ماهر الشريف. "المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة (1908 - 1948)".
بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020. 326 صفحة.
أبحاث المؤرخ والباحث ماهر الشريف تولي الفكر والثقافة وحراكهما نحو التطور، وما اعتراهما من كبح وإخفاق، حيزاً كبيراً. فعلى جاري عادته نقّب الشريف بتأنٍّ في صفحات التاريخ بحثاً عن المستور والمسكوت عنه، محاولاً استخراج كل إضاءة في التراث تتواءم مع الحاجة إلى تطور وتطوير الفكر والتفكير السياسي والاجتماعي التحرري راهناً. وهو ربما لم يقل ذلك مباشرة، لكن رسالته التي تعبّر عن اهتماماته كمفكر تحرري تقول ذلك، والشاهد عناوين أبحاثه وكتبه: "رهانات النهضة في الفكر العربي"؛ "تيار الإصلاح الديني ومصائره في المجتمعات العربية"؛ "دراسات في الدين والتربية وفلسطين والنهضة"؛ "دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني"؛ "التراث الثقافي الفلسطيني"؛ "مقدمة في تاريخ فلسطين الاقتصادي والاجتماعي"؛ "قرن على الصراع العربي الصهيوني: هل هناك أفق للسلام"؛ وأخيراً بحثه المميز والكبير الأهمية بعنوان: "المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة (1908 - 1948)". إن ما قدمه الشريف في كتابه الأخير ينطوي على مقاربة مع خبرة الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا في كتابه "الطريق الطويل إلى الحرية"، من زاوية التوقف عند المساهمات التاريخية المهمة والأخطاء لدى مختلف الأعراق والقبائل التي يتكون منها المجتمع الجنوب أفريقي، والتي لخصها مانديلا باستلهام التطور السابق في الفكر والممارسة، والذي أوجد من خلاله أساساً راسخاً استطاع حزب المؤتمر الأفريقي أن يبني فوقه الكثير، وأن يحقق الفوز، ولولا ذلك لكان التحرر أضعف وأصعب. وبالمثل، بنى الشريف جسوراً تربط الفكر التحرري السابق بالفكر الراهن الذي يواجه استعصاءات جمة.
مشروع حداثي لم يكتمل
سؤال البحث الرئيسي دار في فصوله العشرة حول امتلاك فلسطين مشروعاً حداثياً تحررياً في ذلك الزمان، وما هي ركائزه، وهل شق طريقه إلى المجتمع أم إنه تعثر وتراجع؟ فالمعطيات التي قدمها الشريف في بحثه تبيّن وجود ذلك المشروع الذي حملته نخبة مثقفة في تلك الحقبة الزمنية الممتدة من سنة 1908 إلى سنة 1948.
كانت فلسطين جزءاً من مشروع نهضوي حداثي عربي ارتبط بتحولات اجتماعية ثقافية في العهد العثماني، وتأثر بحداثة الغرب وتنويره وثقافته ومدنيته كأفكار جان جاك روسو ونيتشه وبرتراند راسل وأدب تولستوي، كما تأثر بأفكار رواد النهضة العربية أمثال رفاعة الطهطاوي وناصيف اليازجي وبطرس البستاني وخير الدين التونسي وفرح أنطون وطه حسين وغيرهم، وبتيار الإصلاح الديني أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وبالتراث الأدبي للمتنبي وأبي تمام، وبما كتبه فلاسفة متنورون من رموز الحضارة الإسلامية العربية أمثال ابن رشد والبيروني وابن سينا والكندي والفارابي وغيرهم، وبالفكر الماركسي وبثورة تشرين الأول / أكتوبر 1917 الاشتراكية.
