قراءة في العدد الأخير من "مجلة الدراسات الفلسطينية": فائض العدالة وفائض القوة
النص الكامل: 

كعادته، ورّطني صديقي العزيز جداً الياس خوري، في مشروع كتابيّ لم أكن، ولم أزل، غير مستعد له تماماً، فطلب مني مراجعة العدد السابق من "مجلة الدراسات الفلسطينية" الذي كُرّس لأقلام أسرى فلسطينيين سابقين أو حاليين لا يزالون يقبعون خلف القضبان. والمهمة على صعوبتها، لا يمكن ردها أو الهرب منها، ليس لأن التهرب من مهمة أوكلك فيها الياس خوري هي محاولة فاشلة، بل لأن العدد يأخذك إلى هناك: إلى خط التماس الأول بين الاحتلال والقمع وبطش الحديد بالجسد الفلسطيني، فعلاً لا مجازاً. نحن نكتب عن الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، والمواجهة بين هذا الاستيطان وسكان البلاد الأصليين، لكن هذه المواجهة تصبح مواجهة حرفية بين محقق ومعتقل تفصل بينهما طاولة بعرض نصف متر، أو شباك حديدي يفصل بين سجان وسجين.

وللصعوبة عدة أوجه، فالنصوص التي يحتويها العدد كُتبت بأساليب عديدة تتراوح بين الشعر، والقصة القصيرة، والمذكرات، والتحليل السياسي، والدراسة الأكاديمية، والتقرير الصحافي. كيف يمكن مراجعة هذه المواد المتنوعة أسلوباً ومضموناً؟

غير أن هذه الصعوبة تبقى صعوبة ثانوية في مقابل رهبة الكتابة والحوار مع مَن انتزعوا حق الكتابة بأجسادهم، ودفعوا ثمن الحبر الذي يكتبون به أعوام عمرهم الجميلة، وخصوصاً أن الأسير المحرر أمير مخول، حذّرنا في نصه الرائع من مغبّة الحديث عن السجون مع مَن لم يدخل السجن، إذ "لا تستطيع حِكَم السجون أن تكتمل ما لم تأتِ من داخل الجدران، وهذا بخلاف الحِكَم عن السجون والأسرى التي تأتي من الخارج [....] كونها آتية من أَسطرة مَن لا يريدون أن يكونوا أسطورة" (ص 144 - 145).

بناء عليه، فإن التواضع ضروري جداً في هذا السياق، إلّا إن هناك فرقاً بين التواضع وبين الرهبة التي تبعث على الشلل. لقد كتب هؤلاء الأسرى ما كتبوه، كي نقرأه نحن. هذه نصوص كُتبت لنا لنقرأها ونتحاور معها، ونعلّق عليها، وقبل هذه وتلك، كي نتذكر هؤلاء الأسرى ونعرف أن لا وجود لقضية فلسطينية من دونهم. القضايا الأخلاقية – وفلسطين هي قضية أخلاقية فضلاً عن كونها قضية سياسية بالمعنى النبيل للكلمة – لا يمكن إثباتها نظرياً عن طريق المحاججة النظرية فقط، بل بقدر ما تفرض حضورها على الوعي الإنساني أيضاً، وبمدى قدرة الشعب الفلسطيني واستعداده لأن يناضل فعلاً للدفاع عن قضيته. وبالتالي فإن فكرة إصدار عدد خاص مكرس للأسرى هي فكرة مهمة لأنها تذكّر مَن يقطفون الثمار المادية للنضال الفلسطيني، أن الأرضية التي تقف عليها هذه الامتيازات المادية هي أرضية معنوية كتبها ويكتبها الأسرى وبقية المناضلين. وهذه حِكْمة مهمة تقلب المنطق الماركسي رأساً على عقب، فتصبح الإنجازات المعنوية الرمزية هي الأساس، والإنجازات المادية نتاجاً علوياً لهذا الأساس.

