عن قرّائي الصغار الذين يبحثون دائماً عن فلسطين
التاريخ: 
04/01/2022
المؤلف: 

عندما كتبتُ روايتي الأولى للفتيان، ظل الأولاد والبنات يبحثون فيها عن فلسطين: في أسماء الأماكن، وفي أسماء الأبطال: في عيونهم وكلماتهم وحركاتهم، في الشوارع والحقول، وفي البيت الخشبي الذي بنيته فوق الشجرة، وفي زمان الرواية المفتوح أيضاً. 

وفي كل لقاء يتعلق بالكتاب، في مدرسة أو نادٍ في الضفة الغربية، كان الأولاد والبنات يسألونني: "نُزل الذرة الصفراء" هي فلسطين؟ هل "سكارميتا" هي فلسطين؟ وآنا، آنا بنت فلسطينية؟ ومينا، مينا فلسطينية، وأوغاد الذرة الصفراء أعداؤها؟ صحيح؟

وكنت أهرب دائماً بالإجابة الدبلوماسية ذاتها: هذه ليست فلسطين وهؤلاء ليسوا فلسطينيين، لكن هذه العوالم من الممكن أن تكون فلسطينية وهؤلاء الأبطال من الممكن أن يكونوا فلسطينيين، كما أن هذه الحكايات مفتوحة لتعكس حالة قضايا كثيرة في العالم، إنها قصص أمكنة وأزمنة، بعضها وُجد وبعضها لم يوجد. 

لم أعرف ما إذا كانت إجابتي هذه مقنعة للأولاد والبنات، لكنها كانت المخرج الوحيد الذي كنت أهرب، بواسطته، من هذه الأسئلة المصرّة دوماً على ربط كلماتي بشمس واحدة اسمها فلسطين، وكأن فلسطين هي شرط الكتابة الوحيد لنا، نحن الفلسطينيون، هنا في فلسطين. 

هل أردت أن يكون النص أكبر من المكان. وهل خبأت الزمان - متعمداً - حتى تظل الرواية عابرة بين المدن والناس، في أي عالم كانوا. في الأغلب، هذا ما فكرت فيه، ليس بدافع الهروب، لكن بدافع آخر، شخصي ربما، وهو أنني أريد أن أكون روائياً، كنت أهمس لنفسي: أنا روائي، نسّاج حكايات ومدن وأزمنة، وبنّاء عوالم أصنعها بيدي، مثلما يبنى طفل قلعته من حجارة صغيرة في الحقل، أو من رمل على شاطئ البحر، أستطيع أن أبني فلسطين، وأستطيع أن أبني عالماً آخر هنا في كلماتي، عالماً وُجد، وعالماً لم يوجد.

لقد كنت أريد أن أختبر "صنعتي"، لكن في الوقت نفسه كانت هناك قضية أُخرى، وهي في معنى القراءة: 

كنت أعترض على تاريخ من "القراءة" نتعلمه في المدارس والبيوت، وخصوصاً الأطفال والفتيان، "قراءة" أن كل ما يُكتب في فلسطين لا يُقرأ إلّا في فلسطين.

لقد علمتنا القراءة المدرسية -على ما يبدو - أن نعيد كل الأشياء إلى فلسطين، فلسطين عدسة القراءة الوحيدة، وكل ما تحتها سنرمز إليه بفلسطين ونقيضها؛ وبهذا، حقول "الذرة الصفراء" هي فلسطين دائماً، والأوغاد الذين كانوا يسمّمون الذرة هم الأعداء.

لكن يمكن لحقول الذرة الصفراء أن تكون حقولاً، ويمكن للأوغاد ألّا يكونوا أعداءنا، وهنا كنت أسجّل اعتراضاً آخر على معنى الروائي:

 كيف أكون مكشوفاً بهذه السهولة؛ لماذا تقرأون كل شيء بهذه الشمس؛ لماذا لا تبحثون في درس الكتابة والتعبير عن مقاربات أُخرى، وقراءات أُخرى؛ لماذا تصير كل النصوص واحدة؛ ولماذا يكون القارئ واحداً؛ ولماذا أكون، أنا الروائي، واحداً في طريق واحدة: كل ما أكتبه هو فلسطيني.

