تشهد بلدة بُرقة، الواقعة شمال غربي نابلس موجة متصاعدة من الأحداث خلال الأعوام الماضية، في إثر مواصلة المستوطنين السيطرة على جبل القبيبات منذ سنة 1978م، ومنعهم الأهالي من الوصول إلى أراضيهم، على الرغم من صدور قرار من "المحكمة الإسرائيلية العليا" سنة 2013 بردّ الأرض إلى أصحابها، وذلك في محاولة منهم لإعادة بناء "مستعمرة حومش" التي أُخليت في سنة 2005.
وقد تصاعدت موجة الأحداث في الأسابيع الأخيرة، في إثر عملية إطلاق النار التي نفّذها فلسطينيون في السادس عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2021، ضد روّاد البؤرة الاستيطانية، الأمر الذي دفع بغُلاة الاستيطان إلى مهاجمة قرية بُرقة عدة مرات. وهنا تجلى معدن أهالي القرية في الوقوف بصورة جماعية وصدّ هجمات المستوطنين لحماية منازلهم، واستحضر الأهالي إرثهم وتاريخهم النضالي وما تميزوا به عبر أعوام النضال الطويلة.
الجنة التي في الدنيا
"ذهبت في هذا الصباح إلى قرية ‹بُرقة› وهي واقعة على قمة جبل بين جنين ونابلس.. كان الطقس جميلاً وقد اخضرت الأرض، والأرض أجمل ما تكون حين يكون الزرع في أول نموه، والمدرسة قائمة في مكان مرتفع من القرية تطل على منظر فتّان رائع، ما أسعد مَن يسكن هذه القرية فكأنه تعَجّلَ الجنَّة في هذه الدُّنيا.. وإذا أردت أن أتصور الجنة التي وُعِدَ بِها المُتّقون تصورتها قرية جميلة نظيفة على قمة جبل تحيط بها الجبال وتنبسط أمامها السهول.." هكذا وصف المربي خليل السكاكيني قرية بُرقة عندما زارها في 26/1/1935.[1]
في الشمال الغربي من مدينة نابلس تقع قرية بُرقة على بُعد 18 كلم، مُشرفةً على طريق نابلس- جنين، ويستند ظهرها إلى الجبال العالية التي تطل على أجمل المناظر، حيث الأودية والسهول الممتدة جنوباً، وعلى مرأى من القرية تتوزع القرى العربية بين التلال وعلى أطراف الجبال العالية.[2]
وهي قرية قديمة جداً، ولموقعها بجوار المدينة الأثرية سبسطية دلالة وأثر، ولذا ظلت طوال الوقت آهلة وعامرة، بحسب ما تشير التنقيبات والحفريات التي يجريها الهواة وجامعو اللقى الأثرية. وفي محيط القرية اكتُشف مبنى من القرن الخامس الميلادي يُعتقد أنه كان منزلاً سكنياً."[3]
يُقال إنها سُميت بهذا الاسم لأن حجارتها برّاقة بفعل جريان الماء عليها، أو لأن أرضها ذات حجارة وتربة يغلب عليها البياض، وفيها حجارة حمراء وسوداء؛ "وبرقه قرية خضراء كثيرة الينابيع وعيون الماء، ويستفيد الأهالي من عيون الماء في ريّ أشجارهم وخضراواتهم، ويرِد إليها بعض أهالي القرى المجاورة عندما تنضب مياه آبارها.[4]
وكان امتداد القرية الجنوبي نحو الشارع العام أخضر اللون ومغروساً بالأشجار والخضراوات طوال العام، ولطالما كان مشهده ساحراً للمارة من تلك الطريق، بحسب كبار السن. وقد زار القرية الكاتب نجيب نصار وكتب عنها في صحيفة الكرمل سنة 1925، وذكر أن فيها: "سبعة آلاف شجرة زيتون، وقد غرس الأهالي منذ الاحتلال إلى بدء هذا الموسم ثلاثة آلاف غرسة جديدة، ويقدّرون ما غُرس وما سيُغرس في هذه السنة بأربعة آلاف غرسة.."[5]
تحضر بُرقة وذكرها في محطات كثيرة في التاريخ الفلسطيني، فنجد مثلاً أن القائد صلاح الدين الأيوبي مرّ بها في طريقه إلى جنين وبات ليلته عند مدخلها في المكان المُسمى الفريديس (حوض الفريديس)، وذلك في ليلة 8 شوال 588هـ. وقد وصف صاحب كتاب "الفتح القُسي في الفتح القدسي" هذه الزيارة بقوله: "ورحلنا بعد الظهر من نابلس وبتنا ليلة الأحد عند عقبة ظهر حمار، بموضوع يعرف بالفريديسة، ورتعنا في مروجها الأنيسة وأصبحنا راحلين ونزلنا على جنين."[6]
كما كانت البلدة حاضرة في الأحداث السياسية والاجتماعية في فلسطين وبلاد الشام لفترات طويلة، ولمع من أبنائها عدد من أهل العلم والسياسة والحكم خلال عقود طويلة، وتوزع أبناؤها وانتشروا في بلاد الشام، وتولى بعضهم مناصب مرموقة. وذكر المؤرخ الفلسطيني مصطفى الدباغ عدداً منهم وعدّد مآثرهم في "موسوعة بلادنا فلسطين".[7]
كانت قرية بُرقة جنة عامرة طوال الوقت، تغذي الحياة فيها كثرة الينابيع المتدفقة، وإطلالتها الجميلة، ووقوعها على جانب طريق تاريخي مهم، وفوق كل ذلك، طيب شمائل أهلها.