مَن يراجع العدد ينتبه إلى أن المواد التي يحتويها تقيم في المنطقة / المساحة التي يرسمها محوران: محور الكتابة عن السجن، ومحور الكتابة في السجن.

هناك نصوص كُتبت في السجن عن تجربة السجن، وهناك نصوص كُتبت في السجن لكنها تتحدث عن عالم خارج السجن: عن الحياة السياسية، ومستقبل فلسطين، وأحياناً تتحدث عن سوسيولوجيا المعرفة. كما أن هناك نصوصاً كُتبت خارج السجن لكنها تتحدث عن تجربة عينية شخصية في السجن، أو عن دراسة علمية لتجارب السجن وغرف التحقيق. ولذلك فإن محور هذه النصوص وخيطها الناظم هما السجن: إمّا موقع الكتابة، وإمّا موضوعها، وإمّا كلاهما.

خلال قراءتي النصوص التي تتحدث عن تجربة السجن، كانت تراودني عدة أفكار في اتجاهات متنوعة: الفكرة الأولى هي ضرورة تعميم هذه النصوص، ليس فقط لأهميتها المعنوية وجمالها (وسأعود لاحقاً لهذه النقطة)، بل لتحقيق الحد الأدنى من العدالة في توزيع الأدوار أيضاً: أسرى يكتبون عن تجربتهم في سجون الاحتلال، فهل هناك واجب أبسط من أن نُصغي إليهم ونقرأ نصوصهم ونستمع إلى أصواتهم؟ طبعاً لا عدالة في توزيع الأدوار هذا، لكن الحد الأدنى منها يفترض الإصغاء؛ الفكرة الثانية التي راودتني وأنا أقرأ النصوص الأدبية عن حياة السجن، هي الدور المركب الذي يقوم به السجن، وكنت أتساءل كيف لهذه الخشونة والقسوة والعنف أن تُنبت مثل هذه الرهافة والحساسية والجمالية في المعنى؟ ثم انتبهت فجأة إلى ظاهرة القدرة على كتابة التفصيلات والانتباه إليها ورصدها ووصفها والتمعن فيها وفي معانيها، كأن السجن يفرض على السجين أن يتقمص دور الأديب، لأن دور الأديب الأول يكمن في القدرة على التقاط التفصيلات والانتباه إليها ورصدها، فكأن كل سجين هو أديب من حيث الموقع، وكل أديب هو سجين لأنه ينحبس في المشهد. لكني سرعان ما هربت من هذه المقارنة التي تخلط الواقع بالمجاز، وتمحو الفرق بين مَن فرض الانغلاق على نفسه، وبين مَن أُغلقت عليه جدران الزنزانة عنوة، إلّا إنه في كلتا الحالتين هناك سبر للنفس البشرية وغوص عميق في المعاني العميقة للحياة: السجن، والأمل، والنضال.

إن الروح النابضة في معظم النصوص التي قرأتها تدور حول كيفية الحفاظ على الذات وعلى ارتباطاتها المتعددة: الذات مع الذوات الأُخرى؛ مع العالم الخارجي؛ مع المستقبل؛ مع الماضي؛ مع العائلة؛ والذات مع ذاتها وتاريخها وتماسكها. وهنا تطل علينا مفاهيم وتعابير مثل الأمل، والحب، والرومانسية، ومعنى الزمن.

يقول مجد بربر: "الحب في السجن وخارج السجن هو أساس النضال والتضحية، وبالتالي لا يمكن أن نكون مناضلين إذا لم نكن رومانسيين" (ص 96).

أمّا أمير مخول فكتب عن علاقة أسامة الأشقر بمنار زوجته: "(كان يشعر أنه داخل قبر، اليوم يشعر أسامه أن الحب انتشله من براثن اليأس والقيد وحمله إلى عالم الأمل والحياة)" (ص151).

و"تشكر" لمى خاطر حقيقة أن المحتل لا يستطيع، على الرغم من جبروته وبطشه أن يوقف الزمن: "كان لا بد لي من أن أدرك فلسفة الزمن، فالزمن على الرغم من طوله وبطئه، فإنه غير متوقف في غرفة التحقيق" (ص 82).

