ومضات من أدب اليافعين الفلسطيني: البطولة أنثى
التاريخ: 
17/12/2021
المؤلف: 

شهد أدب الأطفال العربي في الأعوام العشرة الأخيرة تغيُّراً نوعياً في الشكل والمضمون، والذي يعني الالتفات إلى فئة لم يُكتب لها سابقاً: الفتيان والفتيات اليافعين. فعلى الرغم من حداثة التجربة عربياً، وعدد من التحديات محلياً، فإن فلسطين لديها تجربة غنية في الرواية اليافعة، من حيث اهتمامها وموطن تركيزها وأبطالها أو بطلاتها. 

تُعرَّف البطولة، وفقاً لعدد من المعاجم العربية، بأنها الشجاعة الفائقة، ومنها نحتفي بمفردة البطل كركيزة تحمل التأويل وتسير بالقارئ إلى نقطة النهاية. إن الشجاعة كقيمة قد تبدو واهية كتعريف، لكن الفعل البطولي يرافقها ويتوّجها. وعلى الرغم من غنى اللغة العربية، فإنها ما زالت في قالبها تؤنث المذكر وتحصد حصة الأسد من الأدب الموجّه إليه، بمعزل عن السعي الجذري لكسر هذا النمط. كان لظهور الفئة الأدبية الخاصة باليافعين، إن صحت التسمية بهذا المصطلح، أثر في تنوّع الرواية، والذي شمل عدداً من المواضيع والأشكال الفنية في التعبير. ومثل سائر المنطقة، عكس أدب اليافع الفلسطيني هذا التنوع، فلم  ترتكز تجربته بشكل بحت على الواقع الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي، بل تجاوزته وانتقلت إلى الفضاء الأعمّ والأكثر شمولية، كقضايا الحياة اليومية وأدب الرحلات وغيرها. ومن الملفت جداً في التجربة الفلسطينية تركيز عدد من الكتب على التجربة الأنثوية التي فرضت نفسها، بقصد أو بغير قصد، على السرد الروائي وانتزعت لقب البطولة بلمح البصر. هنا يواجه الفعل الأدبي سؤال "كيف". كيف انتُزعت هذه البطولة وتأنثت في ظل عالم مذكر؟ ولماذا؟

 

لوحة للفنانة مايا فداوي من رواية جنجر للكاتبة أحلام بشارات وإصدار مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي

 

من الممكن أن تبدو الإجابة عن السؤال سهلة، لكنها تأتي من تراكُم التجربة، ومن قراءةٍ قد تجيب أولاً عن سؤال "لماذا"، ولماذا الآن، تحديداً فلسطينياً على الأقل. المفتاح في الإجابتين يأتي في سؤال مَن يكتب للطفل، وتحديداً لليافع في فلسطين؟ في الآونة الأخيرة كان للكاتبات النصيب الأكبر من الكتب المنشورة لفئة اليافعين، وعليه، فإن التقدم الطبيعي لأعمالهن سيرتكز على بطلات مثلهن. الكتابة مغامرة، وهنا وُفّقت الكاتبات الفلسطينيات من خلال أبواب التجريب والتجديد في أدب اليافع، والذي أعطى للنصوص ولكتّابها إمكانات تشغيل كل الأدوات الكتابية بهدف خلق عالم موازٍ تماماً قد لا يكون مألوفاً في الرواية للقارئ البالغ. أما الجواب عن سؤال الزمن، فإنه شأن القارئ والكاتب معاً، فإن لم تُطرق هذه الأبواب الآن، إذاً متى ستُفتح؟

لنقترب من فهم للبطولة كفعل أنثوي، سنطّلع على ثلاث ومضات من الروايات الفلسطينية اليافعة.

