيارات جلبوع، فعدد الزائرين قليل وغرفة الزيارة كبيرة جداً وتسمح بمنحنا بعض الفتات من الخصوصية، كان الحائط الملاصق للمقعد يفصل قاعة الزيارة عن قاعة الانتظار الخاصة بالأسرى قبل دخولهم، ولأول مرة سمعت أحاديثهم وتهامسهم بجانبي مباشرة، فشعرت بفرحة عظيمة لا يحظى بها أحد من الزمن العادي، حتى أن أحد الأسرى ألقى ديواناً لإحدى الأغنيات الوطنية، كان موقفاً مهيباً جداً، فها هم بجانبي لا يفصلني عن سنوات حكمهم الضوئية سوى حائط، أستمع إلى أحاديثهم التي كان أسامة يخبرني عنها كثيراً، وبدأت بالبحث عن صوته فلم أنتظر طويلاً؛ ألقى التحية على الأسرى القادمين من الأقسام الأُخرى، وكان أول حديثه عن عدد "مجلة الدراسات"، ابتسمت وطردت دموعي لأستمتع بهذه اللحظة المهيبة، فتابع قوله إنه سيقرؤها ويوزعها على الغرف بالتناوب. بعد لحظة اللقاء، وعلى ما يبدو، بدأت رحلتي باستكشاف هذا العالم؛ ها هو يخبرني أن المقعد الحديدي الذي أجلس عليه والمغاير للمقعد الخشبي في جلبوع هو نفسه الكرسي الذي يجلس عليه الأسرى في البوسطة لساعات طوال، فأخجل من عدم ارتياحي في الجلوس عليه؛ على ما يبدو، هو وسيلة عذاب تمارَس على الطرفين، ثم يطلب مني النظر إلى الباب خلفي لأشاهد مكان "لحام" الحديد فيه، حيث كان أهالي الأسرى يهرّبون منه الهواتف، وغيره من الأشياء التي لم يستوعبها عقلي، فأضحك وأمازحه "لذلك توقف عن نعتي بالمجنونة، فعلى ما يبدو، جميع أهالي الأسرى يتملكهم جنون من نوع خاص يجب على علماء الزمن الطبيعي اكتشافه."

تنتهي الزيارة لتصل إلى مشارف حدود الزمن الطبيعي، يتملكك لحظتها شعور بالاختناق وعدم الرغبة في العودة إلى العالم المجنون، بأحداثه وخلافاته وكوابيس الانتظار فيه، لكنه شعور العجز وليس غيره يتملك أيام انتظارك، يحاصر ليالي صبرك، يتربص بها، فالقرار لك وحدك في معركة الليل الطويل، فلا خيار لك هنا إلّا أن تحاربه، متسلحاً بفرحة مسروقة تحرّرها من عالمك الموازي هناك.

عن المؤلف: 

منار خلاوي الأشقر: من بيت لحم، تعمل في مجال الإعلام وتتابع قضايا الأسرى منذ طفولتها. شاءت الأقدار والقلوب أن ترتبط بالأسير أسامة الأشقر ابن قرية صيدا، قضاء طولكرم، والمحكوم بالسجن المؤبد ثماني مرات وخمسين عاماً، فعقدا قرانهما، وبدأت تزوره في السجن. للاطّلاع على قصتهما الملهمة، نلفت النظر إلى أنها موثّقة في الكتاب المشوّق "للسجن مذاق آخر" للأسير أسامة، وفيه فصل عن منار.