أهل بُرقة ملاح.. بس زعَلْهُم عاطل
يُقال إن الثائر البرقاوي أحمد أبو بكر كان معلماً يدرّس في قرية سخنين، ثم قرية شعب، وأنه كان مقبلاً على التعليم ومنشغلاً به، غير أن الإنكليز أهانوه حين أجبروه على إحناء ظهره ليعمل عتّالاً يحمل أكياس القمح التي انتُزعت بالقوة كغرامة من فلاحي قرية شَعب. يومها، غضب أبو بكر ورمى كراسات التعليم، وانطلق وزميله عبد الله السيلاوي نحو فصيل أبو إبراهيم الكبير ليلتحقا بالثورة.[8]
هذه القصة كانت الحدث المفصلي في سيرة المعلم الثائر أحمد أبو بكر، لينتهي به الأمر في نهاية المطاف قائداً عاماً للثورة، خلفاً للشهيد عبد الرحيم الحاج محمد الذي اغتيل في 27 آذار/مارس 1939م. وصحّ فيهما القول: (برقاوي مطرح برقاوي)، في إشارة إلى أن أصول الشهيد عبد الرحيم الحاج محمد تعود إلى عائلة سيف من قرية بُرقة.[9]
بين سيرة القائدين عبد الرحيم الحاج محمد وأحمد أبو بكر تاريخ كبير من الكفاح والصلابة في المواجهة، ذلك أن بُرقة كانت حاضرة على الدوام في نضالنا ضد الاستعمار والصهيونية، وظل دم الشهداء يُذكي روح بُرقة الثائرة ويوجّه غضبها صوب الاحتلال، حتى أنها تعدّ ثمانية وخمسين من أبنائها شهداء في ثورات فلسطين، بدءاً من ثورة البُراق سنة 1929، وصولاً إلى معارك جبل القبيبات في الوقت الحاضر. أمّا الجرحى والأسرى من أبناء القرية، فهم أكثر من أن يُحصى عددهم ويُذكر رقمهم، وقد صودف وجود 70 معتقلاً في السجن في الوقت ذاته من بُرقة، ولبعضهم أحكام عليا من المؤبدات.[10]
الجمهورية المستقلة
تُعتبر الحادثة الأبرز في تاريخ بُرقة المعاصر تلك التي حدثت في فعالية يوم الأرض (30 آذار/مارس 1988)؛ يومها، وقف عدد من نشطاء الانتفاضة أمام أحد محلات القرية (ملحمة أسامة حامد) وأعلنوا أمام الحضور أن قرية بُرقة أصبحت من تاريخ اللحظة "جمهورية حرة مستقلة". وراح شباب الانتفاضة يعلّقون الأعلام على أعمدة الكهرباء، ويخطّون الشعارات على الجدران، ويتوجهون إلى الطريق العامة لإغلاقها بالمتاريس والمسامير المعقوفة التي تعطّل إطارات سيارات الجيش والمستوطنين. الأمر الذي سعى الاحتلال لقمعه ومنعه من التحول إلى ظاهرة عامة، عبر اقتحام بُرقة المتكرر واستخدام القوة المفرطة في قمع التظاهرات والمواجهات التي تجري بالقرب من الشارع العام (نابلس- جنين)، كما قام جيش الاحتلال بدهم المنازل واعتقال العشرات من أبناء القرية.[11]
يروي الأهالي حكاية عن محاولة الجيش قمع بُرقة وإنهاء حالة العصيان فيها، وذلك حين حاول اعتقال بعض المطارَدين في الانتفاضة الاولى، فتمكن يومها من اعتقال اثنين منهم عند عين الدلبة، ولما وصل الجيش إلى وسط القرية لمغادرتها، انتبهت إحدى السيدات (مريم السليم، أم حكمت)، وصاحت تُنادي شباب بُرقة، فهجموا على الجيش وجرت مواجهات عنيفة في وسط القرية.
