تمثيل المجتمع في الفن التشكيلي الفلسطيني
نبذة مختصرة: 

يتحدث الباحث في هذه الدراسة عن الكيفية التي "مثّل" فيها فنانون تشكيليون فلسطينيون المجتمع، مفسراً دلالات ذلك "التمثيل" وجمالياته في تصوير "الواقع"، وتحديد معالم التكوين المجتمعي الفلسطيني، ليكون الفنان كالشاعر والروائي، مبحراً في فضاءات المكان بتوظيف تقنيات "التخيل" المثيرة.

النص الكامل: 

حظي الفن التشكيلي الفلسطيني بخصوصية مختلفة عن تلك التي نجدها في لوحات الفنانين التشكيليين العرب، وذلك بسبب الظروف السياسية التي كانت وما زالت تعصف بالقضية الفلسطينية، والتي كان لها الدور الأساسي في خلق منهجية مركزية للتعبير عن الحالة التي يواجهها أبناء الشعب الفلسطيني، من خلال تخصيص الأعمال الفنية التشكيلية المتنوعة، من أجل تصوير تلك الظروف، والدفاع عن الهوية الوطنية، وإثبات حق الفلسطينيين في الوجود. ولذلك كان الفن التشكيلي هو الرسالة المرئية الموجهة إلى العالم كله، لإثبات الماضي الذي كان عليه الفلسطينيون، وترسيخ الحاضر، واستشراف المستقبل.

ارتبط الفن التشكيلي الفلسطيني في تطوره بالظروف والوقائع التي يعيشها الفنانون الفلسطينيون داخل أرضهم أو خارجها، فكانت حالهم مشابهة لحال الشعراء والروائيين وكتّاب القصة القصيرة والمسرح، في مواجهة الأحداث والتعبير عنها، إمّا بتجسيد وقائعها مثلما هي، وإمّا بتخيل أحداث ذات علاقة في تكوينها. وبسبب العلاقة الوثيقة بين الفنان والواقع، تمكّن كثيرون من الفنانين من أن يشكلوا صوراً قائمة على جمالية التعبير، ورهافة الحسّ، والقدرة على الإدراك، الأمر الذي جعل أعمال عدد كبير منهم، جزءاً أساسياً من أثاث المنزل الذي لا يمكن للفلسطيني أو العربي أن يستغني عنه. فأيقونة الوصف المباشر استطاعت أن تستحوذ على قلوب الناس، وتبثّ فيهم روح العشق الأبدي لكل شيء يشير إلى بلدهم فلسطين، ولهذا فإن وجود مثل هذه اللوحات في بيوتهم هو جزء من الحفاظ على الذاكرة القومية.

أمّا المنهجية التي اعتمد عليها الفنان التشكيلي الفلسطيني، فتقوم على تصوير المجتمع الفلسطيني من خلال استدعاء الماضي، وربطه بالحاضر، فالمُشاهد لمعظم لوحات الفنانين الفلسطينيين، يمكن أن يلاحظ تجليات "الاسترجاع الزمني" الذي يعكس صورة الحاضر، ويتنبأ بما سيحدث في المستقبل. والعمل الفني الفلسطيني أيضاً مشابه في موضوعاته وأطروحاته المتعددة، لموضوعات الفنون التشكيلية في الدول العربية الأُخرى، إلّا إنه في هذا السياق، غلب عليه طابع مختلف سنحاول تفسيره من خلال اللوحات التي سنعرضها في هذا القسم.

الموضوعات التي طرحها الفنان الفلسطيني تتمثل فيما يلي:

1 - استلهام التراث: هذا الاستلهام يُعتبر أحد العناصر المهمة في تكوين الهوية الثقافية والوطنية الفلسطينية، فمثلما كان التراث مركزية الإلهام الإبداعي عند جواد سليم وفيصل لعيبي وغيرهما من الفنانين العرب، كان التراث الفلسطيني أيضاً، المصدر الرئيسي في بناء ظاهرة "التخيل" الفني التي تساعد على تعايش أبناء المجتمع مع تراث أجدادهم. فللتراث "جذور في وجدان الشعب، فهو تأكيد الأنا ضد الآخر، وإثبات للذات في مقابل الغير، ليعطي لأبناء شعبه رؤية تاريخية تجعله يضع نصب عينيه الزمان كله في لحظة واحدة، كما يمنحهم الأصالة ضد التذويب والتميّع والاغتراب؛ فالتراث هو الحارس للذات، وسبب وجودها وبقائها، والضامن لأمنها ضد أخطار الغير، والذات بلا تراث تتحول إلى الغير المجرد."1

وجرى استلهام التراث في الفن التشكيلي من خلال تصوير اللباس الفلسطيني القديم، وعرض مقتنيات الفلاح الفلسطيني، وعلاقته بأرضه، وإعادة تمثيل الحياة الدينية التي كان يعيشها الفلسطينيون، وإظهار المعتقدات الأُخرى التي كانوا يؤمنون بها، مثل: حفل المولد النبوي، وختان الطفل الصغير، ومظاهر العرس الفلسطيني وغيرها، فكانت اللوحة الفنية هي المشهد المرئي لهذه المناسبات كلها، علاوة على محاكاتها للأغاني والحكايات الشعبية التي تُعدّ أحد المحاور المهمة في تكوين التراث الشعبي الفلسطيني.

2 - المكان وقداسته: إن تمثيل المكان جزء من وسائل الدفاع عن هوية الفلسطينيين من خلال إعادة تصوير العلاقة بين الفلسطيني وبيته من جهة، والفلسطيني وقريته من جهة أُخرى؛ فالبيت بمفهومه المقدس، هو الحيز المكاني الذي يرمز إلى البقاء والوجود، كما أنه "واحد من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وألحان الإنسانية، ويمنح الماضي والحاضر والمستقبل ديناميات مختلفة، كثيراً ما تتداخل أو تتعارض، وفي أحيان تنشط بعضها ببعض، بالإضافة إلى أن البيت يخلق الاستمرارية، ولهذا فبدون البيت يصبح الإنسان كائناً مفتتاً."2 أمّا القرية فهي الفضاء المكاني الأكبر الذي تجتمع فيه العائلات التي تشكل من خلاله شبكة من العلاقات لتوثيق عادات القرية وتقاليدها، ذلك بأن المجتمع الفلسطيني في أصله، وعلى غرار سائر المجتمعات العربية الأُخرى، كان يُقسم إلى ثلاثة أقسام: مجتمع قروي، ومجتمع مدني، ومجتمع بدوي، لكن بعد أحداث النكبة، تشكل مجتمع رابع بات يطلَق عليه اسم مجتمع المخيم، ولكل مجتمع من هذه المجتمعات عادته وتقاليده. وقد راعى الفنان التشكيلي هذا التقسيم، وبنى عليه أحداثاً مرئية "صورية" يوثق من خلالها تلك العادات، معتبراً أن تمثيل المكان وما يتعلق به هو انعكاس فعلي للحياة اليومية التي يمارسها ساكنوه، وبالتالي فإن تصويره في الفن التشكيلي يُعتبر بمثابة الإدراك الحسي لتلك الممارسات كلها. يقول كانط: "كل الأشياء متجاورة في المكان لا تُصدَّق إلّا في حدود أن تكون هذه الأشياء مأخوذة كموضوعات لعياننا الحسي."3

3 - ممارسات الاحتلال: جعل بعض الفنانين التشكيليين من ممارسات الاحتلال وسيلة للتعبير عن "حالة المجتمع الفلسطيني"، فمصادرة الأرض، والعنف ضد الأبرياء، وقضية المعتقلين، مواد مهمة يمكن للفنان أن يجد فيها وقائع الحياة اليومية التي تعيشها الأُسر الفلسطينية، ولا سيما أن لكل أسرة في فلسطين حكاية يسرد من خلالها الفنان مشاهد مرئية تعبّر عن آلام ذلك الواقع.

وسنذكر فيما يلي فنانين تشكيليين سخّروا أعمالهم لتصوير المجتمع الفلسطيني. 