يذكّر الزمن في نصوص السجن، بنص بيرتولت بريخت في "دائرة الطباشير القوقازية" حين يكتب: "أيها الزمن: أنت أمل هذا الشعب" فـ "الزمن والأمل"، وفق بريخت، هما عنوانان مرتبط أحدهما بالآخر: الزمن يسير إلى الأمام من دون توقف، وهناك شيء ما في المستقبل عصيّ على القبض ومراوغ، وبالتالي فإنه دائماً مؤهل لأن يحمل لنا المفاجآت؛ إنه الأمل. والأمل، مثلما يكتب كايد سلامة واصفاً نفسه، "يجدد فيه عشقاً للحياة" (ص 207).

يشعر مَن يراجع النصوص، بأن ما هو أصعب من الألم والسجن والعزلة، هو ذلك الانقطاع عن العالم، وعن السياق، وعن الجماعة، وكلها أمور تهدد الأسير بغياب المعنى، لأنه لا معنى من دون سياق، والسياق يحتاج إلى رواية، لأنه وحده يُكسب الفعل دلالاته ويعطي التضحية معنى.

وفي هذا السياق، تُعبّر ليان كايد عن الخوف من الانقطاع، ومن هذا الانفصال عن العالم، فتقول: "السجن ككل منتزع ومنفي عن نسيج الكوكب وامتداده البيني والجغرافي. فأكبر الأكاذيب هو امتلاك السجن عنواناً، فنحن في حيفا لكننا لا نراها" (ص 205).

لذلك، وعلى قدر الخوف من الانفصال عن العالم، فإن ما يوازن الانفصال هو فرح التواصل مع العالم الخارجي، حتى لو كان على شكل قطة تعبر سياج السجن وتمثّل بعبورها ذلك التواصل بين السجن والعالم الخارجي خارج الجدران، مثلما تصف ليان كايد فرحها الصغير هذا، فتكتب: "كانت تزورنا قطة بين فينة وأُخرى [....] كنّا سعداء بأن كائناً يخترق الجدران لنراه ويرانا" (ص 206).

ولم يكن كايد سلامة بحاجة إلى الروائية الدنماركية إيزاك دينسين (كارين بليكسين) التي كتبت مرة: "إن في قدرة المرء أن يتحمل كثيراً من الألم إذا ما استطاع أن يروي لنفسه حكاية يموضع فيها هذا الألم"، ليعرف أن ما هو أصعب من الألم، هو الألم الذي يقف خارج الحكاية، في الوقت الذي لا يجد المرء تبريراً لنفسه لتكبّد هذا الألم. وفي نصه الرائع يكتب سلامة: "أصعب عذاب هو حين تشعر بالألم لكنك لا ترى شاهداً على عذابك، بحيث تصبح جراحك بلا دماء، وألمك بلا جراح. حتى أنت نفسك يراودك الشك فيما تشعر" (ص 212).

إن أسوأ ما قد يحدث للمناضل هو الشعور بالهباء... والمقصود بالهباء ليس الخسارة الشخصية، أو السجن، أو الخسارة المادية، وإنما عدم القدرة على وضع هذه الخسارة في سياق اجتماعي – اقتصادي – سياسي يضمن أن يكون لها معنى. إن الفرق بين الهباء والخسارة هو أن الهباء خسارة بلا معنى وبئر لا قعر له يهدد كل مناضل بخواء المعنى، بينما الخسارة إذا أسندت رأسها إلى السياق والمعنى فإنها تضحية، وجزء من مشروع يراكم ويراكم.

إذا كان فعل التضحية، كفعل بحد ذاته، فردياً، فإن المعنى هو دائماً وأبداً فعل جماعي، لأن المعنى كاللغة، يُنتَج جماعياً ويُستهلَك جماعياً. وهذا هو ما يشير إليه أمير مخول بنصه حين يكتب: "ليست التضحية شأن صاحبها فقط، وإلّا لكان اليأس، بل على المضحين والمضحيات كلهم تجميع تضحياتهم كي تكتمل صورة الحياة" (ص 152).