حاول جيش الاحتلال صدّ الشبان الذين أمطروه بالحجارة، لكنه فشل في ذلك، فاقتحم المسجد، حيث احتمى جنوده بكبار السن الذين كانوا يصلّون هناك، وطلب منهم الجيش التدخل لإخراج جنوده من القرية، فقبل الأهالي ذلك في مقابل إطلاق سراح الشابين اللذين تم اعتقالهما. وفعلاً، أفرج عنهما، فسمح الشبان للجنود بمغادرة القرية أحياء.
ولعل واحدة من أشهر القصص في القرية أيضاً، هي حادثة رجم موكب شمعون بيرس على الشارع الرئيسي (نابلس- جنين) بالحجارة، حيث شاهد الشباب، يومها، موكباً للسيارات قادماً من طريق نابلس - جنين، فهاجموه بقوة وأمطروه بالحجارة. غير أن الموكب لم يتوقف نهائياً، وعلى بعد مسافة مُطلة توقفت السيارات ونزل منها شمعون بيرس، وتناقل الناس حينها عن لسانه تعجُّبه مما حدث، إذ عبرت سيارته طوال الطريق من القدس ولم يعترضها أحد إلّا أهالي بُرقة.
حالة ثورية مستمرة
مشهد المواجهات في قرية بُرقة واستعداد الشباب لصدّ أي هجوم للمستوطنين، والإصرار الدائم على استرداد جبل القبيبات يقودنا إلى مقارنة حالة بُرقة بتجربة بلدة بيتا جنوبي نابلس، فمن الواضح أن هناك قاسماً مشتركاً بينهما. وهما تشكلان نموذجاً مهماً في المقاومة ورفض الاستيطان.
في حالة بُرقة، كما في حالة بيتا، إن التضحيات اليومية وتقديم الشهداء في الهبّات والمواجهات الدائمة منذ أولى الهبّات والثورات في فلسطين في الربع الأول من القرن العشرين حتى اليوم، هي التي تجعل نبض الشباب اليوم شجاعاً في رفض الاستيطان ومواجهته، وهو نموذج فريد تتشابه به عدة بلدات وقرى فلسطينية، وهو جدير بالتوثيق والدراسة.
[1] "يوميات خليل السكاكيني"، تحرير أكرم مسلم، الجزء الثالث (رام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية؛ مركز خليل السكاكيني، 2006)، ص 35.
[2] مصطفى مراد الدباغ، "موسوعة بلادنا فلسطين"، القسم الثاني، الجزء الثاني (كفر قرع: دار الهدى، 1991)، ص 414.
[3] عيد حجاج (ترجمة ومطالعة)، "كل أثر ومكان في فلسطين"، الطبعة الأولى، الجزء الأول (عمّان: الجامعة الأردنية، 1990)، ص 127-128.
[4] الدباغ، مصدر سبق ذكره، ص 414- 418؛ مقابلات شفوية بتاريخ 4/1/2022 مع كلّ من جهاد دغلس، من مواليد 1948م، وتيسير أحمد علي، من مواليد 1950م، ونجوات عامر عمر، من مواليد 1959م.
[5] تيسير خلف، "فلسطين في عشرينات القرن العشرين"، في "موسوعة رحلات العرب والمسلمين إلى فلسطين"، الجزء السابع (دمشق: دار كنعان، 2010)، ص 120-121.
[6] الدباغ، مصدر سبق ذكره، ص 420.
[7] المصدر نفسه، ص 417.
[8] د. مصطفى كبها، د. نمر سرحان، "سجل القادة والثوار والمتطوعين لثورة 1936-1939" (كفر قرع: دار الهدى، 2009).
[9] مقابلات شفوية أُجريت بتاريخ 30/12/2021 مع كلّ من: مفيد شاكر أبو عيد، من مواليد 1948م، وشريدة محمد شريدة رمضان، من مواليد 1950م.
[10] مقابلات أُجريت بتاريخ 30/12/2021 مع كلّ من: مفيد شاكر أبو عيد، من مواليد 1948م وشريدة محمد شريدة رمضان، من مواليد 1950م، وشادي زاهي أبو عمر، من مواليد 1984م.
[11] هذه وما بعدها مقابلات شفوية أُجريت بتاريخ 30/12/2021 و 4/1/2022 مع كلّ من: مفيد شاكر أبو عيد، من مواليد 1948م، وشريدة محمد شريدة رمضان، من مواليد 1950م، وشادي زاهي أبو عمر، من مواليد 1984م، وحسين عمر مسعود، من مواليد 1962م، وسمير حجة أبو معتصم، من مواليد 1960م، وجهاد حجة، من مواليد 1957م، وجهاد دغلس، من مواليد 1948م، وتيسير أحمد علي، من مواليد: 1950م، ونجوات عامر عمر، من مواليد 1959م، وعماد أحمد سيف، من مواليد 1970م.