الفنان إبراهيم غنّام4

هو أحد مؤسسي الفن التشكيلي الفلسطيني في مطلع خمسينيات القرن العشرين، اتسمت أعماله بالرومانسية الظاهرة في انفعالاته وأحاسيسه في أثناء تمثيله الحياة اليومية التي كان يمارسها الفلاح الفلسطيني، ولهذا خصص الجزء الأكبر من أعماله لتمثيل "القرية الفلسطينية"، وسرد عاداتها وتقاليدها بمشهد مرئي إدراكي يجعل الناظر "المتلقي" يتعايش مع أجوائها. ولعل أحداث النكبة التي عاشها إبراهيم غنّام، وإصابته بالشلل منذ صغره، واختباره تجربة المنفى، أمور ساهمت في تعزيز الصلة بينه وبين المجتمع الذي عاشه في صغره، وجعلته يبثّ من خلال ذكرياته الروح في جميع الشخصيات والمعالم التي يجسدها، كأن الشخصيات الحاضرة في أعماله الفنية تسرد قصة حياتها اليومية التي كانت تحياها بعيداً عن القيود والقسوة التي فرضها الاحتلال بعد النكبة. فالشوق والحنين يولّدان في نفس صاحبهما التعايش المستمر مع الماضي، ولا سيما الماضي الجميل الذي تتكون فيه ذكريات المحبة بين أبناء المجتمع الواحد، وهو ما جعل الفنان يستعرض أفراح القرية واحتفالاتها، ومواسم الحصاد فيها، وروح التعاون بين سكانها. ولذلك يرى الناقد والفنان التشكيلي الفلسطيني كمال بُلّاطة أن أعمال إبراهيم غنّام تنتمي إلى ما أطلق عليه "اللغة السردية"، بمعنى "اللغة التي كشفت عن شيئيات العلاقة الذاتية للفنان بالنسبة إلى عالم الماضي الذي عاشه في فلسطين. وتستعيد اللغة السردية التتابع المحكي في الوصف المرئي للتفاصيل."5

وتكمن مظاهر "تمثيل المجتمع" في أعمال غنّام في تصوير أنماط المعيشة داخل المجتمع القروي، والتي تحدث عنها حليم بركات في كتابه "المجتمع العربي"، إذ يقول: "ارتبطت حياة أهل الريف بالأرض فتمحورت حول الحقل والبيت أو العائلة ومزارات الأولياء وبيوت العبادة والساحات العامة والعلاقات الأولية الشخصية الوثيقة."6 أمّا الأرض فهي علامة الأبدية في الفكر الفلسطيني، "ومصدر طموحات الفلاح وآماله ومكانته، ومحور علاقته"،7 وقد استحضر إبراهيم غنّام الأرض من خلال لوحة "موسم الحصاد" التي تصور حياة "الفلاح القروي" الذي يحصد قمحه.

تحتوي اللوحة على مشاهد الطبيعة الريفية في فلسطين متجسدة بالقرية الصغيرة المحاطة بعدد من الجبال، وأمامها أرض سهلية كبيرة يستغلها سكان القرية في الزراعة، فهي تمثل المصدر الاقتصادي لهم، وبالتالي، فإن الاعتماد الكلي يكون عليها في ادخار المال، وتأسيس حياتهم.

ويختار الفنان موسم الحصاد، أو مثلما كان يسمى "عيد الحصاد"،8 ليجسد مظاهر التعاون والألفة بين رجال القرية ونسائها، ولا سيما أن موسم الحصاد، علاوة على موسم قطاف الزيتون الذي سأتحدث عنه لاحقاً، هما من مكونات "الترابط الأُسري" داخل المجتمع القروي؛ فالجار يساعد جاره، والصديق يساعد صديقه، وعلى الرغم من التعب الذي يَظهر على الرجل الذي يشرب الماء من إناء الفخار التراثي، فإن زوال تعبه يكون في العمل الذي يتخلله سرد للحكايات والأغاني الشعبية التي تبثّ في نفس الفلاح الحماسة والنشاط. ومن الأغاني الجميلة التي كانوا يرددونها: 

بكره بتخلص حصيدة..

والموارس والغمور..

تَنِلْبِس9 الثوب المطرز..

ونقعد في القصور 

ونلاحظ في هذه اللوحة بعض المشاهد التي وردت في الأغنية الشعبية، كموارس القمح التي يقوم الفلاحون بحصادها، وأكوام الغمور (أي تجميع القمح المحصود بعضه فوق بعض) التي يجلس بجانبها مجموعة من الرجال الذين يأخذون فترة استراحة بعد تعب شاق. ونلاحظ أيضاً الثوب المطرز الذي ترتديه المرأة الفلسطينية، عدا ثوب الرجل الخاص بالعمل، والذي يكون عادة فضفاضاً، كي تسْهُل عليه الحركة في عمله. أمّا الألوان، فيسطع اللون الأصفر المذهب الذي يرمز إلى "الثراء" ووفرة المحصول، وكذلك الألوان المتناسقة مع المشاهد الطبيعية الأُخرى، كالجبال ومناظر البيوت التي تمثل المكون التكميلي للمشهد الرئيسي في اللوحة.

 

 لوحة "موسم الحصاد" للفنان الفلسطيني إبراهيم غنّام

 

وفي لوحة أُخرى، يمثل إبراهيم غنّام ما يقوم به الفلاح القروي بعد انتهاء الحصاد، إذ يجمع ما حصده كله، ويضعه في مكان أكثر قرباً إلى القرية، يطلَق عليه اسم "البيدر"، وهو المكان الذي يجتمع فيه أهل القرية للمساعدة في حصد القمح، بفصل البذور عن سنابلها، في مشهد تقريبي يفصّل مظاهر الحياة التعاونية في القرية. ونشاهد في اللوحة مسجد القرية، وعدداً آخر من البيوت القريبة من منطقة "البيادر"،10 وبعض الفلاحين الذين ما زالوا يحصدون ما تبقّى من أراضيهم الشاسعة، كما تظهر في اللوحة أكوام الغمور المحصودة، والأدوات الرئيسية التي كانوا يعتمدون عليها في حصادهم.

 

 لوحة "البيادر" للفنان الفلسطيني إبراهيم غنّام

 

وقد استعان إبراهيم غنّام بــ "المناسبات" لتصوير الحياة اليومية داخل المجتمع القروي، والتي كانت مقتصرة على الأعياد الدينية، وختان الأطفال، علاوة على المولد النبوي وزيارة المقامات؛ "فالفلاحون يتمسكون تمسكاً عميقاً بالدين، وتحتل المزارات أهمية خاصة في تعبّدهم الطقوسي، فيقدمون لها، بصرف النظر عن انتمائهم الديني والطائفي، القرابين والنذور ويحرقون البخور والشموع، طالبين منها أن تحل مشاكلهم اليومية، ثم إن الفكرة الدينية 'البعث' مستمدة من حياة القرية الزراعية (دفن الحبوب في الأرض شتاء لتولد أو تقوم من الموت زهراً مثمراً وحبوباً في الربيع والصيف)، ومن هنا الاعتقاد القروي العميق أن الموت هو طريق الحياة، واقتران ذلك بأساطير أدونيس وتموز وإيزيس وغيرها."11

ويُعبّر غنّام عن هذه الأفكار والمعتقدات في لوحة بعنوان "زفّة النبي صالح"، والتي تُظهر عدداً من الرجال يتقدمهم رجال دين يحملون رايات تشبه اليوم تلك التي يحملها المتصوفة في مناسباتهم، ويذهبون إلى مقام قريب من قريتهم اسمه "النبي صالح". وكانت فكرة المزارات شائعة في معظم القرى الفلسطينية، الأمر الذي جعل زيارتها جزءاً من التكوين الاجتماعي داخل القرية، إلّا إنها الآن أصبحت جزءاً من الذكريات المقتصرة على كتب التراث والتاريخ ولوحات بعض الفنانين. ويبدو من خلال اللوحة أن الفنان يستذكر مناسبات قريته الدينية التي تقع بالقرب من مدينة حيفا الساحلية.

 

 لوحة "زفّة النبي صالح" للفنان الفلسطيني إبراهيم غنّام

 

ولعل موضوع "ختان الطفل"، أو ما يسمى بالفلسطينية "طهور الطفل"، من الموضوعات الاجتماعية التي انفرد بها إبراهيم غنّام، من خلال تجسيده مظاهر احتفال أهل القرية بختان أحد أطفالها؛ فالختان أيضاً يُعتبر من الطقوس الواجب الاحتفال بها، لأنه يمثل جزءاً من عادات القرية وتقاليدها، ويتم بوجود المطهّر الذي يكون عادة "شيخ القرية" محاطاً بعدد من الرجال والنساء والأطفال، في مشهد بانورامي جميل يبعث الاعتزاز في نفس المُشاهد. ويتخلل حفل الختان الأغاني الشعبية التي تبارك المولود، ويظهر في اللوحة تفاعل الرجال والنساء مع تلك الأغاني من خلال تصفيقهم، وعلامات السعادة التي تبدو على وجوههم. ومن الأغاني التي كانوا يرددونها: 

في القنّية يا زارعات الورد في القنّية يا ميمتي يمّه

في العليّة يا مطهّر الصبيان في العليّة يا ميمتي يمّه

في القناني يا زارعات الورد في القناني يا ميمتي يمّه

في العلالي يا مطهّر الصبيان في العلالي يا ميمتي يمّه12 

ومن الجماليات التي ظهرت في اللوحة أيضاً، التصوير الداخلي للبيت الفلسطيني، بما يحتويه من أثاث ومقتنيات شخصية تجسد "التعالق الروحي" بين الفلسطيني وتراثه، فنرى جلسة الضيوف، وخزائن الملابس، والبندقية المعلقة، وأواني الفخار، ودلّة القهوة، وصحون القش المعلقة على يمين الشباك وشماله، والزي الشعبي الذي يرتديه الرجال والنساء، والحطة والعقال (التي يضعها الرجال على رؤوسهم)، وهذه كلها مظاهر "استذكاريه" تعيد إلى نفس المتلقي جمال الحياة الريفية، وما تتضمنه من عادات وتقاليد. وبالتالي، فإن مثل هذه اللوحة يساهم في الحفاظ على ما تبقّى من تلك العادات في الذاكرة الجمعية الفلسطينية والعربية. كما تميّزت اللوحة بتناسق الألوان التي ساهمت في التكوين الجمالي داخلها.