فكر سياسي تحرري
المشروع الحداثي بدأ بتبنّي فكر حداثي تحرري بالمعنى الوطني والاجتماعي، وكان أهم ما ميز هذا الفكر سياسياً محاربة الاستعمار والمشروع الصهيوني اللذين مارسا الاضطهاد والنهب والهيمنة والتمييز وحرمان الشعب الفلسطيني. فالموقف من الاستعمار البريطاني لدى النخبة الثقافية كان مميزاً على الرغم من ارتباك موقف بعض المثقفين حين راهنوا على تغيير في الموقف البريطاني، في الوقت الذي تفهّم البعض الآخر سياسة لجوء القيادة التقليدية إلى دول المحور، وتحديداً ألمانيا النازية، في أثناء الحرب العالمية الثانية. لقد كان موقف النخبة الثقافية جيداً مقارنة بموقف القيادة التقليدية التي هادنت الاستعمار البريطاني معظم الوقت، وغامرت بورقة عدو عدوي صديقي مع دول المحور. فالمثقفون الأكثر وعياً حددوا موقع الشعب الفلسطيني في خندق تحرر الشعوب المناهضة للفاشية والنازية والاستعمار، وسرعان ما تراجع الذين أخطأوا التقدير، وأعادوا التأكيد أن أصل المشكلة هو الاستعمار البريطاني، وواصلوا فضح السياسات الاستعمارية.
وجاء الموقف الجذري من الصهيونية عبر دراسات محمد روحي الخالدي ونجيب نصار، ومن خلال الكتابات في صحف "الاتحاد" و"الغد" و"مرآة الشرق" و"المهماز" وغيرها. لقد أكسب هذا الأمر الفكر السياسي النهضوي قوة وصدقية، وذلك عندما عرّفت تلك الدراساتُ الصهيونيةَ بأنها حركة رأسمالية استعمارية مرتبطة بالاستعمار البريطاني والعالمي، ودحضت مقولاتها عن الديمقراطية، وعن دورها في نشر الرخاء والازدهار الاقتصادي، وكذلك انتحالها توجهات اشتراكية، وتمثيلها للمدنية والعمران في مقابل الصحراء والخراب الذي زعمت وجوده في فلسطين. وميز الفكر السياسي للنخبة الثقافية بين الحركة الصهيونية التي ناصبها العداء وبين اليهود كجزء من المجتمعات العربية، في وقت كان الفكر السائد يدمج اليهود بالصهيونية ويناصب اليهود العداء لمجرد كونهم يهوداً. لقد رفض الفكر النهضوي اضطهاد اليهود ورفض دمجهم في المشروع الصهيوني، ودعا إلى حل المسألة اليهودية حلاً ديمقراطياً خارج فلسطين، وتحديداً في الدول التي كانوا فيها عرضة للاضطهاد. كما دعا البعض إلى فصل اليهود عن الصهيونية وجذبهم إلى النضال الفلسطيني، وإلى تعريف مستقبل الأقلية اليهودية في فلسطين، وتأمين حقوق ديمقراطية لهم، الأمر الذي يؤكد المضمون الديمقراطي للفكر السياسي الذي بلورته النخبة.
وانسحب فكر الحداثة على تقييم القيادة السياسية التقليدية النافذة التي وقفت على رأس الحركة الوطنية حتى النكبة في سنة 1948، والمكونة من الملّاك العقاريين وكبار التجار والعائلات المتنفذة، الذين كانوا ينحازون إلى مصالحهم ولا يأبهون لمصالح السواد الأعظم من الفلاحين. فالهيئة العربية العليا كانت مكونة من الشريحة العليا للمجتمع (كبار ملّاك وأرستقراطيو مدن) بواقع 28 شخصاً من أصل 32، وأربعة أشخاص ينتمون إلى البرجوازية، بينما لم يمثل الفلاحين والعمال أي عضو. وقد اعتمدت القيادة على الولاءات الدينية والطائفية والعائلية على حساب الولاء للوطن، واعتبرت الهويات الفرعية أهم من الهوية الوطنية. وفي مقابل ذلك اعتمد فكر النخبة الثقافية على الولاء للوطن والهوية الوطنية الجامعة، وقدم خطاباً وطنياً يربط الوطن بالشعب المدافع عنه وعن حقوق المواطنة، كما حدد أعداء الوطن بالاستعمار والصهيونية وملّاك الأراضي الذين يبيعون الأراضي للحركة الصهيونية والسماسرة وكل مَن يعمل ضد مصالح الشعب. وربط فكر النخبة القيادة التقليدية بالنظم العربية التقليدية التابعة للإمبريالية، وميز بين الأنظمة والحكومات العربية المتحالفة مع الاستعمار وبين الشعوب العربية حليفة الشعب الفلسطيني. وتوقف المثقفون عند مغزى قرار جامعة الدول العربية تشكيل الهيئة العربية العليا (قيادة فلسطينية) في سنة 1946، والذي كان يعني سيطرة النظام العربي على القرار الفلسطيني، إذ كانت القيادة التقليدية تتناغم مع المواقف العربية في جميع رهاناتها على الاستعمار البريطاني، بينما رفض المثقفون تدخّل الزعامة العربية في إنهاء إضراب سنة 1936.
