أهمية الكتاب ودوافعه
تنبع أهمية الكتاب من أصالة المؤسسات المنتجة والراعية له، فهو حصيلة جهد مشترك بين جامعة بيرزيت (المؤسسة الأكاديمية الرائدة وطنياً ومعرفياً)[1] ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، إحدى أهم المؤسسات المنتجة للمعرفة عن فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي؛ والكتاب بفصوله السبعة هو حصيلة أبحاث ودراسات لطلاب الدفعة الثانية من برنامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت. وتأتي أهميته من تنوّع الموضوعات التي يلامسها، وتنوّع المناهج والحقول النظرية والمفاهيمية التي اتكأت عليها فصول الكتاب، أي أن الكتاب يمثل تمريناً في الكتابة/ المنهج المتداخل المنهجيات والحقول. وقد تنوعت ثيمات الكتاب ما بين الثقافي والسياسي والديموغرافي والزمكاني والسِيَر والمنهاج والاستعمار الاستيطاني وتقاطعاتها مع العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ هو محاولة جادة في دراسة أو مفهمة "فلسطين الحديثة" من الأسفل، ومن الهوامش أحياناً، ويُشار إلى أن الدراسات تلامس البناء التحتي والبناء الفوقي لفلسطين ومجتمعها وقضيتها.
تعود حقوق الصورة لمكتبة تنوين- في بيت لحم/فلسطين
كما تجدر الإشارة إلى أن الكتاب هو تتويج لمسار المعرفة التحررية الذي تنتهجه جامعة بيرزيت بصورة عامة، ومجموعة من البرامج الأكاديمية في الجامعة، وعلى رأسها برامج الإنسانيات والعلوم الاجتماعية (برنامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعية، برنامج الدراسات الإسرائيلية، برنامج الدراسات العربية المعاصرة، برنامج علم الاجتماع، وغيرها من البرامج الأكاديمية). الباحثون في الكتاب، في أغلبيتهم، مرتبطون بجامعة بيرزيت، سواء في تحصيلهم الأكاديمي، ومنهم مَن هو متأثر ومؤثِّر في الحوار المعرفي والمنتوج التحرري للجامعة ومجتمعها الأكاديمي. لقد جسّدت الجامعة وبرامجها ومساقاتها سبقاً معرفياً في تدشين المعرفة التحررية، وهذا ما اصطلح عبد الرحيم الشيخ على تسميته يوماً ما "القضية في ساحة الجامعة."[2] أي إن الجامعة أخذت على عاتقها إعادة بعث الرواية الفلسطينية ومكونات الهوية الفلسطينية في جدلية ما بين النظرية والممارسة. ويساهم الكتاب في إعادة الاعتبار للمعرفة المنتجة في/ عن فلسطين باللغة العربية ومن داخل فلسطين، أو كما أشار الشيخ من "(بطن الوحش)، كمساهمة في القول على معاني فلسطين: هوية وقضية" (ص 1).
وهذا يضع الكتاب ومساهماته في مكانة المرآة المعرفية والبحثية والسياسية؛ بمعنى أن هذا الكتاب وأفكاره ومناهجه ومجادلاته المركزية هي جزء من مهام الاشتغال الفلسطيني وصوره في فلسطين اليوم أو "فلسطين الحديثة"؛ في زمن فلسطين (ما بعد الحديثة) التي أُغرقت بالبحث ومعرفة (ما بعد الحداثة)؛ التي فتّتت جوهر الخطاب الفلسطيني التحرري، إلى خطابات مبعثرة تحت يافطات "التمويل السياسي" بقيادة أباطرة مؤسسات وجمعيات ومشاريع، يرتزقون باسم فلسطين وحكايتها، ولا ينتجون إلّا ما يوافق لغة التمويل وأُطرها، بروح استشراقية تستسلم للهزيمة والاستعمار. وهذا ما يجعل الكتاب نموذجاً مما يُسمى المعرفة التحررية التي تنتَج عن فلسطين، وفي فلسطين، بأيادٍ وعقول فلسطينية، وبرأسمال طباعي فلسطيني.
مبنى الكتاب ومنهجه
يتكون الكتاب من مقدمة موسومة "مفهمة فلسطين الحديثة" كتبها محرر ومشرف الكتاب عبد الرحيم الشيخ، والفصل الأول لفيروز سالم بعنوان "من أروقة المحاكم الاستعمارية إلى الأرض: الصراع اليومي على الزمان والمكان في الأغوار الفلسطينية"، وكتبت خلود ناصر الفصل الثاني المعنون "سؤال الديموغرافيا بين التوجهات الفلسطينية والإسرائيلية الراهنة"، وجاء الفصل الثالث بعنوان "الاشمئزاز كآلية استعمارية: الاستعمار الصهيوني نموذجاً" لأشرف عثمان بدر. وبحث الفصل الرابع لقسم الحاج في موضع "حظر التجول والإغلاقات العسكرية: اعتقال الزمكان الفلسطيني وتحريره"، وكتب علي موسى الفصل الخامس الموسوم "أبعاد الهوية الفلسطينية في سيَر ذاتية ومذكرات من نابلس (1948- 1967)"، بينما تناول الفصل السادس "صور الفاعلية في الكتب المدرسية الفلسطينية" لأسماء الشرباتي، وتناول عبد الجواد عمر في الفصل السابع "ما بعد- فلسطين: الخطاب الثقافي الفلسطيني وتراجيديا الهزيمة".