 

 لوحة "الطهور" للفنان الفلسطيني إبراهيم غنّام

 

ومن المناسبات التي أعاد إبراهيم غنّام بريقها إلى الذاكرة، مشاهد العرس الفلسطيني، مقتصراً على عرض جانب "الدبكة الشعبية" التي يمارسها الرجال للاحتفال بعرس أحد شباب القرية. وتُظهر لوحة "الدبكة" مشهد الفرح داخل القرية، بعرض مجموعة من الرجال الذين يدبكون على ألحان الأغنية الشعبية الفلسطينية: الظريف في الطول، والميجنا، والعتابا، وإلى جانبهم تقف مجموعة أُخرى من النسوة اللواتي هن الأُخريات يغنين ويرقصن. ومرة أُخرى، نلاحظ استعراض اللباس الفلسطيني، للرجال والنساء، علاوة على تصوير المظهر الخارجي لبعض بيوت القرية.

 

لوحة "الدبكة الشعبية" للفنان الفلسطيني إبراهيم غنّام

 

إن الأعمال الفنية التشكيلية التي قدمها الفنان إبراهيم غنّام أدت دوراً مهماً في الحفاظ على ما تبقّى من التراث الفلسطيني، من خلال ما أسميه "الحكايات المرئية" التي عبّر الفنان من خلالها عن مفهوم "المجتمع القروي"، ليشخّص لنا الوقائع الجميلة التي تبثّ في نفس المتلقي الرغبة في التعايش مع تلك الشخصيات المتخيلة، كما أن هذه اللوحات بالنسبة إلى إبراهيم غنّام نفسه، كانت "بمثابة درعه الوحيد الذي وقاه في عزلته من كابوس حياة المخيم الذي فُرض عليه العيش فيه بالوطن العربي."13 

الفنانة تمام الأكحل14

تُعتبر الفنانة الفلسطينية تمام الأكحل من الفنانين التشكيليين المشهورين ليس في فلسطين فحسب، بل في العالم كله أيضاً، ولا سيما عندما يرتبط اسمها باسم زوجها، الفنان التشكيلي الكبير إسماعيل شموط. وقد اعتمدت الأكحل في تكوين موضوعات لوحاتها على تجربتها الحياتية الأولى في مدينة يافا قبل الهجرة، وعلى المعاناة التي عاشها أبناء شعبها بعد النكبة والنكسة، علاوة على الانتفاضتين، الأمر الذي ولّد لديها سمة "العيش مع الماضي"، كأنه الجزء المتمم لذاتها، بحيث جعلت من لوحاتها مشاهد تراجيدية وتعبيرية ورمزية تعكس من خلالها واقع الحياة الفلسطينية، فصوّرت الريف اليافوي قبل الهجرة، وفي أثناء عملية التهجير، ووصفت الواقع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، كحال التعليم في ظل الظروف السياسية الراهنة، والمرأة الريفية وتعلقها بالتراث الشعبي، وغير ذلك من أمور. ولهذا نراها تبحث عن الماضي لتصور وقائع الحاضر التي تعيدها إلى منزلها المحتل في يافا، فــ "التخيل ليس تذكّراً"،15 مثلما يقول هنري برجسون، وإنما هو تعايش مع الحدث المتخيل نفسه، كأنه جزء منك، تدرك أحداثه كلها، وتتعايش معه كأنه واقعك الذي تحياه.

اتخذت تمام الأكحل من مدينتها يافا، الفضاء الرمزي لتصوير "الكيفية" التي كان يعيشها المواطن الفلسطيني في أرضه قبل النكبة وفي أثنائها، متخذة من "شجر البرتقال" المادة الإشارية التي توضح مقصودية المكان، على اعتبار أن مناطق يافا كانت مشهورة بزراعة البرتقال. ففي لوحة "يافا عروس البحر"، نلاحظ الحياة الاجتماعية التي كان يعيشها سكان يافا: صائدو الأسماء، أطفال يسبحون بسعادة ومحبة، رجل يجلس في أحد المقاهي المطلة على البحر، مدخل إحدى حارات "أحياء" المدينة، أطفال يلعبون اللعبة الشعبية المعروفة في فلسطين بــ "شبرا أمرا"، وعلى الجانب الأيمن من اللوحة، رجال يقطفون البرتقال، وتجسيد لبعض البيوت اليافوية، لتكوّن الفنانة بهذا التركيب "بيئة المجتمع"، ساردة بصورة مرئية الأفعال اليومية التي كان أفراد المجتمع يقومون بها.

 

 

 لوحة "يافا عروس البحر" للفنانة الفلسطينية تمام الأكحل

 

وتعبّر الأكحل في لوحاتها أيضاً عن "الحياة العلمية" التي عاشها وما زال يعيشها الطلبة الفلسطينيون، مصورة فيها معاناة الطلبة في أثناء ذهابهم إلى مدارسهم، بسبب وجود الحواجز العسكرية، وجدار الفصل العنصري الذي شكل بدوره جزءاً من مخيال الفنان التشكيلي يعبّر من خلاله عن معاناة الشعب الفلسطيني، علاوة على إغلاق المدارس ومنع الطلبة من دخولها. إلّا إن "الإصرار" على التعلم جعل من المجتمع الفلسطيني مجتمعاً متعلماً، على الرغم من الأحوال الصعبة التي يمر بها، بحيث انخفض جداً معدل الأمية في فلسطين، مع ازدياد عالٍ في نسبة الطلبة الجامعيين والخريجين. ففي لوحة "سهام ومريم" - التعبيرية الرمزية التي تفسر الواقع المأسوي الذي يعيشه الطالب الفلسطيني - نشاهد طالبتين تظهر عليهما ملامح الجد والاجتهاد، من خلال جلستهما التأملية مع الكتاب، وتحيط بهما أسلاك شائكة تغلق أبواب المدرسة، وتمنعهما من الدخول. وتظهر المدرسة بالخطوط الجميلة لمجموعة من المقاعد المدرسية الفارغة، بسبب إغلاق المدرسة من جانب الاحتلال، إلّا إن الجلوس خارج المدرسة، والقراءة التأملية على الرغم من هذه الإجراءات، هما إشارة إلى "العزيمة والإرادة" اللتين يمتلكهما الطالب الفلسطيني في مواجهة الصعوبات التي يعانيها.

 

 لوحة "سهام ومريم" للفنانة الفلسطينية تمام الأكحل

 

وكذلك الحال في لوحة "جدار الفصل العنصري"، ذلك الجدار الذي أقامته إسرائيل لفصل الضفة الغربية عن أراضي الداخل الفلسطيني، أو ما يُسمّى أراضي 48، ونتج منه تقسيم وسلخ عدد كبير من المدارس، بحيث بات قسم منها في أراضي الضفة، والقسم الآخر في أراضي الداخل الفلسطيني، الأمر الذي جعل الطلبة يعانون في الدخول إلى تلك المدارس ومتابعة دراستهم. ففي اللوحة نشاهد الطلبة وهم يحاولون العبور، كما نرى بعض المشاهد الثانوية التي تُبرز المستعمرات الإسرائيلية، واستمرارية مصادرة الأراضي بقطع أشجار الزيتون، وبناء بيوت سكنية مكانها، كأن الفنانة بهذه الأعمال، تحاول أن ترسم معالم "مجتمع الكرامة"،16 وفق تعبير قسطنطين زريق، هذا المجتمع الذي يسعى لنيل حريته بعلمه وثقافته.

 

 لوحة "جدار الفصل العنصري" للفنانة الفلسطينية تمام الأكحل

 

توظف الأكحل في أثناء رسمها الجدار الفاصل، وما يتضمنه من دلالات مهمة تؤثر في سلوكيات المجتمع، تقنية تتمثل في التصوير المرئي لما خلف الجدار، كأنها تسرد لنا طبيعة الحياة الموجودة في أراضي 48، والتي لا يتمكن كثير من الفلسطينيين (فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة) من زيارتها أو رؤيتها، فنشاهد على سبيل المثال في لوحة "العقبات الإسرائيلية" 2012، عدداً من المشاهد المتداخلة التي تصور للناظر الواقع المعاصر الذي يعيشه العامل الفلسطيني في أثناء ذهابه إلى عمله، مع مشهد آخر لفتاة تحمل حقيبتها، وتحاول صعود الجدار، والذهاب إلى مدرستها، علاوة على مشهد آخر لعدد من العمال الذين يقفون داخل آلات التفتيش، قبل ذهابهم إلى عملهم. والملاحظ أيضاً في الجزء الخلفي للجدار الذي تصور فيه الفنانة، ما يبدو أنه بحر يافا، الذي كان يمثل المخيال الفعلي لكثير من رسوماتها.