يُستنتج ممّا تقدم أن الفكر السياسي للنخبة الثقافية الفلسطينية ينتمي إلى الحداثة، وكان في الاتجاه الصحيح، ومنسجماً في حلقاته الدولية والعربية والمحلية الفلسطينية باستثناء بعض الاختلالات التي كان يتم تداركها بعد تبيان خطئها. وكان من شأن هذا الفكر وضع الشعب الفلسطيني في خندق الثورة والشعوب المناضلة من أجل تحررها بالمستوى الموضوعي والذاتي، وليس بالمستوى الموضوعي فقط. وهنا، يمكن التوقف عند مسألتين لم يتطرق إليهما البحث بشكل مباشر، الأولى: مسألة الدولة الفلسطينية وعلاقتها بالتحرر وتقرير المصير، فالدولة الفلسطينية لم تُطرح إلّا في أثناء صدور قرار التقسيم الدولي الذي اعتمد إقامة دولتين: واحدة فلسطينية، وأُخرى دولة يهودية على أرض فلسطين التاريخية، في الوقت الذي احتل بناء الدولة الصهيونية مركز الفكر الصهيوني في الدعاية والبناء على الأرض. كما غابت الدولة في فكر النخبة الثقافية الفلسطينية - باستثناء الشيوعيين، وخصوصاً بعد قرار التقسيم - واستعيض عنها بهدف "صراع البقاء"، وهذا الغياب له صلة بغياب الدولة في فكر النهضويين العرب في أواخر السيطرة العثمانية، والذين دعوا إمّا إلى إصلاح الدولة العثمانية، وإمّا إلى دولة عربية تضم جميع الأقطار، وفي أقل تقدير دولة في بلاد الشام والعراق. وهذا الموقف نفسه اتّبعه النهضويون الفلسطينيون، بل إن بعضهم اعترض على شعار فلسطين للفلسطينيين، متجاهلاً أهمية الدولة الفلسطينية في استكمال بناء التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية والكيانية الفلسطينية، في مواجهة عملية منهجية لإقصاء وتفكيك بنية المجتمع الفلسطيني من طرف الصهيونية المدعومة من الاستعمار البريطاني. واستمر التجاهل في الفكر الفلسطيني مع أن الدول العربية اتجهت نحو الاستقلال وتطوير كياناتها عبر الدولة. إن ضعف الاهتمام الفلسطيني بالدولة لا يزال قائماً حتى الآن، ولا يغير من تجاهل الدولة تبنّي القيادة السياسية لحل الدولة الفلسطينية منذ سبعينيات القرن الماضي، لأن هذا التبنّي لم يعبّر عن وعي سياسي بأهمية الدولة، ولم يكن نتاجاً لتطور في الفكر السياسي الفلسطيني، وإنما كان موقفاً براغماتياً محضاً. إن الموقف المبدئي السلبي من الدولة، والهرولة إلى الدولة الواحدة بالتشارك مع الأبارتهايد الكولونيالي الإسرائيلي، يجسدان راهناً هذا الخلل.