وهذا أيضاً ما يفسر قول الأسير ثابت مرداوي: "إن المحاور [التي طرحتها ندوة الأسرى] وما فيها من أسئلة، تخطر على ذهن كل فلسطيني، أمّا نحن، في الأسر، فإنها تشغل تفكيرنا كله، وتلتهم جهدنا ووقتنا، ويكاد انشغالنا بها ينسينا انقطاع أنفاسنا هرباً من ظلم السجن وملاحقة المؤبد" (ص 17).

إلّا إنه، مثلما أشرت، فإن النصوص التي احتواها العدد تتجاوز الحديث عن السجن، لتتحدث عن العالم، وعن السياسة، وعن فلسطين، وكذلك في أمور شائكة جداً وأكاديمية، مثل مقالة باسم خندقجي الذي كتب عن "أثر سياسات المعرفة في الخطاب البحثي الأكاديمي" مقدماً مساهمة ثرية وأصيلة في هذا المجال.

هل هناك من خاصية للكتابة داخل السجن عن الموضوعات السياسية والوطنية؟ وما هي خاصية الموقع في نوع المعرفة التي تُنتَج في سياق السجن؟

سأكتب بحذر لأني لم أعبر تجربة السجن (الاعتقالات قصيرة لم تتجاوز الأسبوع)، وإنما سأكتب كمتلقٍّ وكقارىء لنصوص كُتبت ولا يعرف أصحابها ما إذا كانوا سيخرجون من سجنهم أبداً، لأن خروجهم مرتهن ومرتبط بانتصار قضيتهم. وهذا الارتهان - أو قل الرهان - يعطي الكتابة أصالة، لأن تحرر الوطن وتحرر الأسير يصبحان وجهين لعملة واحدة، ويصبح الخلاص الفردي وثيق الصلة بالخلاص الجماعي.

عند مراجعتي مواد الندوة الغزيرة والكثيفة استوقفني بعض الأمور التي أرغب أولاً في تسليط الضوء عليه من أجل لفت نظر القرّاء، ومن أجل تطوير نقاش بشأنها مع كاتبيها.

هناك إجماع كامل لدى جميع المشاركين في الندوة (باسم خندقجي؛ ثابت مرداوي؛ عبد الرازق فرّاج؛ عبد الناصر عيسى؛ مروان البرغوثي؛ وجدي جودة؛ وليد دقّة) على التشخيصات العامة للحالة والمرحلة التي تمر بها القضية الفلسطينية، وعلى عمق الأزمة وصعوبتها، وإن كان هناك بعض الفرق في دقّة توصيف المرحلة وسبل الخروج منها.

يكتب مروان البرغوثي عن قيادة المشروع الوطني التي "أصبحت عبئاً أمام تقدّم المشروع الوطني التحرري وتطوره ووحدته. وهذا الأمر يستدعي إحداث تغيير جوهري يتعدى تغيير الشخوص" (ص 19).

لكن ثابت مرداوي يعتبر أننا تجاوزنا مرحلة الأزمة لندخل في مرحلة الورطة، إذ إن "مجمل مآلات القضية الفلسطينية [....] تجاوز مرحلة الأزمة منذ زمن، ودخل في مرحلة (الورطة). فنحن الآن نعيش في (ورطات) وليس في أزمة أو أزمات. أقول ذلك لأن الأزمة يمكن الخروج منها وتجاوزها، أمّا الورطة فلا أعتقد بإمكان الخروج منها" (ص 23).

ولا يرى مرداوي أي إمكان لتغيير أو تحسين الأحوال بالحوار: "بل أظن أن توقّع حدوث إصلاح أو تغيير في الأوضاع من خلال الحوار ليس سوى نوع من الوهم" (ص 24).