 

 لوحة "العقبات الإسرائيلية" للفنانة الفلسطينية تمام الأكحل

 

وكانت الأكحل قد مثّلت صورة العامل أيضاً داخل المجتمع العربي في عدد من لوحاتها التي رسمتها في سبعينيات القرن العشرين، معبّرة فيها عن طبيعة الأعمال التي كانت موجودة في الدول العربية، فصوّرت مصنع الأخشاب والنسيج، ومعامل الحدادة والخياطة، ومطابع الصحف والمجلات، وغير ذلك. وتهدف الأكحل من ذلك إلى إظهار دور هذه الصناعات في تنمية المجتمع والرقي به، فالنجارة جزء من التكوين المعماري الذي يحتاج إليه الفرد في أثناء بناء بيته، وكذلك الحال مع مصانع الحدادة، أمّا الخياطة فشائعة في المجتمع العربي، وكان لها قيمتها العالية في إثراء الاقتصاد الوطني قبل الدخول في سياسة "الاستيراد شبه الكلي" من الدول الصناعية الكبرى. إن تمثيل مثل هذه الصناعات توضيح لمقومات المجتمع التي تساعد في النهوض والارتقاء به بين المجتمعات الأُخرى، أمّا تصوير المطابع والمجلات، ففيه إظهار للحركة الثقافية والاهتمام الكبير بالقراءة وبمطالعة كل جديد تنتجه الطبقة المثقفة من المجتمع. وبالتالي، جاءت هذه الأعمال لتُظهر عوامل التنمية الاقتصادية والثقافية وحتى الاجتماعية "من خلال تصوير العلاقة بين المرأة والرجل"، والتكافؤ الكلي بينهما في العمل بمثل هذه الصناعات، علاوة على توطيد معنى "المشاركة" و"التعاون"، وإظهار دورهما في تطوير المجتمعات.

 

 

 لوحتا "المطبعة" و"معمل الخياطة" للفنانة الفلسطينية تمام الأكحل

 

الفنان نبيل عناني17

كانت اهتمامات الفنان الفلسطيني نبيل عناني بتمثيل "المجتمع الفلسطيني" واضحة في اللوحات التي صوّر فيها "البيئة الجغرافية" التي يستعرض من خلالها شكل الأرض الفلسطينية بمكوناتها والبيوت المقامة عليها. فالبيئة، مثلما يقول حليم بركات، هي من مقومات المجتمع العربي، لأنها جزء من هوية الدولة، فالجبال والوديان والسهول، على سبيل المثال، تعكس طبيعة البلد ومناخه. وقد مثّل عناني بيئة فلسطين الجبلية، وما تحتويه من أشجار زيتون ولوز وتين، علاوة على تصوير "الشكل الخارجي" للقرية الفلسطينية، أي الكيفية التي بُنيت عليها القرية التي تكون عادة على قمة جبلية متوسطة الارتفاع، يتوسطها مسجد قديم يحيط به عدد من البيوت المتلاصقة، وهذا الشكل هو الدارج لبدايات النشأة الأولى للقرى الفلسطينية كافة. وقد اعتمد عناني في تجسيد هذه البيئة على إعادة تصوير بعض القرى الفلسطينية الواقعة وسط الضفة الغربية وجنوبها، كنموذج وصفي يمكن اعتماده في معرفة البيئات المتنوعة في فلسطين.

نلاحظ على سبيل المثال، تمثيله لقرية "بتّير" التابعة لمدينة بيت لحم، جنوب الضفة الغربية، فاللوحة تصوّر موقع القرية الواقعة في منطقة متوسطة الارتفاع، يعلوها من الخلف سلسلة جبلية عالية مزروعة بأشجار الزيتون، ومن الأمام منطقة سهلية مزروعة بأشجار اللوز والسرو والزيتون. كما نشاهد جمال الألوان التي تتناسق مع المشاهد المرسومة داخل اللوحة، مع حضور كثيف للون الأخضر الذي يعكس جمال الطبيعة الريفية، على اعتبار أن الأخضر من الألوان الجذابة والمريحة لعين الناظر، ووجوده يدل على النماء والازدهار.

 

لوحة "بتّير" للفنان الفلسطيني نبيل عناني

 

واهتم عناني أيضاً بتصوير مقوّم آخر من مقومات المجتمع العربي هو "العائلة"، لأنها من الأساسيات المرتبطة بتكوين المجتمع، فهي "نواة التنظيم الاجتماعي ومركز النشاطات الاقتصادية في المجتمع العربي القديم والحديث، فتتمحور بها وحولها حياة الناس، وهي أيضاً الوسيط بين الفرد والمجتمع، والمؤسسة التي يتوارث فيها الأفراد والجماعات انتماءاتهم الدينية والطبقية، وحتى السياسية والثقافية إلى حد بعيد."18 وكان تمثيل عناني للعائلة ماثلاً في تصوير الأب والأم والأبناء، بمظاهر متنوعة تتوافق والبيئة التي تعيش بها تلك العائلة. وهدف الفنان من إعادة تصوير العائلة يكمن في توثيق "الذاكرة الجمعية" الفلسطينية، وتأصيل التاريخ الذي كانت عليه العائلات الفلسطينية، وترسيخ الهوية القومية، والاعتزاز بالذات، فالمشاهد المرئية التي صورها عناني من خلال تمثيل العائلة الفلسطينية، تعكس اللباس الفلسطيني، فكل عائلة ترتدي الملابس التي تتوافق مع عادات المنطقة التي تعيش فيها، هذا فضلاً عن تكوين رمزي مضمّن يتمثل في الحديث عن أهمية الأبوين ثم الأولاد ثم الأحفاد في الترابط المجتمعي.

ووجود الأطفال في لوحات "العائلة" مكوّن رئيسي لتأطير المعنى الدلالي لمفهوم "العائلة الممتدة" التي تبدأ بالجد والجدة، ثم الولد والبنت، ثم الحفيد والحفيدة، وهكذا، كأن تصوير العائلة في اللوحة هو التعبير المستقبلي لتلك العائلة، "فتماسك العائلة يتحقق بواسطة إدراج الطفل في المجتمع من خلال اعتماده على العائلة وربطه بها ودعمه إياها."19

 

 

لوحتا "العائلة"، من الأعلى عائلة من الناصرة، ومن الأسفل عائلة من مدينة بيت لحم، للفنان الفلسطيني نبيل عناني

 

ومثّل بعض الفنانين الآخرين صورة العائلة أيضاً، كتعبير عن التكوين المجتمعي الفلسطيني، ومنهم الفنان إسماعيل شموط الذي رسم لوحة "العائلة الفلسطينية في موسم قطاف ثمار الزيتون"، والتي تتكون من الجدة والابن والزوجة والأحفاد، وقد جاءت صورتهم ملاصقة لشجرة الزيتون المعمّرة التي ترمز إلى الصمود، ودوام البقاء، كأنه بذلك يريد أن يصور لنا صمود العائلة الفلسطينية، والذي ينتقل من الأجداد حتى أحفاد الأحفاد. ولو نظرنا إلى سيميائية الحركة الموجودة في اللوحة، لوجدنا أصغر الأطفال فيها، الحاضر في المقدمة، رافعاً يده بصورة تدل على عبارة "إنّا باقون"، وهي العبارة الرمزية التي يرددها الأطفال والشباب والشيوخ والنساء في فلسطين.

 

لوحة "العائلة في موسم قطاف ثمار الزيتون" للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط

 

ونجد المشهد نفسه في لوحة "العائلة" للفنان سليمان منصور الذي جعل من ظلال شجر الزيتون الفضاء المكاني الذي يصور فيه عدداً من أفراد الأسرة الفلسطينية التي تنتمي إلى المجتمع المدني، كما نحت سليمان منصور مع نبيل عناني مجسماً لعائلة فلسطينية يرتدي أفرادها الزي الفلسطيني الخاص بالمنطقة التي ينحدرون منها.

 

مجسم "العائلة" للفنانَين سليمان منصور ونبيل عناني

 

الفنان فتحي غبن20

تميزت لوحات الفنان الفلسطيني فتحي غبن بملامستها حياة الريف والبادية الفلسطينية، من خلال تتبّعه الحياةَ اليومية التي يعيشها أفراد المجتمع، ولا سيما النساء منهم، فتختلف لوحاته عن لوحات إبراهيم غنّام في أن الأخير اكتفى بالتصوير العام لأجواء القرية وما فيها من مناسبات، أمّا غبن، فصوّر المجتمع القروي والبدوي عن قرب، بحيث كان تمثيله للحياة الاجتماعية نابعاً من الداخل، فكان كالرسام العليم الذي يدرك يوميات المواطن. وقد تمثّل ذلك من خلال عرضه المتسلسل للأعمال اليومية التي تقوم بها النسوة، ليقرّب الصورة إلى المتلقي، ويجعله جزءاً من مكونات الحياة التي يصورها، وذلك من خلال "إدراك" الحركات التفصيلية التي تقوم بها شخصياته في اللوحة. وبالتالي، فإن أهمية أعمال فتحي غبن تكمن في توثيق العلاقة بين المتلقي والعمل الفني المعروض، من خلال المشاهد الدرامية الجميلة التي يصورها.