أنوثة مساندة: بطلات محمود شقير

قد يُعتبر محمود شقير من أوائل الكتّاب الذين غامروا في الكتابة لليافعين، وتبدأ بطولة الأنثى في رواياته من جملة بسيطة يكاد القارئ لا يلحظها. ففي أغلب كتبه لليافعين ترِد على الغلافين، الداخلي والخارجي، جملة "رواية للفتيات والفتيان"، يقول سميح شبيب في مقالته عن أدب محمود شقير بأنه "يحرص على ترسيخ مفردة ‹الفتيات›[1] إلى جانب مفردة ‹الفتيان› أو قبلها، في سياق عنايته التربوية الـمتكاملة بالإناث والذكور من الأولاد، على حد سواء، وربما بعناية أعمق بالبنات على وجه الخصوص، ضمن خصائص رؤيته الاجتماعية الـمتطورة أساساً، في أبعادها الإبداعية الداعمة للـمرأة بصورة عامة." لا تقتصر بطولة شقير على الغلاف بل تتعدى ذلك في النص، فمثلاً في رواية "بنت وثلاثة أولاد في مدينة الأجداد"، والتي تروي مغامرات أربعة أطفال في مدينة أريحا بعد تعثُّر البطل "سفيان" بقشرة موز، يرى القارئ البطلة بثينة في أول مرة كصوت يطرح حلولاً، وهي ليست مَن يطرح الحلول فحسب، بل تكون الأكثر قدرة على حل العقدة الرئيسية في النص. لبثينة صوت عالٍ رزين يغيّر في مجرى الحدث الساري، وصوت بثينة يمكن تصديقه، فإن أُخفيَ اسم الكاتب لا يبدو صوتها مقحماً في السرد، ولا يشعر القارئ بأنها خارج السرب، بل هي عامل أساسي في تشكُّل وعي باقي الشخوص. قد لا تتركز الرواية على بثينة كلاعب رئيسي، إلا إنها تطرح تفرّداً غير معهود في النص ذاته يستوقف القارئ والقارئة ليفكرا معاً كيف يمكن أن يتماهى كلاهما مع النص؟ في البطولة الأنثى كشخص مساند واعٍ لهذا الدور. لا تخلو بقية روايات شقير من هذه الشخوص، ففي "كوكب بعيد لأختي الملكة" مثلاً وغيرها حصة متماثلة من التفرّد الشخصي لمساحة البطلة الأنثى، وإن كان اللاعب الأساسي في الرواية الصوت الذكوري.  

الواقع والفكاهة: بطلات أحلام بشارات

تختلف تجربة أحلام بشارات عن تجربة محمود شقير، ففي أغلب رواياتها لليافعين تضع بشارات الفتيات أولاً في قلب السرد، فمنذ الوهلة الأولى، وفي أول تناوُل للكتاب، من حيث تصميمه كشجرة البونسيانا وأشجار للناس الغائبين وفاطمة سيدة الإسطرلاب، يطرح التصميم البطلة أولاً قبل النص. فبطلات بشارات شخوص رئيسية، للقارئ إمكانية الوصول إلى دواخلهن وأفكارهن، لهن المساحة الكاملة في طرح الأسئلة والبحث عن إجابات. فمثلاً في رواية "اسمي الحركي فراشة"، خمس وقفات قصيرة تمتد عبر سنة حاسمة في حياة بطلة الرواية، يرافقها القارئ وهي تسير في طقوس الانتقال من فتاة إلى امرأة، والوقوع في الحب للمرة الأولى، والحياة في القرية في ظل مختلف تعقيداتها. فراشةُ بشارات قد تكون أي فتاة: هي فتاة محاطة بالأسئلة تتخفى وراء اسم حركي اختارته بنفسها، وتكفي هذه الجزئية وحدها لتترك للبطولة الأنثى ما قد تفقده القارئات الصغيرات: الحرية بمختلف تعريفاتها، وحرية الاختيار، والتساؤل. لا تتوقف البطولة عند بشارات في الاختيار، بل تتعداها في الفعل الأكثر قدرة على التأثير في إطار البطولة. ففي شخصية فيليستيا في "أشجار للناس الغائبين" يسير القارئ بالجسد، قلباً وقالباً، ويرى بعيون فتاة أجساد الآخرين في حمام قديم تعمل فيه فيليستيا في غسل أجساد الأخريات. تطرق بشارات باب الجسد بجرأة فيليستيا التي تتعلم من جدتها سر المهنة وتقول على لسانها: "ما تقع عليه عيناكِ من الآخرين فهو لهم. إن أخذتيه فخبئيه. إن أعطوك إياه بإراداتهم، افرديه أمامك ونقّيه كما تُنقى حبات العدس من بذور الحشائش وكسرات الحجر. الجسد فيه الخبيث والطيب. وكل ما فيه له. أمّنك صاحبه، إذ فتح لك باب أسراره. فأغلقي عليها باب خزانتك."

 تُعمَّم البطولة الأنثى كفعل، وتتجلى في التحدي الذي يقرن بطولة بشارات بعرض الواقع، كقلق الأقارب من عمل فيليستيا مثلاً واستجابة البطلة لهذه الصور النمطية المختلفة بخفة وسخرية، ليس فقط في هذا الكتاب بل في مجمل العمل. ففي مجمل كتابات بشارات كرواية جنجر يلحق القارئ البطلة بخط خفيف يكاد يكون فكاهياً أحياناً، لكنه يكشف أيضاً عن بطولة مبنية على بطولة أنثى أُخرى: هناك دائماً مَن يأتي أولاً ويكشف للشخوص ملعبها، سواء كانت الجدة أو الأم أو الصديقة، ما يتماهى وحياة القراء؛ فلكل منا تسلسُل انحدر منه، لكن يعلو صوت النساء فيه عند بشارات.