وهو موقف يلتقي فيه مع الأسير وليد دقّة الذي يكتب: "لا أعتقد أن حلاً للخروج من الأزمة التي أحاطت بالقضية الفلسطينية منذ أوسلو، سيتوفر داخل الفصائل الفلسطينية القائمة، فهي أسيرة تاريخها ومواقفها" (ص 56)

أمّا عن كيفية الخروج من الأزمة أو الورطة فيبدو الموضوع أكثر صعوبة وتعقيداً. فهناك مَن يشير إلى ضرورة عقد مؤتمر وطني عام والتركيز على المصالحة (انظر مثلاً: عبد الرازق فرّاج، ص 42؛ مروان البرغوثي، ص 55)، وثمة مَن يركز على قانون الهدم والبناء (ثابت مرداوي، ص 24)، وهناك في المجمل إصرار على العودة إلى فهم طبيعة الصراع مع إسرائيل ومع الصهيونية باعتبارها مشروعاً استيطانياً استعمارياً لا يقبل بمنح الفلسطيني أدنى حقوقه (عبد الرازق فرّاج، ص 33؛ باسم خندقجي، ص 45) ، وكذلك يشدد البعض على ضرورة العودة إلى البديهيات الأولى، وإلى الميثاق الوطني الفلسطيني لسنة 1968، وإلى استراتيجيات التحرير الكامل (وجدي جودة، ص 51؛ عبد الرازق فرّاج، ص 43).

هناك عدة نقاط مهمة تثيرها الندوة ولا يمكن الوقوف عندها جميعاً، لكني سأتوقف عند بعضها لأفكر في شأنها مع القرّاء ومع المشاركين في الندوة:

الملاحظة الأولى تتعلق بالحديث عن القيادة وأزمة القيادة. لا شك في أن هناك مشكلة عدم وجود قيادة مؤهلة لأن تقدم نموذجاً في التضحية والنضال وتقود مجتمعها إلى معارك محسوبة ومدروسة، الأمر الذي أوصلنا إلى الحالة التي نحن فيها اليوم. لكن يمكن طرح السؤال عن القيادة بطريقة أُخرى: هل القيادة السيئة أوصلتنا إلى هذه الأوضاع السيئة البائسة، أم إن الأوضاع البائسة السيئة أنتجت قيادة بائسة وسيئة؟ أم الاثنتان معاً؟ فأوسلو أدخل سؤال فلسطين في نفق مظلم لا يمكن التقدم إلى نهايته، أي إلى فجر الدولة المستقلة، ولا يمكن الرجوع فيه إلى الوراء، إلى أبجديات الثورة ومعركة التحرر. هذه معضلة جدّية جداً، وهي تحاصر سؤال فلسطين من جميع الأوجه، ولا تحاصر القيادة المتنفذة في المنظمة والسلطة فقط، بل تحاصر السؤال الفلسطيني برمّته أيضاً، لأنه فقد مفرداته القادرة على صوغ مطالبه بأدوات سياسية فاعلة. ولا أعرف ما إذا كان مجرد استعارة الإطار الاستيطاني الكولونيالي بحدّ ذاته كفيلاً بإحداث التغيير.

إن الإطار الاستيطاني الكولونيالي ليس أكثر من إطار نظري مهم، لكنه طبعاً ليس بديلاً من تحليل عيني لموازين القوى، ولطبيعة التحالفات، ولمناقشة الأدوات الممكنة في مشروع التحرر.