تمثل المرأة، مثلما ذكرت سابقاً، الشخصية الرئيسية في أغلب لوحات غبن، ويعود ذلك إلى تصوير دورها في النهضة بالمجتمع، من خلال قيامها بواجباتها المنزلية، تجاه زوجها وأولادها، وتقديم جميع الخدمات التي يمكن أن تساهم في الارتقاء بمجتمعها. ولعل غبن أراد أن يظهر الصورة الإيجابية لعلاقة المرأة بالرجل، تلك العلاقة التي تعرضت لانتقاد لاذع في كثير من كتب علم الاجتماع العربي، والتي أكد جلّها فقدان المرأة العربية حقوقها في مجتمعها.

واللافت في لوحات غبن الإيحاءات الشخصية للمرأة التي تظهر سعادتها في الأعمال التي تقوم بها، وهو ما يعزز الرأي الذي أذهب إليه في أن الفنان أراد أن يصف صورة معاكسة لما ورد في كتب الدراسات الاجتماعية، بل ربما تكون لوحاته هي الجانب التصويري لما كتبه هشام شرابي في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي"، والذي خصص جزءاً منه للحديث عن وظيفة المرأة في المجتمع العربي. وقد خلص شرابي إلى أن حق المرأة أُهدر، وأن الظلم الواقع عليها واضح في كثير من المجتمعات العربية، ويطرح بعض الرؤى التي يمكن أن تساهم في رقي المجتمع، فيقول: "مستحيل أن يتغير المجتمع العربي ما دامت المرأة العربية في وضعها الراهن، وذلك لأنها هي التي تصنع الإنسان العربي. وطالما أن المرأة لم تتغير بعد فالإنسان العربي غير قابل للتغير، وعندما قال نابليون: إن اليد التي تهز السرير هي اليد التي تهز العالم، قصد بذلك أن المرأة لا الرجل هي قاعدة المجتمع وركيزته."21

وعلى هذه الفكرة بنى فتحي غبن لوحاته، محاولاً أن يرسم حدود الإبداع التعاوني الذي تقدمه المرأة الفلسطينية إلى مجتمعها، من خلال التعبير عن المرأة التي تحيك الصوف، وتحصد القمح تحت أشعة شمس حزيران الحارقة، وتجلب الماء يومياً من الآبار وعيون المياه التي تبعد عن منازل القرية، وتطحن القمح ثم تخبزه، وتقدّمه إلى زوجها العائد من عمله مرهقاً، وإلى أولادها العائدين من مدرستهم، أو أولئك الذين يشتغلون مع أبيهم. هذه هي المرأة التي قدّمها غبن إلى المتلقي العربي، لتساهم لوحاته في دراسة المجتمع العربي عامة، والفلسطيني خاصة، من وجهة نظر الفن التشكيلي.

نلاحظ في لوحة "المرأة المتجهة إلى الحقل"، ملامح المرأة الفلسطينية الشابة، فهي ترتدي الثوب الفلسطيني المطرز الذي توثّق من خلاله هويتها الوطنية، وتحمل الفأس الذي تعلّق فيه طعامها، وتضعه على ظهرها - وتجدر الإشارة إلى أن "الفأس"، وهي الأداة التي يستخدمها المزارع لزراعة أرضه، ترمز إلى القوة في الفكر الكنعاني القديم - ماسكة بيدها "إناء الماء الفخاري" الجميل، لتشعرك هذه اللوحة بالدور العظيم الذي تقدمه المرأة في سبيل الحفاظ على أرضها وأرض عائلتها. والألوان في اللوحة متناسقة مع كل عنصر فيها، فاللون الأصفر الساطع والماثل في صورة الشمس، يدل على شدة الحرارة، كما أن اصفرار سنابل القمح التي مرت من خلالها الفتاة، إشارة إلى شهر حزيران / يونيو، وبداية موسم الحصاد في فلسطين. أمّا لون الثوب فهو اللون الاعتيادي الذي يتوافق مع حقيقة ألوان الثوب الفلسطيني، والتي يُعدّ الأزرق الغامق والأسود أشهرها.

 

 

 لوحة "المرأة المتجهة إلى الحقل" للفنان الفلسطيني فتحي غبن

 

وفي لوحة "الطابون" نجد صورة للمرأة التي تخبز الخبز في التنور القديم الذي يطلَق عليه في فلسطين اسم "الطابون"، والذي ما زال موجوداً في عدد من القرى، وهذا النوع من اللوحات، يثير في نفس المُشاهد متعة الحياة البسيطة التي كان يعيشها الناس في ذلك الزمن. كما تعكس اللوحة الحياة القروية الأُسَرية، فيظهر الزوج المزارع حاملاً على ظهره "الحطب" الذي تستخدمه المرأة في إشعال تنورها، أمّا الطفلان، فالأول يجلس بجوار أمه وهو يحتضن رغيف الخبز الطازج، والثاني يلعب بلعبة شعبية يصنعها الأطفال بأنفسهم، وهي ما زالت معروفة عند بعض الأطفال في فلسطين حتى الآن. ولعل المتلقّي الفلسطيني، والعارف بالثقافة الشعبية والاجتماعية الفلسطينية، يدركان واقعية هذه اللوحة التي لا تزال حاضرة في بعض القرى الفلسطينية.

 

 

 لوحة "الطابون" للفنان الفلسطيني فتحي غبن

 

واتسمت أعمال فتحي غبن أيضاً بتمثيلها حياة البداوة الفلسطينية، فهو يعرض بعض المشاهد التخيلية التي تتوافق مع الحياة الواقعية التي يعيشها البدو في جنوب فلسطين على وجه التحديد. وتُعتبر البداوة من أنماط العيش في المجتمع العربي، فالحياة فيها "تقوم في الأساس على تربية المواشي والرعي والترحال تلاؤماً مع البيئة الصحراوية، تلك البيئة التي تحدد في الأساس حجم الجماعات التي قطنتها وأصنافها، والتنظيم الاجتماعي المتّبع من قبل هذه الجماعات، وأساليب معيشتهم، وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم"،22 كما أنهم "يتخذون البيوت من الشَّعر والوبر أو الشجر، أو من الطين والحجارة، بقصد الاستضلال، وقد يأوون إلى الغيران، والكهوف."23

ومثّل غبن المجتمع البدوي في الصحراء وفي المراعي الجبلية، وتشكل المرأة في هذا المجتمع أيضاً، الشخصية الرئيسية التي اعتمد عليها الفنان في تفسير معالم ذلك المجتمع، واستبطان الدلالات التي تتضمنه. ففي لوحة "المرأة البدوية"، على سبيل المثال، نجد التمثيل الدقيق لمعالم المكان الصحراوي، من أشجار النخيل، وبيوت الشَّعر، ووجود الإبل التي ترمز إلى تعمقهم في العيش داخل الصحراء على الرغم من قسوة بيئتها، يقول ابن خلدون: "وأمّا مَن كان معاشهم الإبل، فهم أكثر ظعناً، وأبعد في القفر مجالاً."24

وفي اللوحة أيضاً يوجد قطيع من الأغنام، وعدد من الكلاب التي تُستخدم للحراسة، وهذا شائع في البيئة الرعوية، علاوة على التنور الخاص بأهل البادية، والذي يطلَق عليه في فلسطين اسم "الصاج"،25 وهو ينتج خبزاً مختلفاً جداً عن خبز "الطابون" الذي نجده في المجتمع القروي. ونشاهد أيضاً الثوب المطرز، وغطاء الرأس والوجه الذي تضعه المرأة ربما ليقيها من رمال الصحراء في حال هبوب الرياح القوية، كما نلاحظ الألوان المتجانسة التي تتوافق مع التعبير التشخيصي للشخصيات، والتعبير الوصفي للأماكن والحيوانات داخل اللوحة.