المسألة الثانية التي لم يتطرق إليها البحث هو الموقف السوفياتي من المشروع الصهيوني خلال سنوات 1947 و1948 و1949، كما أنه لم يُجب عن أسئلة من نوع: لماذا لم يمنع الاتحاد السوفياتي التطهير العرقي؟ ولماذا اعترف بدولة إسرائيل التي ضمت أراضي الدولة الفلسطينية، ولم تلتزم بالقرارات الدولية التي وقّعها الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً قرار عودة اللاجئين الذي يحمل الرقم 194؟
التأسيس لمدنية حديثة
لخّص قسطنطين زريق الهزيمة والنكبة بتفوق نظام صهيوني حديث قائم على المدنية الحديثة والذهنية المتطورة المتوثبة التي تعيش الحاضر والمستقبل، على نظام تقليدي فلسطيني بذهنية بدائية تعيش على الماضي. وهذا الاعتراف يشكل مدخلاً لتجاوز المفهوم التقليدي للصراع الذي يقتصر على التفوق العسكري في رؤية الهزيمة والنصر، أو على تحميل مسؤولية الهزيمة لمؤامرة خارجية فقط لا غير. فالصراع بمفهوم فكر الحداثة القائم على العلمانية والعقلانية والإنسانية وقيم الحرية والمواطنة والديمقراطية والعدالة والعمل المنتج، يستند في الواقع إلى مستوى تطور المجتمعات. لقد استخلص فكر الحداثة حقيقة أن الجهل والتخلف وروافعهما الاجتماعية، كانت حلفاء الاستعمار سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ولذا ربط الحداثيون محاربة الجهل والتخلف والرجعية، بمحاربة الاستعمار والمشروع الصهيوني، وبهذا المعنى جرى ربط التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي وببناء مجتمع مدني ديمقراطي تسوده العدالة.
أخذ المثقفون على عاتقهم توسيع أفق التفكير في إزالة القيود المفروضة على العقل، والتي من شأنها غلّ الفكر وبقاء التعصب، ووضعوا نصب أعينهم التصدي للمشكلات الاقتصادية، وإغناء الثقافة وتوجيه التعليم ومحو الأمية، وإحياء كل ما هو صحيح ومفيد في التراث. فلجأوا إلى المقارنة مع دول الغرب ومع المشروع الصهيوني، وكان سؤالهم المطروح بقوة هو لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب والمسلمون؟ ولماذا يتقدم المشروع الصهيوني ويتأخر المشروع العربي؟ وهو سؤال دفعهم إلى التوقف ملياً عند أسباب تقدم الغرب في مجال العلوم والتعليم والصناعة والقانون والفنون، وإلى الأخذ بمفهوم الحضارة الدوارة التي تجيز الأخذ من حضارة الغرب، بمثل ما أخذ الغرب من حضارة الشرق. وهذه المحاكاة اكتسبت صدقيتها بمحاربة الظاهرة الاستعمارية، وفي الوقت نفسه، بربط الحداثة بالأصالة الكامنة في تراث الشعوب العربية.
وفي مجال آخر، ركز المثقفون على المعنى الروحي للأديان، معارضين التعصب والتمييز والطائفية. فقد انتقد خليل السكاكيني الإكليروس اليوناني المستبد المسيطر على الكنيسة الأرثوذكسية، وفنّد المثقفون مقولة حماية الاستعمار البريطاني للمسيحيين الفلسطينيين، وقاوموا استبداد السلطان عبد الحميد، كما تبنّى النشاشيبي وقدري طوقان وغيرهما مواقف دعاة الإصلاح الديني والمتنورين من رموز الحضارة العربية الإسلامية، وهي المواقف التي تغلّب العقل على النقل، وتنبذ التكفير، وتفصل الدين عن السياسة، وتفصل حقل التعليم عن حقل الدين. وكرر المثقفون رفع الشعار الذي رُفع في الغرب وهو "الدين لله والوطن للجميع"، معتمدين الهوية الوطنية الجامعة كبديل من الهوية الدينية، وبهذا تكون النخبة الثقافية قد اعتمدت العلمانية والعقلانية، وكان ذلك موقفاً مبدئياً شجاعاً يعزّ نظيره الآن في القرن الواحد والعشرين الذي يسود فيه الفكر الديني التعصبي المتزمت من دون أن يتعرض للنقد.