لا ريب في أن هناك دوراً مهماً للقيادة، وخصوصاً في حركات التحرر الوطني، ولا شك في أن القيادة الحالية فقدت أوراقها التفاوضية كلها، وأصبحت مجرد رهينة، لأنها واقعة في مصيدة أوسلو وشراكه. لكن ما أردت قوله هو أن القيادة المتنفذة ليست وحدها واقعة في شراك أوسلو، بل يشاركها في ذلك معارضو أوسلو أيضاً، تماماً كالرجل المتدين في زمننا الذي يعيش في عصر علماني حتى لو حافظ على تديّنه. إن أوسلو يشكل عبئاً سياسياً ومعنوياً، ليس فقط على الذين وقّعوه، بل على الذين عارضوه أيضاً، فقد خلق للنضال الفلسطيني ظروفاً أصعب كثيراً لأنه أوهم العالم بأن هناك سلطة فلسطينية في طريقها لأن تكون دولة، وأن لدينا وزارات وسفارات وإعلاماً وتلفزيوناً، إلخ. والعالم فهم الانتفاضة الأولى باعتبارها حجراً يلقيه الفلسطينيون على المحتل والاحتلال، لكن الانتفاضة الثانية (في ظل أحداث نيويورك، أيلول / سبتمبر 2001) فُهمت على أنها طلقة رصاص يطلقها الفلسطينيون على ما يسمى "المسيرة السلمية". إن إخراج الاحتلال وجنوده من مراكز المدن، وتحويل الاحتلال من الواجهة إلى الساحة الخلفية، فرضا نوعاً جديداً من الواقع يحتاج إلى أنواع نضال جديدة.

يقودني هذا كله إلى ملاحظة تالية تتعلق بسؤال المراكمة في الإنجازات، بدلاً من تبعثرها، وهي قضية في منتهى الأهمية أشار إليها كثير من المتحدثين، وكل من منطلقاته وتشخيصه المتميز. فثابت مرداوي يشير إلى أن الحركة الوطنية في مجملها "قامت على الارتجالية والعشوائية وردّات الفعل، وتمحورت حول أشخاص" (ص 23).

أمّا وليد دقّة فيشخّص الأمر بدقّة أكثر حين يكتب: "وفي ظل هكذا وضع، بتنا أمام شكلين من النخبوية: نخبوية العمل الدبلوماسي في رام الله، ونخبوية العمل المسلح في غزة [....] إن عدم اجتماعهما في مركز قرار سياسي واحد، على شكل حركة تحرر، وليس سلطة واحدة، أبقى الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني خارج دائرة استجماع القوة" (ص 20 - 21).

ويشير وليد دقّة في معرض تحليله إلى أن الفصائل الوطنية الفلسطينية في أزمة خطاب وممارسة، وأن "الخطاب المهيمن على أوساطها بات خطاباً متورماً يتمسك باللفظي والشكلي، كما أن الفصيل الذي يُفترض أن يكون أداة نضال، مأسس وجوده على حساب هذه الأهداف التي سيطرت عليها (الفُرجوية): والفُرجوية هي سيكولوجيا الفاشل في تحقيق أهدافه" (ص 31).

أعتقد أن هذه التحليلات كلها صائبة وعميقة، لكنني أنوي في السطور التالية المساهمة في فهم طبيعة هذه الثنائيات التي باتت تشلّ الحركة الوطنية الفلسطينية وتهدد مستقبلها. وهذه الثنائيات تشمل: الفعل والكلام؛ العدالة والدبلوماسية؛ الحق والقوة؛ المقاومة والمفاوضات؛ السلطة و"حماس".

إن التوصيف الذي يقدمه الأسير وليد دقّة بشأن النخبوية الدبلوماسية والنخبوية العسكرية هو إشارة إلى غياب الفعل السياسي المنسق والجامع والشعبي الذي يستفيد من جميع طاقات الشعب من دون الاعتقاد أو التوهم بأن الحلّ يأتي من غرف المفاوضات المغلقة بحركة سحرية، أو من فعل مقاومة واحد ووحيد حتى لو كان بطولياً. وفي كلتا الحالتين تغيب الجماعة وتغيب السياسة.