 

 لوحة "المرأة البدوية" للفنان الفلسطيني فتحي غبن

 

ولا يقتصر دور المرأة في المجتمع البدوي على الاهتمام بالبيت وما يحيط به فحسب، بل تخرج إلى المراعي أيضاً، وتساعد زوجها في رعاية الأغنام، فتقف متأملة تارة، ومبتسمة تارة أُخرى، بحيث يستطيع الذي يشاهد لوحة "الراعية" أن ينظر إلى المرأة ذات الجمال العربي، والتي ترتدي ثوبها الفلسطيني البدوي، وتقف متأملة في البيئة الجرداء التي تخلو من العشب والماء، وأن يلاحظ المعنى الرمزي الذي يفسر الواقع الذي تعيشه فلسطين؛ فما الجفاف إلّا رمز على قسوة الحياة التي يعيشها سكانها، وما الشجرة الجافة والوديان الخالية من الماء إلّا نتائج تلك القسوة. ولذلك، فإن أهمية "التمثيل" في الفن التشكيلي تظهر في تقسيم اللوحة الفنية إلى قسمين: القسم السطحي الذي يعكس المظهر الخارجي في اللوحة (في لوحة الراعية، يظهر لنا دور المرأة في رعي الأغنام والخروج إلى المراعي)، وقسم داخلي، أو ما يمكن تسميته الجزء العميق "المضمر" الذي يتضمن المعنى الدلالي للوحة. وكلا القسمين مهم في توطيد العلاقة بين الفن والمجتمع، ولذلك يقول الناقد الإيطالي عمر كالابريزي (Omar Calabrese) في كتابه: "كيف يُقرأ العمل الفني": "في الرسم التصويري، يجب علينا أن نفترض وجود 'مساحة نظرية' يتم التعبير عنها جسدياً في بعض الأحيان"؛26 ويقصد بالمساحة النظرية، المساحة التعبيرية أو التفسيرية التي تتضمن المعنى الداخلي في اللوحة. وبناء على هذا القول، فإن تشخيص المرأة الراعية في هذه القفار، يراد منه المجتمع كله، الذي يعيش حالة قلق دائم بسبب مصادرة أرضه ومائه، والتي نتج منها هذا الجفاف، لتكون هذه اللوحة مفسرة للواقع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، فنلاحظ التمثيل بين الصورة العامة للوحة ومعانيها المضمنة.

 

 لوحة "الراعية" للفنان الفلسطيني فتحي غبن

 

وفي لوحة أُخرى (لوحة الراعية 2)، صوّر غبن المرأة الراعية بوجه مشرق تعلوه ابتسامة عميقة تعبّر عن سعادتها بعملها، إذ تُظهر اللوحة شابة فلسطينية، وجهها المشرق يتلاءم مع خضرة المنطقة الرعوية التي ترعى فيها أغنامها، ويمكن أن تكون هذه اللوحة هي الوجه العاكس للوحة السابقة، بمعنى أن معناها الباطن يعكس معنى الأمل والمحبة. كما نلاحظ الثوب الفلسطيني - المادة الأساسية التي يعتمد عليها الفنان الفلسطيني في تشخيصه للمرأة الفلسطينية - والشجرة المورقة، والأرض المنبتة، وهذه كلها علامات على الحياة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه اللوحة تعكس الصنف الثاني من الحياة البدوية التي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته، وهو الصنف الذي يتخذ من الكهوف والتلال مسكناً له، ولا يوغل عميقاً في الصحراء، ولعل اللباس والبيئة التي تقف فيها الشخصية يشيران إلى هذا المعنى. ويكثر هذا الصنف في عدد كبير من المناطق القريبة من المجتمع القروي في فلسطين.

 

 لوحة "الراعية 2" للفنان الفلسطيني فتحي غبن

 

إلى جانب هذا كله، فإن أعمال فتحي غبن تمثل مشاهد درامية تتسم بعمقها الدلالي والفني، وتستعرض الحياة اليومية التي كانت تعيشها المرأة الفلسطينية. ولعل عمق التمثيل ودقته وشموليته من أبرز ملامح تلك الأعمال، فاللوحات التي تمثل "الريف الفلسطيني" لا تقتصر على ما تقوم به المرأة من أعمال فقط، بل تمثل أيضاً جميع الجزئيات المتعلقة بحياتها مع أولادها وجاراتها، بحيث يؤسس الفنان أعماله من منطلق "اجتماعية العلاقة"، وهي البنية الدلالية في أعماله؛ فالمعنى الدلالي جزء من التكوين الشكلي للعمل الفني التشكيلي، وهو يثير في نفس المتلقي أو المُشاهد متعة الشعور بالأحداث المجسدة داخل ذلك العمل.

أمّا في لوحة "القرية"، فنرى البناء المعماري للبيوت القروية، والباعة المتجولين، والنساء اللواتي يحملن سلالهن لشراء حاجاتهن، وبعض النسوة يقفن أمام بيوتهن وهن ينظرن إلى الأُخريات، ويلقين السلام عليهن ويتحدثن معهن، والمرأة العجوز التي تتحدث مع أحد أحفادها ليُحضر لها بعض ما تحتاج إليه، وهذه كلها عناصر تكوينية لمشهد درامي يمكن للمُشاهد أن يُنطق الشخصيات الحاضرة فيها، ويتفاعل معها كأنه جزء من ذلك المجتمع، ذلك بأن إدراك الشخصيات في اللوحة الفنية يأتي نتيجة شعوره العميق بالسلوكيات المرئية الظاهرة فيها.

 

 لوحة "القرية" للفنان الفلسطيني فتحي غبن

 

الفنان كامل المغني27

بُنيت الأعمال الفنية التي قدمها الفنان الفلسطيني كامل المغني على فكرة "الدمج" بين الواقع والأسطورة، من خلال ربط الرموز والأساطير الكنعانية بالواقع الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني. وتأتي هذه الفكرة لتكوّن علاقة المجتمع بتراثه وحضارته القديمة التي نشأ عليها، فالكنعانيون هم من أوائل القبائل التي سكنت فلسطين، وخلّفوا وراءهم تركة عظيمة من العادات والتقاليد والأساطير التي أُدخلت إلى الثقافة الشعبية الفلسطينية، فكانت العنصر التكويني الرئيسي فيها. وقد حظي نتاج هذه الحضارة بأهمية كبيرة في الفكر الفلسطيني قديمه وحديثه، وأصبحت متعلقاتها هي الهوية الاستدلالية على الوجود الفلسطيني، لتكون بذلك من عناصر التعبير الأدبي والفني المعاصر في فلسطين.

فمن خلال ما تنتجه هذه الحضارات من رموز أسطورية، يستطيع الإنسان "أن يتعلم فن التعبير؛ بمعنى، اكتساب القدرة على تنظيم غرائزه وآماله ومخاوفه."28 ومن هذا المنطلق، تتكون العلاقة بين الأساطير - كفنون قديمة - وبين المجتمع الذي يجد في حضارات أجداده بعض التشابه الذي يوصله إلى الهدف المنشود، الأمر الذي يولّد في ذهن المتلقي متعة "الربط" بين نتاج تلك الحضارات وواقعه. فالحاجة إلى الأسطورة في الفن التشكيلي الفلسطيني ترميز إلى "الهوية القومية"، ودفاع عن الحق الفلسطيني في أرضه، واستشهاد مرئي للتعبير عن الأيام الصعبة التي يعيشها أبناء المجتمع، وذلك من خلال توظيف الرموز الكنعانية التي تتوافق مع الواقع الذي يعيشه الفنان؛ فمتعة الفن تكمن في قدرته على التعبير عن الواقع بجميع الوسائل الإبداعية، وما الحضارات القديمة وما نتج منها من أساطير إلّا جزء من تلك الوسائل التي يرى فيها الفنان عامل التأثير الملائم الذي يثري ثقافة المتلقي.

وكان للوحات كامل المغني دور في تكوين المعرفة في الثقافة الفلسطينية، فقد قدّم مجموعة مهمة من الأعمال التي تصوّر واقع فلسطين الحديث، بأسلوب يساعد على تخليده في الفكر والوجدان الحسي الفلسطيني، لأن الفن التشكيلي الذي يستحضر تراث مثل هذه الحضارات، "يعيدنا إلى الطبيعة وإلى التأمل في الغايات القائمة خلف المظاهر الكونية المختلفة، ويرجع ذلك إلى الحدس الخلّاق، والإدراك الباطني المدهش والرائع."29 إلّا إن تلقّي مثل هذه الأعمال، يكون مقتصرا ً في العادة على المتلقي الواعي الذي يقوم بدوره بتفسير معالم اللوحة، وإظهار الأبعاد الرمزية المضمنة داخلها، لكن هذا لا يلغي القيمة الدلالية التي تحملها تلك اللوحات، من تطوير في ثقافة المجتمع، وتعزيز علاقته بتاريخه، ولا سيما أن المجتمع الفلسطيني يمر بظروف حرجة تجعله يخرج عن إطار ما يألفه إلى استرجاع ما يجد فيه اعتزازاً بذاته، وتوثيقاً لأصوله. يقول إرنست كاسيرر: "لا يمكن لأي قوة عقلانية في الأوقات الحرجة أن تطمئن إلى قدرتها على الحيلولة دون عودة ظهور التصورات الأسطورية القديمة."30

والملاحظ أن أغلبية أعمال كامل المغني غلب عليها الطابع السريالي المدمج بتقنيات فنية خاصة بالفنان نفسه، وتتمثل في: استخدام الألوان الداكنة، والاهتمام باللون الأرجواني دون غيره من الألوان في معظم لوحاته. ويرى المغني أن أسباب انتشار اللون الداكن في أعماله يعود إلى "تكريس الفن للتعبير عن الطبقات الفقيرة"،31 كما أن اهتمامه باللون الأرجواني سببه أنه "في الأساس لون كنعاني"،32 فقد اشتهر الكنعانيون بإنتاج الصبغة الأرجوانية والتجارة بها، وكانوا يحصلون على هذا اللون الأرجواني من حيوان بحري قشري يدعى موركس (Murex)، والذي كان شائع الانتشار على شواطئهم.33 علاوة على هذا كله، هناك الهيكلية العامة التي بُنيت عليها لوحات المغني، والمكونة من كائنات بشرية وحيوانية، فضلاً عن اهتمام كبير بتصوير القمر، وهذا لدلالات مقدسة ترتبط بالأساطير الكنعانية مثلما سنرى.