إن تحرر المرأة واضطلاعها بدور متمم للنصف الآخر من المجتمع كانا إحدى أهم ركائز فكر الحداثة ومشروعها الناشىء في فلسطين. فقد دعا المثقفون إلى تعبئة طاقات النساء وتعزيز دورهن كجزء من تنظيم الشعب وتعبئة طاقاته وموارده في معركة تنازع البقاء، وناهضوا الهيمنة الذكورية. وفي هذا السياق خصصت صحيفة "الكرمل" زاوية باسم "صحيفة النساء" بإشراف "ساذج نصار" التي دعت النساء إلى عدم الاستسلام للتخلف وتأسيس جمعيات نسوية، بينما ركزت صحيفة "مرآة الشرق" على تنشيط دور المرأة في الاقتصاد. إن ضمان حقوق المرأة ومشاركتها في التخلص من القيود، وانخراطها في التعليم، كانا قضيتَين مدرجتَين في جدول أعمال النخبة الثقافية بما ينسجم مع فكر الحداثة. وعلى الرغم من الصعوبات المجتمعية، فإنه جرى اختراق المجتمع الذكوري باعتراض من داخل النخبة، والأهم بصوت نسوي ينتقد واقع النساء ويحفّزهن على الحذو حذو نساء متحررات من سورية ومصر ولبنان.
روافع الحداثة
إن مشروعاً حداثياً يستند إلى فكر تحرري وطني واجتماعي بمضمون ديمقراطي، ومنفتح على الحضارات الإنسانية وعلى كل تقدّم، كان بحاجة إلى روافع تجعله قابلاً للتطبيق في المجتمع الفلسطيني. وقد قرنت النخبة الثقافية مشروعها الحداثي بروافع كان من أهمها:
أولاً: التربية والتعليم
اعتُبرت التربية والتعليم أهم وسيلتين لتمكين المجتمع الفلسطيني من الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، ولمساعدته على مواجهة الصهيونية في صراع البقاء. وقد انطلقت النخبة من مفهوم أنه لا يمكن منازعة الصهيونية إلّا بالقوة، وقوة اليوم هي العلم، وأن على الأمة أن تتسلح بالعلم، ولهذا رأت في المدرسة أهم أدوات تنمية القيم والمشاعر الوطنية، فكانت البداية في اعتماد أساليب ومناهج تعليم حديثة تثقّف الطلبة تثقيفاً فكرياً وأخلاقياً ووطنياً، وتعوّدهم على التسامح واحترام وجهة نظر الغير، وتدرّس الفلسفة التي توسع مدارك الطلبة، وعلم الحياة وعلم الصحة للتعرف إلى الجسد والعقل، علاوة على قوانين الطبيعة. ولهذا أنشأت مدارس حديثة، ودعت إلى نشر المدارس في الريف وتزويدها بمعلمين أكفاء. ومن أجل اعتماد أنظمة تعليم حديثة، وضع أحمد سامح الخالدي لنفسه مهمة نقل تجارب التعليم المتطورة عالمياً، فأصدر كتاباً من جزأين عرّف من خلاله بأنظمة التعليم في بعض الدول الأوروبية وتركيا ومصر، وبيّن أن أهم عامل في نجاح التعليم الأوروبي كان احترام ما وصل إليه العلماء عبر أبحاثهم ونقل موروثهم العلمي إلى الأجيال الجديدة. وتوقف الخالدي عند اهتمام التعليم الألماني بالموسيقى والفن المعماري والفلسفة، وأشاد بتجربة فرنسا في إعداد المعلمين الفرنسيين الذين يقوم على عاتقهم نظام التربية الحديثة، كما توقّف عند نظام التعليم الثانوي في أميركا، والقائم على اختيار ما يلائم استعداد الطلبة ورغباتهم ومهاراتهم (علوم؛ حرف؛ صناعة؛ زراعة). وكان هدف النخبة من التعليم نقل الدم الجديد في البلد ليحل جيل جديد من الطلبة مكان الزعماء وبقايا العهد القديم، فقد أيقنت هذه النخبة أن البلد بحاجة إلى أدمغة مفكرة وقادة ينظمون أموره، وهؤلاء تنتجهم مدارس وجامعات تعتمد التعليم الحديث. واستفاد الخالدي من التجارب المتقدمة في التعليم الحديث، وحاول توظيفها في "الكلية العربية" التي كان مديرها من زاوية بناء الشخصية المستقلة المثقفة، واحترام النظام والتعدد، والبحث في حاجات البلد من خلال حقل التعليم.