لكني أود التطرق إلى مسألة أُخرى تشكّل أزمة في العمل السياسي الفلسطيني في مرحلة ما بعد أوسلو، وهذه الأزمة نابعة من المسافة بين العدالة والقوة، وهي فائض العدالة الفلسطينية في مقابل فائض القوة الإسرائيلية، الأمر الذي يجعل كل حل ممكن غير عادل، وكل حل عادل غير ممكن. إن فائض القوة الإسرائيلي يشكل خلفية تبرر كل تنازل دبلوماسي فلسطيني على اعتبار أن موازين القوى ليست في مصلحة السؤال الفلسطيني، وأن علينا أن نلتقط ما يُعرض علينا، لكن عدالة السؤال الفلسطيني كافية في الوقت نفسه كي تعطي تبريراً لكل فعل مقاومة لأن مأساة فلسطين مستمرة والمعاناة مستمرة، وكفّة العدالة تميل بوضوح إلى مصلحة فلسطين. والأزمة لا تكمن فقط في انفصال الضفة عن غزة و"فتح" عن "حماس"، بل في انفصال الفعل المقاوم عن الفعل الدبلوماسي أيضاً، وانفصال الفعل الدبلوماسي عن الفعل المقاوم حتى داخل حركة "فتح" نفسها. وبدلاً من أن يكون الفعل المقاوم سنداً وظهراً للفعل السياسي الدبلوماسي، أصبح محرجاً له، وبدلاً من أن يمثل العمل الدبلوماسي والإعلامي والسياسي غطاء وصوتاً للعمل المقاوم، فإنه تحوّل ليكون أول المدينين لأعمال المقاومة، وبالتالي بدلاً من تفسيرها وتبريرها عالمياً ومحلياً ووضعها في سياقها التاريخي والسياسي، يجري التعامل معها على أنها أعمال محرجة للسلطة ولأدائها الدبلوماسي والسياسي والإعلامي. وفي ظل وضع من هذا النوع يصبح صعباً مراكمة النضال، أو التقدم نحو أي هدف. فالمقاومة – حتى لو كانت بطولية – من دون صوت يشرحها ويدافع عن مشروعيتها تبقى بكماء، كما أن أي مشروع دبلوماسي تفاوضي غير مدعوم بحركة تحرر تملك القدرة على المقاومة، سيتحول إلى مجرد كلام في غرف مغلقة ومفاوضات عبثية لا تفضي إلى أي شيء.

بناء على ما سبق، فإن أي مشروع سياسي شعبي نضالي يجب أن يكون قادراً على تجاوز هذه الثنائيات، وعلى أن يصوغ لغة سياسية تربط المقاومة بالدبلوماسية، والحق بالحقيقة، وتعيد إلى السياسة معناها النبيل، وإلّا ستظل تراوح ما بين ثنائية الواقعية السياسية التي تبرر القبول بأي مشروع أو شبه حل، وبين منطق الحق والعدالة المؤهل لتبرير رفض أي مشروع سياسي لأن أي مشروع معروض لن يفي بالحد الأدنى من مقتضيات العدالة.

وسأنهي هذه الملاحظات بموضوع في منتهى الأهمية أشار إليه المشاركون في الندوة، وخصوصاً الأسيرَين وليد دقّة وثابت مرداوي.

يتساءل وليد دقّة عمّا إذا كانت مهمة الشعب الفلسطيني وقيادته هي البحث دوماً "عن صيغة مقبولة (واقعية) للحل، وليس النضال لفرض الاعتراف بحقّه في وطنه السليب" (ص 39)، ويستنتج تبعاً لذلك، فيقول: "لا أرى أي معنى للحديث عن حلول (دولة أم دولتان)، ولا سيما في ظل التنكر الكامل من جانب الصهيونية للحق الفلسطيني" (ص 42)، وهو يلتقي في تحليله هذا مع خطاب الأسير مرداوي (ص 48-49).

هذا كلام مهم جداً ويجب الالتفات إليه ومناقشته أيضاً. فعندما يضع الأسير وليد دقّة كلمة الواقعية بين هلالين، فهو إنما يشير إلى أن واقعية السلطة ما هي إلّا واقعية القبول بالأمر الواقع، وليس واقعية مَن يريد تغيير هذا الواقع. لكني لا أعتقد أنه يعتقد أن الواقعية هي صفة سيئة في العمل السياسي، لأن العمل السياسي يريد تغيير الواقع ويعمل في الواقع، وعليه أن يأخذ هذا الواقع بعين الاعتبار طبعاً.