فإذا نظرنا إلى لوحة "حاملة الجرة"، على سبيل المثال، نجد رموز التراث الفلسطيني حاضرة فيها: جرة الفخار؛ سنبلة القمح؛ دلّة القهوة؛ تشخيص المرأة الفلسطينية التي ترتدي الثوب الفلسطيني المطرز بلونه الأرجواني الجميل، وتضع "الشالة" أو ما تسمى بالفلسطينية "الخِرْقة" البيضاء، والتي يظهر منها الشعر المجدل. وتُعتبر هذه اللوحة مثالاً لدور الفن التشكيلي في تثقيف المجتمع، وتعريفه إلى تراث أجداده، فالمكونات التي تحتويها هي عبارة عن رموز للأساطير والمعتقدات الكنعانية القديمة؛ فالفخار، مثلما هو معروف، من الأواني البدائية التي كان يستخدمها الكنعانيون في حلّهم وترحالهم، أمّا سنبلة القمح فهي من رموز الآلهة "تانيب"، إلهة الخصب والنماء والازدهار والحياة، وهي علامة القداسة في فكر الفلاحين الفلسطينيين. يقول محمود درويش في قصيدته "عن صمود": 

إنّا نحب الوردَ،

لكنّا نُحبُّ القمح أكثر،

ونحب عطر الورد،

لكن السنابل منه أطهر34

ودلّة القهوة من رموز تراث المجتمع البدوي الفلسطيني، وهي تدل على جود النفس وكرمها، أمّا المرأة التي تحمل جرة الفخار على كتفها، فمثّل الفنان من خلالها بعض الرموز الكنعانية: لون الثوب الأرجواني الذي تحدثت عن دلالته سابقاً، وجدلة الشعر التي ما زالت حتى يومنا هذا موجودة لدى معظم الفتيات الفلسطينيات. ولجدلة الشعر بُعد أسطوري كان حاضراً في الفكر الكنعاني القديم، فهذه الجدلة "ترمز إلى القداسة والشرف، حيث تقسم الفتاة بها عندما تريد تأكيد خبر أو تنفيذ شيء هام وخطير، فتقول: وحياة عقصتي (جدلة شعري) ما رأيت أو ما فعلت كذا..."35 وبناء على ذلك، جاءت هذه اللوحة لتوثّق تاريخ فلسطين القديم وتراثه، من خلال مشهد فني يخلد ذلك التراث والتاريخ في الذاكرة الإنسانية، ويحفظها من النسيان. ولعل هذا من الأهداف الجميلة التي يتضمنها الفن التشكيلي الذي له الدور المهم في الحفاظ على الماضي، وتعريفه إلى روّاد الحاضر من أجل بناء المستقبل.

 

 لوحة "حاملة الجرة" للفنان الفلسطيني كامل المغني

 

وفي لوحة "نجمة الثمانية"، يصوّر الفنان حالة المجتمع الفلسطيني من خلال إبراز الحزن والألم اللذين يمر المجتمع بهما، فنرى في اللوحة رجلاً فلسطينياً بشنب طويل، يلبس على رأسه "الحطة الفلسطينية والعقال" (جزء من اللباس الشعبي الفلسطيني المعروف)، ويغطي وجهه مجموعة من الرماح على شكل واجهة من قفص حديدي، يضع بينها مجموعة من الأواني الفخارية؛ أمّا "نجمة الثمانية" المقدسة، فتحتل جزءاً من رأسه إلى أعلى، ويتوسطها جزء من رمح طويل، وقمر يحيطه الصولجان، وإلى الأمام من وجه الرجل نرى الحصان الأبيض الذي يتكرر حضوره في عدد آخر من لوحات المغني، علاوة على اللون الأرجواني الذي يزين الجدار الخلفي من اللوحة. وتشكل هذه العناصر عدة معانٍ أهمها: الموت، والحرب، والشجاعة؛ فالرمح يرمز إلى إله الموت في الفكر الكنعاني، وتكوين الرماح على شكل المظهر الخارجي للسجن، يشير إلى الظروف القاسية التي يمر بها المجتمع الفلسطيني، أمّا "نجمة الثمانية" فترمز إلى كوكب الزهرة "نجمة الصباح"، وكان يرمز بها إلى إلهة الخصب الكنعانية عنات، إلهة الحب والجمال والحرب"،36 كأنه بذلك يشير إلى شخصية الفلسطيني المحارب الذي يعتلي حصانه ورمحه ليقاتل الأعداء. وتتشابه صورة الخيل في هذه اللوحة وفي غيرها من لوحات المغني، مع الخيول الموجودة في النقوش الكنعانية القديمة،37 والتي تتميز بمظهرها الخارجي الظاهر في طريقة مشيتها التي ترمز إلى قوتها، واعتدادها بنفسها. واستعارة الخيل رمز إلى الفروسية والشجاعة، أمّا القمر فهو رمز الإلهة عشتار، الأم الكبرى، مثلما يطلق عليها علماء الميثولوجيا، ويُقصد بالقمر الأمل والتفاؤل والنظرة المشرقة إلى الحياة.

 

 لوحة "نجمة الثمانية" للفنان الفلسطيني كامل المغني

 

يرتبط الحضور الواسع للمرأة في لوحات المغني وغيره من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، بمكانة المرأة المقدسة عند الكنعانيين، إذ إنها كانت "تتمتع بقدر وافر من الاحترام والنظرة رفيعة المستوى، ولذلك جاءت دعوات الزواج وتكاثر النسل كثيرة في النصوص الكنعانية،"38 الأمر الذي ينعكس على الحالة الواقعية التي كانت وما زالت تعيشها المرأة الفلسطينية، وذلك على الرغم من اضطهاد حق كثير من النساء الفلسطينيات. إلّا إن هناك جزءاً لا يستهان به من اللواتي احتفظن بقدر كبير من الاحترام الزوجي، كما أن مسألة الزواج وتكاثر النسل كانا حتى وقت قريب جداً، من المسائل المهمة داخل الأسرة الفلسطينية، ولذلك نجد كثيراً من العائلات يتكون من ستة أو سبعة أو حتى عشرة أولاد، على اعتبار أن الأولاد هم "السند" الذي يمكن أن يتكىء عليه الأب في حالة ضعفه، فيجد مَن يساعده، ويؤسس له بنية عائلية يعتز بها أمام أبناء مجتمعه.

ويرى الفنانون في المرأة أيضاً، المكوّن الشخصي الذي يمكنه أن يحافظ على تراث الأجداد، من خلال دورها في تكوين المجتمع، وترسيخ ماضيه في أفكار أبنائها وبناتها. وقد رسم الفنان سليمان منصور في سنة 2011، لوحة بعنوان "ذكريات مجمدة"، تظهر فيها فتاتان فلسطينيتان ترتديان الثوب الفلسطيني مع الكوفية، وتستندان إلى أحد الجدران القديمة، أمام بيت فلسطيني قديم تَظهر تفصيلات بنائه التي توحي بطبيعة الحياة التي كان عليها أجدادهما، ليكون هذا النوع من التمثيل جزءاً من إدراك الماضي، وتفسير آثاره في ذاكرة الأجيال الحاضرة التي يمكن أن تجد في ماضيها ما يؤسس لجزء من حاضرها، أو حتى مستقبلها.

ولمعمارية المكان في هذه اللوحة دور في تصوير الماضي، إذ تظهر عتبة الدار، والباب الرئيسي المقوس، والدرج المؤدي إليه، وهذا وصف مرئي للبيوت الفلسطينية القديمة، ووجود هاتين الفتاتين دليل على توثيق فكرة "إحياء التراث" في فكر الأجيال الشابة، وهي الفكرة التي تمثل الرسالة الرئيسية التي تشغل معظم الفنانين التشكيليين في فلسطين وخارجها أيضاً.

 

 

 لوحة "ذكريات مجمدة" للفنان الفلسطيني سليمان منصور

 

كما خصصت الفنانة الفلسطينية منال ديب، المقيمة في الولايات المتحدة الأميركية، جلّ أعمالها لتصوير حال المرأة الفلسطينية، ودورها في مواجهة الواقع السياسي الذي يمر به بلدها، وترى أن المرأة جزء من الذاكرة الجمعية التي لا يمكن نسيانها، وهي توظف تقنيات الرسم الحديثة "الديجتال"، لتفسير دلالة لوحاتها. وتُعدّ لوحة "لاجئون" واحدة من اللوحات الرمزية التي تشير إلى خلود ذاكرة الرحيل في فكر المرأة الفلسطينية الشابة التي، وعلى الرغم من معاصرة الواقع، وعيش مختلف مراحل الحياة، فإن الماضي يبقى خالداً في ذاكرتها. ففي اللوحة نرى صورة فوتوغرافية لوجه امرأة شابة، يتوسطه صورة فوتوغرافية أُخرى لمجموعة من اللاجئين الفلسطينيين الذي هُجّروا من أرضهم، وهذه إحدى تقنيات الرسم الحديثة، الشبيهة بفكرة "الكولاج" التي وظفها الفنان الإسباني بيكاسو في مرحلة مهمة من مراحل تاريخه الفني.