إنني أعترض: "لا تقتلوا الروائي الكامن فيَّ أيها الأولاد والبنات". 

يعود القرّاء (الصغار) ويبحثون عن فلسطين، غالباً، في كل نص؛ لقد اعتادوا ذلك، أين تعلموا هذا؟ لقد رأونا نفعل ذلك، في المدارس والبيوت، وقبل ذلك، إنهم يعيشون "فلسطين" كل يوم، في المدرسة والبيت والشارع، وعلى الحاجز، وفي التظاهرة.

إنهم يعيشون الصراع بين فلسطينهم ونقيضها، ويأخذون ذلك إلى كل شيء، وطبعاً إلى عالم القراءة.

ما الذي يمكن أن يفعله ذلك في معنى القراءة، وفي دور القارئ، هل يقتل ذلك القارئ: الباحث، الناقد، المفكك، المحقق، فتصير وظيفته عتّال رموز جاهزة، يتركها في كل نص فتخرج فلسطين.

يربط الأولاد والبنات بين ما يقرأونه وعالمهم: أحلامهم، مشكلاتهم، وطنهم؛ وهنا في فلسطين يغدو ذلك مضاعفاً، وخصوصاً أن وطنهم حادث يومي يعيشونه: الطفل يقف على الحاجز، ويستشهد وهو في الطريق إلى المدرسة، ويهدمون بيته، ويسجنونه، ويأخذون والده إلى السجن. 

وهنا يغدو الأولاد والبنات أمام طريقين: كل نص هو فلسطينهم، تاريخ من القراءة يعلمهم ذلك. وطريق ثانية: أن يربطوا بين حياتهم وحياة الآخرين في الرواية، بين أرضهم والأرض في الرواية، لكن هذه الأرض ليست فلسطين دائماً، وهؤلاء الأبطال ليسوا فلسطينيين دائماً. والروائي "يحفّز" القارئ ولا يقتله، والقارئ حر ولا يستهين بقدرات الروائي: إنك مكشوف دوماً، إنني أفهمك حتى قبل أن تكتب.

في روايتي الأحدث، كتبتُ عن ولد من فلسطين، يعيش في مخيم قرب رام الله، الولد فلسطيني وصاحبه، والبنت التي يحبّانها "الإثنان" لاجئة من بيت نبالا؛ لم أخبئ شيئاً، مثل البطل في الرواية الذي كان يخبئ اسم البنت التي يحبها تحت كلمة فلسطين.

إنه يستعين بفلسطينه ليخبئ اسم حبيبته خلفها في قصيدته، لا يستطيع أن يترك اسمها فتراه أمه التي تبحث عن قصائده دوماً.

هذا الولد نفسه خارج الرواية هو مَن يقرأ: اسم الحبيبة في روايتي "فلسطين". وحبيبها "هو" الولد الفلسطيني.

أيها الولد: اكتب ما تشاء كيفما تشاء، واقرأ ما تشاء كيفما تشاء، لكنني سأعترض إن قلت عن أبطالي، الذين صنعتهم، إنهم  فلسطينيون إن لم يكونوا فلسطينيين، فأنا روائي وأريد أن أجرب نفسي وأدخل في مغامرات جديدة، وأن أعود  إلى بيتي، وأمرّ بالحاجز، وأكتب عن أمور أُخرى غير الحاجز، ليس هروباً من فلسطين، لكن حتى أظل روائياً: روائي فلسطيني يكتب عن فلسطين والعالم، ويخلق عوالم أُخرى يحلم بوجودها على الكوكب، وتظل أنت قارئاً حراً لا يحمل رموزاً جاهزة ومقاربات جاهزة وأجوبة جاهزة، يلقيها على كل نص، مثل عصا سحرية، فتخرج فلسطيننا، شمسنا "نحن الإثنان".

 أتمنى أن تفهمني، إنني أفهمك. إنني أكتب من أجلك، مثلما أكتب من أجلي أيضاً. 

عن المؤلف: 

أنس أبو رحمة، شاعر وكاتب للأطفال والفتيان والفتيات.