وقرن خليل السكاكيني مفهومه للتعليم الحديث بالفعل عندما أسس المدرسة الدستورية في سنة 1909 بالتعاون مع علي جار الله وجميل الخالدي وأفتيم مشبك، وتعامل معها كنموذج. وقد اتسمت مدرسة السكاكيني بالطابع اللاطائفي العلماني المجرد من كل تأثير ديني، وأخذت بمفهوم إعزاز التلميذ وإطلاق حريته، فاستبعدت نظام العقوبات والعلامات، وقدمت مفهوماً جديداً للعلاقة بين المعلمين والتلاميذ، وهي علاقة قائمة على الشراكة والتعاون والاحترام. وأسس السكاكيني أيضاً جريدة مدرسية تهتم بالأدب والموسيقى والغناء الوطني، وفرقة الصحة المدرسية التي تهتم بصحة المعلمين والتلاميذ، وفرقة القرّاء والكتّاب التي تقرأ الجرائد وبعض الكتب المفيدة للأهالي الذين لا يقرأون، كما عزز صلات المدرسة بالمجتمع والأرض والطبيعة، وحرص على تنمية شخصية مستقلة للتلاميذ ذات إرادة، تطلق الخيال وملكة النقد والابتكار، وعمل على تجاوز أسلوب التلقين والحفظ بتقديم بديل قائم على التفكير والتساؤل والمعرفة. ودعت النخبة الثقافية إلى تنويع التعليم عبر مدارس صناعية وزراعية ومهنية، واستشرفت حاجة المجتمع إلى جامعة فلسطينية، وخصوصاً أنها توقفت عند اهتمام المنظمة الصهيونية بالتعليم من خلال المدارس والجامعة العبرية التي جرى تأسيسها في وقت مبكر، وقارنت بين ما تنفقه من أموال بلغت 200,000 ألف جنيه فلسطيني سنوياً، على مدارسها التي تضم 15,000 تلميذ وتلميذة، بينما تنفق حكومة الانتداب 55,000 جنيه على التعليم في فلسطين، والذي يضم 10,000 تلميذ. وهذه المقارنة تكشف عدد طلبة أكثر، وميزانية أكبر للطلبة الصهيونيين مع عدد سكان يهود أقل كثيراً، في مقابل عدد طلاب فلسطينيين أقل، وميزانية أقل لعدد سكان أكبر كثيراً.
رؤية التعليم التي قدمتها النخبة وتطبيقاتها مقارنة برؤية وواقع التعليم في زماننا الراهن، تبدو متفوقة على تعليمنا الحالي، والسبب هو الفرق بين نظام تعليم عمل على أن يكون تحررياً قولاً وفعلاً في الماضي، ونظام تعليم محافظ يقيد العقول في وقتنا الراهن، مع الأخذ في الاعتبار أن ثمة فارقاً زمنياً ينوف القرن، وأننا نعيش ثورة المعلومات والمعرفة والبحث العلمي والاتصال والعلوم والفنون، من دون أن نكترث بالتفوق الهائل لدولة الاحتلال.
ثانياً: المنابر الصحافية
كانت الصحف من الوسائل المهمة المستخدمة في تعبير النخبة الثقافية عن الأفكار الحديثة ونشرها وسط الفئات المتعلمة من المجتمع، بهدف تكوين رأي عام بشأن قضايا وطنية واجتماعية وثقافية واقتصادية. وقد حملت الصحافة في ذلك الزمان رسالة وطنية تحررية وتمدينية وتنويرية، وعبّرت عن مختلف الاتجاهات الوطنية والقومية واليسارية. فعلى سبيل المثال، انتشرت صحف: "الكرمل"؛ "مرآة الشرق"، "القدس الشريف"؛ "فلسطين"؛ "اليرموك"؛ "الجامعة الإسلامية"؛ "الدفاع"؛ "الغد"؛ "المهماز"؛ "النفائس العصرية"؛ "الاتحاد"؛ وعددها مثلما نرى، كان كبيراً في الفترة الزمنية التي تناولها البحث، في مجتمع بلغت نسبة المتعلمين 13,57% في سنة 1931، وقد تكون هذه النسبة أقل في نهاية العهد العثماني، وربما ارتفعت فيما بعد