وبالنظر إلى اللوحة، فإننا نلاحظ دلالات الحزن الظاهرة على وجه الفتاة، كأنها تنظر إلى الصورة من داخلها، فتعيش مع أحداثها، كأنها جزء من ذاتها، وتترقب باهتمام معاناة الأطفال والنساء، في محاولة لأن تجد تفسيراً لقسوة الإنسان على الإنسان. غير أن الصورة لا تُخلَّد إلّا في عقل الفتاة التي تتعايش مع مراحلها الزمنية، نظراً إلى الواقع الذي تعيشه.

 

 لوحة "لاجئون" للفنانة الفلسطينية منال ديب

 

المصادر: 

1 حسن حنفي، "دراسات فلسفية" (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1987)، ص 53.

2 غاستون باشلار، "جماليات المكان"، ترجمة غالب هلسا (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 2، 1984)، ص 38.

3 إمانويل كانط، "نقد العقل المحض"، ترجمة غانم هنا (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط 1، 2013)، ص 97.

4 ولد إبراهيم غنّام في قرية "الياجور" في مدينة حيفا في سنة 1930، وتعلّم الرسم عندما كان طفلاً، ثم واصل موهبته بعد النكبة في بيروت. أصيب بالشلل وأصبح مُقعداً. احترف الرسم الفطري الشعبي، وكان عضواً في الاتحاد العام للتشكيليين الفلسطينيين والاتحاد العام للتشكيليين العرب، وقد وصفه الناقد الروسي أناتاولي بغدانوف بأنه "مغنّي الأرض وفنان القرية الفلسطينية." توفي في سنة 1984. انظر: عز الدين المناصرة، "موسوعة الفن التشكيلي الفلسطيني في القرن العشرين: قراءات توثيقية تاريخية نقدية" (عمّان: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، ط 1، 2003)، ج 1، ص 373.

5 كمال بُلّاطة، "الفن التشكيلي الفلسطيني خلال نصف قرن (1935 - 1985)"، "الموسوعة الفلسطينية"، القسم الثاني، المجلد الرابع (بيروت: هيئة الموسوعة الفلسطينية، ط 1، 1990)، ص 877.

6 حليم بركات، "المجتمع العربي المعاصر: بحث استطلاعي اجتماعي" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 6، 1998)، ص 78.

7 المصدر نفسه، ص 79.

8 يقول محمود درويش في ديوانه "أحد عشر كوكباً": "لي حصة من مشهد الموت المسافر في الغيوم، وحصة / من سفر تكوين البداية، وحصة من سفر أيوب، ومن / عيد الحصاد، وحصة ممّا ملكت، وحصة من خبز أمي".

انظر: محمود درويش، "أحد عشر كوكباً" (بيروت: دار العودة، ط 4، 1993)، ص 78.

9 أي: كي نلبس الثوب.

10 لا يزال معظم القرى الفلسطينية يحافظ على اسم "البيادر"، ومع التقدم العمراني، بات يطلَق على التجمعات السكنية القريبة من هذا الموقع، اسم حارة البيادر، كجزء من الحفاظ على ما تبقّى من التراث.

11 بركات، مصدر سبق ذكره، ص 83.

12 جميل السلحوت، "تراث شعبي: أغاني الهدهدة"، صحيفة "الحوار المتمدن"، العدد 2259 (22 / 4 / 2008).

13 بُلّاطة، مصدر سبق ذكره، ص 877.

14 وُلدت تمام الأكحل في مدينة يافا في سنة 1935، وهُجّرت مع عائلتها إلى بيروت. امتلكت موهبة الرسم منذ صغرها، وأرادت أن تكمل دراستها في القاهرة، فدخلت المعهد العالي للفنون الجميلة في القاهرة، وهناك تعرفت إلى الفنان الفلسطيني المعروف إسماعيل شموط، فخطبها وتزوج بها في سنة 1959. كرّست جلّ أعمالها لتصوير مدينتها يافا، والتعبير عن الحالة التي يعيشها المجتمع الفلسطيني، وأقامت عدة معارض بمشاركة زوجها، فكانت لوحاتهما جزءاً مهماً من عناصر الهوية الوطنية الفلسطينية. تقيم الفنانة حالياً في الأردن، وما زالت تواصل حرفتها. انظر: المناصرة، مصدر سبق ذكره، ج 1، ص 117.

15 انظر: هنري برجسون، "المادة والذاكرة: دراسة في علاقة الجسم بالروح" (دمشق: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1967)، ص 142.

16 انظر: قسطنطين زريق، "نحن والمستقبل" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، 1980)، ص 235.

17 ولد نبيل عناني في قرية حلحول في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، وتخرج من كلية الفنون الجميلة في الإسكندرية في سنة 1969، وهو عضو مؤسس لرابطة التشكيليين الفلسطينيين. حصل في سنة 1997 على جائزة الدولة للفن التشكيلي الفلسطيني، ويعمل الآن مدرساً في قسم الفنون في جامعة القدس، وقد أقام العديد من المعارض الشخصية. انظر: المناصرة، مصدر سبق ذكره، ج 1، ص 235.

18 بركات، مصدر سبق ذكره، ص 171.

19 هشام شرابي، "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" (بيروت: الدار المتحدة للنشر، ط 3، 1984)، ص 37.

20 ولد الفنان فتحي غبن في قطاع غزة في سنة 1947، ويعيش في مخيم جباليا. تعلم الفن بالممارسة، وشارك في العديد من المعارض الفلسطينية والعربية والدولية. انظر: المناصرة، مصدر سبق ذكره، ج 2، ص 497.

21 شرابي، مصدر سبق ذكره، ص 113.

22 بركات، مصدر سبق ذكره، ص 66.

23 ابن خلدون، "مقدمة ابن خلدون"، تحقيق عبد الله محمد الدرويش (دمشق: دار يعرب، ط 1، 2004)، ج 1، ص 246.

24 المصدر نفسه.

25 ما زال استخدام الصاج متداولاً في عدة مناطق فلسطينية، حتى إن كثيرات من النساء في الريف الفلسطيني يفضلن استخدامه، لسهولة العمل عليه من جهة، ولجودة الخبز الذي ينتجه من جهة أُخرى، إلّا إن حضوره المميز يكمن داخل مجتمع البادية، أو المجتمع الرعوي، اللذين يتخذان من الكهوف مسكناً لهما، ويرعيان أغنامهما في الجبال القريبة منها.

26 Omar Calabrese, Cómo se lee una obra de arte (Madrid: Cátedra, 4th Edición, 1993), p. 30.

27 ولد الفنان كامل المغني في قطاع غزة في سنة 1944، والتحق بكلية الفنون الجميلة في الإسكندرية وتخرج فيها في سنة 1966، ثم اشتغل معلماً في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) في رام الله. كان أحد مؤسسي كلية الفنون الجميلة في جامعة النجاح الوطنية في نابلس، وقد تابع دراسته، وحصل في سنة 1987 على درجة الماجستير في سيكولوجيا الرمز واللون، ليعمل بعد ذلك أستاذاً للفنون التشكيلية في جامعة النجاح الوطنية حتى وفاته في سنة 2008. انظر: المناصرة، مصدر سبق ذكره، ج 1، ص 429.

28 إرنست كاسيرر، "الدولة والأسطورة"، ترجمة أحمد حمدي محمود (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975)، ص 73.

29 فراس السّواح، "الأسطورة والمعنى: دراسة في الميثولوجيا والديانات المشرقية" (دمشق: دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، ط 2، 2001)، ص 30.

30 كاسيرر، مصدر سبق ذكره، ص 369.

31 المناصرة، مصدر سبق ذكره، ج 1، ص 430.

32 المصدر نفسه، ص 431.

33 انظر: خزعل الماجدي، "المعتقدات الكنعانية" (عمّان: دار الشروق، 2001)، ص 210.

34 محمود درويش، "الأعمال الأولى" (بيروت: دار رياض الريس للكتاب والنشر، 2005)، ج 1، ص 49.

35 عبد الرحمن المزين، "الفكر الأسطوري الكنعاني وأثره في التراث الفلسطيني المعاصر" (الأردن: دار فضاءات للنشر والتوزيع، ط 1، 2011)، ص 72.

36 المصدر نفسه.

37 لرؤية إحدى الأواني المنقوشة برسومات للخيل التي كانوا يستخدمونها للقتال والترحال، انظر: الماجدي، مصدر سبق ذكره، ص 233.

38 انظر: المصدر نفسه، ص 279.

السيرة الشخصية: 

حسني مليطات: باحث ومترجم فلسطيني، حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة الأوتونوما في مدريد، ومتخصص بالأدب العربي الحديث والمقارن والدراسات الثقافية.