يتتبع الكتاب، بموضوعاته المتنوعة وتقاطعاتها واشتباكاتها، سيرة التحولات التي عصفت بفلسطين في التاريخ الحديث والمعاصر، فالكتاب مساهمة في الكتابة عن فلسطين الحديثة، وما جرى فيها من تحولات طالت المجتمع والسياسة والثقافة والذاكرة والسكان والصراع العربي الإسرائيلي. كما يمكن ملاحظة أن جزءاً كبيراً من فصول الكتاب ركز على المكان والزمان، وجرت قراءة للتحولات الفلسطينية والصراع الإسرائيلي على الزمان والمكان، سواء في حالة الأغوار الفلسطينية، أو الديموغرافيا، أو اعتقال الزمكان، أو تحولات المناهج والصور وفكرة "ما بعد- فلسطين"، وجزء من مجادلات تلك الأوراق ركز على ما كان وما جرى، وما سيكون أحياناً.
انشغل الكتاب في عملية النقد بشكل مركزي، عبر أدوات متعددة، فقدم المساهمون قراءات نقدية للذات (الفلسطينية) والآخر (الصهيونية)، وقراءات نقدية للسياسة والثقافة ومآلات كليهما، ونقداً للتربية والمناهج المدرسية؛ وقراءة في التاريخ الاجتماعي عبر تتبّع مجموعة من كتب الذاكرة السيرية، ونقداً للتوجهات التنموية والسكانية الفلسطينية.
كما يلاحَظ أن الكتاب حاول الجمع بين عدد من المباني النظرية والمعرفية والمنهجية، وذلك في الأوراق المتعددة، وأحياناً في الورقة الواحدة، ومن تلك الأطر التي استند إليها: الاستعمار الاستيطاني؛ البحث المحارب؛ التاريخ الاجتماعي؛ تحليل الخطاب؛ التنمية؛ دراسات التابع؛ سياسات الذاكرة؛ ما بعد استعماري؛ المقاومة؛ الهيمنة؛ الثقافة البصرية؛ العنصرية؛ وغيرها من الأطر والنماذج المعرفية والنظرية المتداخلة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وهذا التداخل أو الترحال المعرفي منح الكتاب سِمة الغنى والتنوع ليكون مرجعياً في الحقول البينية.
ما يميز الكتاب إمكانية قراءة التاريخ الفلسطيني المعاصر لفلسطين والفلسطينيين، وتحولات الصراع العربي الإسرائيلي، خلال أعوام الانتفاضة الأولى والثانية وما بعدهما، والصراع على السكان كرديف ومكمل للصراع على المكان والزمان الذي بحث في أكثر من مساهمة. إلى جانب ذلك، يمتاز الكتاب بكونه معرفة عن فلسطين من الأسفل؛ فالفلسطيني هو مَن يتكلم ويبحث ويكتب، في الوقت الذي ظن كثيرون أو تساءلوا (هل يستطيع الفلسطيني أن يتكلم؟)، وعلى الرغم من هشاشة اللسان السياسي الفلسطيني وتلعثمه؛ إلّا إن بلاغة اللسان المعرفي التحرري الفلسطيني أعادت إلى الفلسطيني صوته وكلامه في سبيل استعادة حقه المسلوب. وما ميّز تلك المعرفة التحررية التي عولجت في الكتاب أن جزءاً من الباحثين منخرط في العمل التحرري، معرفياً وسياسياً؛ منهم أسرى محررون، وفاعلون سياسيون واجتماعيون، وآخرون مشاركون في إنتاج المعرفة التحررية والمنهج المحارب.
ملاحظات نقدية
أكتفي هنا بالإشارة إلى ملاحظات نقدية بصورة سريعة؛ كون هناك مراجعة نقدية مطولة ستُنشر في دورة عربية للكتاب. قبل الإشارة إلى بعض الملاحظات النقدية على الكتاب، لا بد من التأكيد أن الكتاب جهد علمي مميز، وسيشكل إضافة إلى المكتبة الفلسطينية والعربية لأسباب كثيرة، منها ما تمت الإشارة إليه أعلاه. مقابل ذلك، يوجد بعض الملاحظات على الكتاب، ومنها: افتقار بعض الأوراق إلى العمق المنهجي في دراسة الظواهر المبحوثة، غياب واضح لمساهمات وأطر نظرية في بعض الأوراق التي تركها تدور في فراغ ولم تقدم ما هو جديد، وإنما اكتفت بتأكيد بعض الخطابية السياسية. كما يلمس أن هناك فرقاً على المستوى المنهجي والكتابي بين الباحثين؛ نظراً إلى تفاوت الباحثين في كل ورقة من الناحية النظرية والمنهجية والتحليلية. وأخيراً، يبقى الكتاب منجزاً مهماً وأصيلاً في الكتابة عن فلسطين، وفكرة خلّاقة في تحويل المنجز البحثي لطلبة الدراسات العليا إلى مواد منشورة في أوعية ذات مستوى مهني ورفيع، مثل مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
[1] للمزيد، انظر: عبد الرحيم الشيخ، "سيرة جابي برامكي وتجربته في جامعة بيرزيت (1929-2012)" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2015)؛ عايدة عودة (محررة)، "جامعة بيرزيت: قصة مؤسسة وطنية" (بيرزيت: جامعة بيرزيت، 2010).
[2] عبد الرحيم الشيخ، "فلسطين- الهوية والقضية: الجامعة وإعادة بناء السردية الوطنية الفلسطينية"، باب الواد، 2/11/2017. انظر الرابط.