حتى سنة 1948. وكمهمة أساسية، أدت تلك الصحف دوراً وطنياً في مواجهة المشروع الصهيوني والاستعمار البريطاني والسماسرة والأفندية الضالعين في بيع الأراضي للحركة الصهيونية، وفي مراقبة التطور الاجتماعي وتحولاته، وفي التصدي للعادات والتقاليد البالية والتعصب الديني والطائفية، ودعت إلى التمرد على التخلف بهدم العتيق البالي وبناء الجديد، إذ لا تستطيع فلسطين الوقوف في وجه الأعداء وأهلها بعقلية متأخرة ترفض التجديد والتطوير. ونادت الصحافة كذلك، بتمدين المجتمع، وحثّت على التعليم، ودعمت كل مبادرة لتطوير الاقتصاد، ونشرت الفكر التحرري المواكب للعصر ومبادىء الديمقراطية والمساواة وحرية التعبير والبحث، ودعت إلى تأليف جمعيات ومنتديات لتنظيم جهود الناس وتفعيلها في عملية التغيير، وبادرت إلى عقد مؤتمرات بهدف تطوير الحركة الوطنية، وانتقدت العائلات المهيمنة على المجتمع والمسؤولة عن الإخفاق والضعف والتراجع والفقر. وهكذا نرى أن الصحافة جمعت بين مهمة بلورة الوعي بالتحرر من المستعمر البريطاني الصهيوني وبكشف مناوراته ومؤامراته، وبين مهمات تطوير المجتمع وتحريره من التخلف ومن جميع الكوابح التي حالت دون تطوره، ممارِسةً في ذلك النقد بجرأة بما في ذلك انتقاد العمل الصحافي، بحيث إنها تعرضت لقمع المستعمرين بالمنع وبتوقيف الصحافيين وبتغريمهم. وفي المحصلة، تحول العديد من الصحف إلى منابر للحوار والدعاية لفكر الحداثة وللمشروع الذي حاول شقّ طريقه في فلسطين.
ثالثاً: روافع أُخرى
ثمة روافع أُخرى كترجمة الروائع الأدبية والفكرية عن الروسية والفرنسية والإنجليزية، وما يعنيه ذلك من الانفتاح وبناء جسور مع الثقافات الأُخرى. فقد ترجم كل من خليل بيدس ونجاتي صدقي وبندلي الجوزي أعمال تولستوي ودوستويوفسكي وتشيخوف، وكانت جريدة "النفائس العصرية" قد روجت للترجمات، كما ترجم عادل زعيتر عن الفرنسية أعمال فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو وغوستاف لوبون، وترجم روحي الخالدي علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوغو، وترجم أحمد سامح الخالدي عن الإنجليزية أبحاثاً في التربية والتعليم، وكذلك ترجم عن الإنجليزية حسن صدقي الدجاني وبولس شحادة وأسمى طوبي وخليل السكاكيني. وفي الجهة الأُخرى، ترجم توفيق كنعان الذي أتقن 5 لغات من العربية إلى اللغات الأجنبية.
علاوة على ذلك، فإن المطابع والمكتبات والمعاهد والمدارس الخاصة والمقاهي الثقافية والمهن الحرة كالمحاماة والجامعات في الخارج، والأطر الثقافية كـ "عصبة القلم" ومجموعة الصعاليك، والجمعية الشرقية، ونادي الفنون، ورابطة الطلبة العرب، ورابطة المثقفين العرب، ونادي شعاع الأمل، وجمعية السيدات العربيات، ولجنة السيدات العربيات، وجمعية الاتحاد النسائي العربي، وجمعية التضامن الاجتماعي النسائي، والجمعية الطبية العربية، وجمعية النهضة الاقتصادية العربية وحزب الاستقلال وحزب التقدم العربي الفلسطيني، كانت بُنى أسسها أو عمل بها رواد الحداثة بمختلف اتجاهاتهم، في محاولة لتأسيس بُنية تحتية للمشروع الحداثي في فلسطين.