إن التحليل الوارد في الفقرات السابقة، يكون مهماً بصورة خاصة عندما يدور الحديث عن "الحلول"؛ فهل هناك معنى في الحديث عن حلول إزاء دولة غير معنية – حالياً على الأقل – بأي حلول؟ وهل هناك مخاطر في الحديث عن حلول؟

يبدو لي أن السؤال الأساسي الذي يجب أن يشغل بال الفلسطيني الآن هو كيف نناضل؟ وكيف نخلق مشكلة لإسرائيل تستوجب الحل؟ لأنه، على ما يبدو، هناك الآن فائض من الحلول وقليل من المشكلات، وكثير من الأجوبة وقليل من الأسئلة؛ ففلسطين لم تعد تشكل مشكلة لإسرائيل أو للعالم العربي، وبالتالي بات سهلاً تجاوزها والقفز فوقها، كما أنها لم تعد تشكل عائقاً أو عامل عدم استقرار. وإذا كانت الحال كذلك فلماذا تحتاج إسرائيل إلى التفاوض أصلا؟

فضلاً عن ذلك، لماذا يجب تقديم التنازلات المسبقة ما دامت إسرائيل لا تبدي رغبة في الحل؟ أليس هناك خطر في الإيغال في تقديم التنازلات المجانية؟ يمكن أن ندّعي أنه إذا حدثت مفاوضات جديّة ونديّة، فإن من الممكن تقديم التنازلات في أثناء المفاوضات، أمّا التنازلات قبل المفاوضات فتعني أنك تصل إلى طاولة المفاوضات وقد سلّمت أوراقك كلها، ولم يبقَ لديك ما تتنازل عنه، وتجربة أوسلو أثبتت ذلك. هذا منطق رصين يجب الانتباه إليه طبعاً، وخصوصاً أن تاريخ المفاوضات الفلسطينية أثبت صحته.

هناك منطق يدّعي أن المسيرة تبدأ بخطوة، ثم تتقدم بخطوات أُخرى. المشكلة أن هناك حالات كثيرة تكون الخطوة الأولى هي الخطوة الأخيرة، بل إنها تتحول إلى حجر عثرة أمام خطوات أُخرى لاحقة نحو الأمام. وعليه ليس من المفيد التوغل في الحديث عن حلول ممكنة ما دامت إسرائيل لا تُظهر أي رغبة في أي حل كان.

لكن، على الرغم من رصانة هذا الموقف، فإن هناك بعض الأسئلة التي تطرح نفسها: إلى أي مدى يمكن النضال من دون تحديد واضح للهدف؟ أليس تحديد الهدف هو جزء من استراتيجيا النضال؟ أليس وضوح الهدف وتحديده يساهمان في تحديد أدوات النضال، وتحديد معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء وطبيعة اصطفاف القوى؟ وهل يمكن لقوى سياسية شعبية أو حكومية - في المنطقة أو في العالم - أن تقف مع فلسطين ومناضليها من دون أن تعرف ما هو أفق هذا النضال وما هي أهدافه وما هي النقطة التي سيعتبر نفسه أنه حقق أهدافه عند الوصول إليها؟ وهل من الممكن لنضال أن ينتصر إذا لم يحدد النقطة التي يمكن اعتبارها انتصاراً في حال تحققها؟ أسئلة صعبة لأنه مهما تكن الإجابة فإنها مؤلمة، ذلك بأن أي تحديد للأهداف سيكون نوعاً من التنازل المؤلم، لأنه يحدد سقف المطالب، ويتطلب نوعاً من التنازل المجاني. إن الوضوح ضروري في العمل السياسي، لكنه قد يكون مؤلماً وخطراً في الوقت نفسه. وهذه أسئلة أتركها الآن معلقة.

السيرة الشخصية: 

رائف زريق: كاتب وأكاديمي فلسطيني.

العدد ذو صلة
مجلة الدراسات الفلسطينية
خريف
2021