الفانتازيا مدخلاً: بطلات سونيا نمر

كما بشارات تشارك سونيا نمر، بل تتفرد، في رواياتها بالبطلة الأنثى وتسير بها إلى مكان غير مألوف أبداً. ففي كلٍّ من "رحلات عجيبة في البلاد الغريبة" وسلسلة "طائر الرعد" تكون  النساء والفتيات في المركز السردي. لعل من أصعب أنماط الكتابة هي تلك التي تحتاج إلى مخيلة تتسع لجميع العوالم وتخلق عالماً قائماً بذاته، كالفانتازيا أو الكتب الغرائبية، وهنا تنجح نمر في استخدام الحرية التي يعطيها التجريب في النوع الأدبي  برسم فتيات عاديات بقوى خارقة في ظروف خارجة، ليس فقط عن النمط السائد، بل أيضاً عن العالم الواقعي، لتنتقل بالبطولة إلى الخيال. ففي "رحلات عجيبة"، وكالسندباد، تتجاوز قمر بطلة الرواية عدداً من التحديات الهائلة، جسدياً ونفسياً، عبر أسفارها في بلاد غريبة، كالعبودية والاختطاف والتشرد، في سعيها للرجوع إلى وطنها، وتسير قمر بخبرة قائمة بذاتها على قدرتها من الفعل البطولي. كذلك لا تترك نمر الواقع الخارجي حتى في العالم الموازي، وتبادر بأسلوبها الدرامي إلى معالجة البطولة الأنثى عبر أسلوب ""السهل الممتنع"،  كما يشير حسام شاهين: إلى إنها "براعة تامة؛ فوجود قرية لا تنجب فيها النساء سوى الأولاد الذكور، جعل الآباء بعد عشرات السنين... يدعون الله ويبتهلون إليه بأن يمنحهم ويرزقهم مولودة أنثى. وكلما جاء النبأ بولادة ذكر عمّ الحزن القرية برمّتها. وهكذا تكون الكاتبة نجحت في إبراز مكانة المرأة ودورها الطليعي من زاوية الشراكة، وأثبتت أنها تستطيع أداء أي دور بجدارة تامة، بما لا يقل عن دور الرجل!"[2]  فبالرغم من كون بطولة كتب الفانتازيا التي كتبتها سونيا نمر، على الأقل في الأعوام الأخيرة، بطولة أنثوية بحتة لا تنتقص من شأن البطل المساعد، وإنما تعكسه عبر شخصيات تترك لها المجال لتؤدي دورها في السرد من دون أن تعيق البطلة، فإن الأولوية للفتاة بالتحرك في فضائها بكامل الطاقة، وهذا ينعكس في سلسلة "طائر الرعد" التي تتخذ فلسطين عبر التاريخ محطة في عيون البطلة نور، اليتيمة الأبوين، فنرى أنها وحدها "القادرة على إنقاذ العالم" بقدراتها الخارقة، لترتقي البطلة الأنثى هنا بقدرتها على البطولة في أدب الترحال والمغامرة والفانتازيا الذي لم نشهده فلسطينياً، وقليلاً ما نشهده عربياً.

تبدو البطولة الأنثى كفعل في مختلف نماذج البطولة فلسطينياً، وليس فقط سيراً منتقصاً في النص، ولا تقتصر على الوازع السياسي البحت، بل تترك للطفولة متنفساً، وتتعامل مع الكتب كأدب قائم بذاته، ففي تجربة شقير الرائدة وكوميديا ودراما بشارات وفانتازيا نمر انعكاس لهذه الحالة الشعورية وتماهٍ عالٍ مع النص من الفتيات القارئات. هنا تأتي الإجابة عن سؤال كيف انتزعت هذه البطلات ساحة أدب اليافع الفلسطيني: الأدب مرآة للذات في ظل فترة الطفولة المتأخرة والمراهقة، فإن تمكن القراء والقارئات من إيجاد أنفسهم في النص، فهذا سر نجاح الكتاب، وهو العامل الأكثر قدرة على التأثير في جمهوره بشكل نوعي. إن اطّلعنا على جزء من هذه التجربة نرى أن بطلات أدب اليافعين الفلسطيني جئن ليقُلن للقارئات الصغيرات: أنتن قادرات على الحلم والفعل البطولي، فماذا تنتظرن؟

 

[1]  مزيد من التفاصيل في المقالة.  

[2] لمزيد من التفاصيل وباقي المقالة.

 

عن المؤلف: 

أليس يوسف: كاتبة ومترجمة من فلسطين.