والسؤال الأهم هو: لماذا انتكس المشروع الحداثي في فلسطين على الرغم من المحاولات الجادة التي اضطلع بها عدة رموز؟ لا شك في أن المشروع الحداثي الذي حمله المثقف، اصطدم ببنية مجتمع محافظ وبقيادة تقليدية بقيت مسيطرة على المجتمع. يقول نجيب نصار إنه لم يطّلع على الأفكار الحداثية إلّا جزء قليل من أبناء الأمة، فقد بقي الرأي العام في خندق الزعماء الذين يضحون بالشعب على مذابح مصالحهم، بينما قال آخرون إن سواد الأمة ينقاد انقياداً أعمى إلى الزعماء ورؤساء الأديان بسبب الجهل والاستعباد وقصر النفس. واقع الحال مثلما تشير استخلاصات البحث ، هو أن الأفندية (القيادة التقليدية) مارست تأثيراً سياسياً وأيديولوجياً شبه مطلق على السكان – وأكثريتهم من الفلاحين. ولاحظ بولس شحادة أن العاطفة الدينية هي المحرك الأول للشعوب، وليس العاطفة القومية - الوطنية.
خلاصة القول أن النخبة المثقفة نجحت في تقديم مشروع بفكر وثقافة الحداثة، ونجحت نسبياً في بناء روافع قوية كالتعليم والصحافة وغيرهما، وحاولت تأسيس بنية تحتية مكونة من عناصر ومجموعات وأفراد وهيئات من الفئة المتعلمة التي تتراوح نسبتها بين 13 و20% في أحسن الأحوال. لقد تحركت النخبة وسط شريحة غير متجانسة من الطبقة الوسطى، لكنها لم تصل إلى الخزان الكبير المكون من السواد الأعظم من الفلاحين والعمال إلّا بمستوى محدود ورمزي، وبهذا المعنى أخفقت في بناء قاعدة اجتماعية تحمل المشروع الحداثي كمشروع يمثل أو يخدم مصالح قوى اجتماعية مستعدة للدفاع عنه وإيصاله إلى نهاية سعيدة. إن السؤال عن سبب إخفاق مشروع الحداثة لا يتعلق بفترة زمنية مضت فحسب، بل يتقاطع في الإخفاق أيضاً مع الزمن الحالي الذي يتشابه بشكل أو بآخر مع الزمن الماضي. أعتقد أن أزمة الاتجاه اليساري النابعة من الموقف السوفياتي المتناقض من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي من جهة، ومن انخراط اتجاه قوي من اليساريين اليهود في المشروع الصهيوني، هي التي دفعت اليساريين الفلسطينيين إلى الاستقلال في عصبة التحرر، ومع ذلك ظل موقف اليسار دفاعياً وغير مفهوم شعبياً. لقد كان الاتجاه اليساري أكثر تماسكاً فكرياً وتنظيمياً ، وبالتالي كان مؤهلاً لبناء قاعدة اجتماعية للحداثة تضم عمالاً وفلاحين ونساء ومثقفين، لكن أزمته حالت دون ذلك. ومن جهة أُخرى كان مستوى تأصيل فكر الحداثة في الواقع الفلسطيني ضعيفاً، والتأصيل المقصود هو بلورة مشروع تحرر وطني وتقرير مصير الشعب الفلسطيني عبر دولة فلسطينية مستقلة، لكن خلافاً لذلك، جرى تقديم شعار "صراع البقاء" الذي هو أقل من برنامج، لأنه في الواقع نتيجة الصراع بين مشروعين وليس هدفاً بحد ذاته. بالمعنى الفكري كان الهدف المركزي للمشروع الصهيوني إقامة دولة و"تقرير مصير" في مقابل هدف "صراع البقاء" للمشروع الفلسطيني، كما أن اللاعب الأقوى بين الحداثيين الفلسطينيين كان أقرب إلى المدرسة الليبرالية. وفي غياب قاعدة اجتماعية، وتحديداً غياب حزب سياسي جماهيري، بقيت الغلبة للثقافة المحافظة في المجتمع. فقد ساهم الكبح الذي تعرّض له نمو التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية وتبلور الطبقات الشعبية، من طرف الاستعمارَين البريطاني والصهيوني المتناوبَين في السيطرة على الشعب والوطن الفلسطيني، في غياب القاعدة الاجتماعية للحداثة. إن كتاب "المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة" إضافة مهمة إلى المكتبة الفلسطينية، ومرجع لرواد التجديد والتطوير والتنوير.