الذاكرة الشفوية لمدينة الخليل: ما لم تُخبرنا به الأوراق
نبذة مختصرة: 

يحتوي تراث مدينة الخليل مخزوناً تاريخياً هائلاً، لكن اعتماد الباحثين على القراءة التوراتية لتاريخها، يقلل من أهمية هذا المخزون الموجود في التاريخ الشفوي الذي يتوجب التركيز عليه بهدف تصويب الرواية التاريخية للمدينة الممتدة على مدى أكثر من 5500 عام.

النص الكامل: 

مقدمة نظرية

نشطت دراسة الوثائق المكتوبة في حقل البحث التاريخي والاجتماعي الفلسطيني منذ منتصف القرن العشرين، وتضخم هذا المجال بمواد وكتب كثيرة كررت نفسها في كثير من الأحيان، إذ إن البحث والتأريخ اعتمدا على مصادر مكتوبة فقط، الأمر الذي جعل النتاجات المعرفية والعلمية لا تتجاوز تلك الحدود، فبقيت الثقافة الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني خارج تلك الكتب والمراجع، بسبب غياب أدوات البحث والمقاربات الجديدة والحديثة في العلوم الثقافية والاجتماعية والإنسانية، ولذلك أصبح من المهم جداً دراسة الثقافة الشعبية من خلال الذاكرة كرافد معرفي مهم في محاولة تفسير أنطولوجيا[1] علاقة الإنسان بمحيطه في الزمان والمكان.

تُعدّ الذاكرة الثقافية للشعوب، والتي قد تكون متخيلة، حالة تعبيرية عن حقيقة تاريخية، ولذلك تُعتبر أحد أهم الأجزاء التي يُفترض تسليط الضوء عليها من أجل فهم التاريخ الذي اعتمد في سرده على مصادر مكتوبة فقط (تاريخ احترافي) في فترة من الفترات. وقد أكد المؤرخ الإنجليزي رالف صاموئيل أهمية نزع صفة الاحترافية عن التاريخ من خلال اللجوء إلى التأريخ الشفوي لتوسيع قاعدة العمل التاريخي، وإعطاء المنسيين الكلمةَ من أجل تعديل صورة الماضي وفهم العلاقة التي لا تزال تربط المستقبل به.[2]

فتلك الأشكال الثقافية المتناقلة بشكل عفوي تكون لصيقة بوجدان أفرادها بشكل غير مدرَك، كجزء لا يتجزأ من كينونة الهوية، لأنها منتَجة من خلال رؤية جمعية مكتسبة عبر الزمن، ومنتشرة في بنية التفاعل الاجتماعي ضمن مختلف طبقات المجتمع بممارسة متفق عليها، لتصبح جزءاً متأصلاً فيه. وتحمل هذه الثقافة الشعبية رؤية المجتمع إلى العالم وفق مفاهيم خاصة متنوعة ومتراكمة عبر التاريخ، لتشكل منهجاً وجودياً في فهم الزمان والمكان وفق محددات خاصة ترتبط بكل شعب وبيئته كي تميّزه من الآخر.

تندرج الثقافة الشعبية، بهذا المفهوم، ضمن عدة عناصر أهمها الحكايات الشعبية والأمثال والأغاني والطقوس الاجتماعية في الموت والزواج والرقص والعادات وغير ذلك. وهذا الإرث الثقافي المستمر من دون تدوين يدل على أصالة الممارسة وثبوتها لدى المجتمع، لأن "معظم الثقافات التي تفتقر إلى الكتابة وفي مجالات عديدة مثل ثقافتنا، يأتي تَراكم عناصرها في الذاكرة لأنها جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية."[3] ومع أنها ليست ذاكرة حِرَفية، إلّا إن لها أهمية كبرى بسبب علاقتها بأساطير الأصول، كما أنها الأقدر على تقديم تصور حقيقي ناجم عن تفاعل إنساني صادق في الزمان والمكان، يفضي بنا إلى التاريخ. 

ذاكرة الخليل

تأتي أهمية البحث في تراث مدينة الخليل الثقافي المرتكز على الذاكرة، ضمن عدة محاولات جادة من أجل ترميم الانقطاع الكبير في التأريخ للمدينة وثقافتها، إذ إنها تعاني وهناً كبيراً في ذاكرتها المتميزة والممتدة إلى أكثر من 5500 عام، بسبب اعتماد عملية التأريخ فيها على المصادر الدينية التي تأسست على الرواية التوراتية، الأمر الذي جعل السردية الدينية بداية للتأريخ، وهو ما ينافي التاريخ الحقيقي للمكان، والذي يتجاوز تلك السرديات بآلاف السنين.

إن محاولة فهم تاريخ المدينة الحقيقي اعتماداً على الذاكرة الشفوية في هذا البحث تأتي ضمن مستويَين أساسيين:

الأول مرتبط بممارسات اجتماعية هي أقرب إلى الطقوس الميثولوجية التي ما زالت ممارستها رائجة في المدينة من دون أدنى فكرة عن نشأتها وأصولها، لكنها تمتاز بالإجماع. وتم البحث في هذه الطقوس من خلال تطبيق مقاربة أنثروبولوجية تأريخية من أجل تتبع السيرورة الزمنية في نشأتها، للكشف عن الجذور الأولى لها، وفتح رافد تاريخي في عملية فهم تطور الموروث الشعبي على مر العصور.

إن المعتقدات الشعبية الرائجة حتى اليوم ملأى بروح التاريخ، ويمكنها أن تعوض المؤسسات الرسمية في البحث - وفق طرح أندريه بورغيار في الأنثروبولوجيا التاريخية في مدارس التاريخ الجديد - لفهم الواقع من خلال الكشف عن حقيقة الممارسة، إذ جرى العمل على تحليل الطقس الاجتماعي المتواتر بالممارسة من خلال ربطه بالمصادر الأركيولوجية، لاستكشاف الرواية التاريخية الحقيقية للمكان، الأمر الذي سهّل وضع مقاربة أنثروبولوجية ساعدت في فهم وتفسير تلك الظاهرة الاجتماعية الناتجة من نشاط ذهني متميز.[4]

أمّا المستوى الثاني من البحث فارتبط بأغانٍ شعبية خاصة بمدينة الخليل، لم تؤرخ ولم تُحفظ ولم تؤرشف من قبل، ويمتد تاريخها وفق المقاربة التاريخية، إلى ما بين القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهذا من خلال بحث شخصي استمر لمدة عامَين في الذاكرة الجمعية للمدينة. وحملت تلك الأغاني ملامح سوسيولوجية مهمة متعلقة بتحولات نهاية الحكم التركي (العثماني)، والتي برز من خلالها مؤشرات اجتماعية واقتصادية مهمة جداً إلى ما تركته تلك الفترة من أثر في ملامح البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية للمدينة حتى يومنا هذا، ضاربة عرض الحائط بجميع الروايات التي مجّدت تلك الفترة بسبب بعد أيديولوجي متعلق بالحنين إلى إحياء فكرة دولة دينية عادلة، من دون مراعاة لحقيقه تلك الفترة وأثرها الكبير في السياسة والاجتماع والاقتصاد وقناعات الأفراد الذين عايشوها.

فهذا المنتَج الثقافي الشعبي (الأغاني) نتج من معاناة حقيقية بعيدة كل البعد عن الكتابات المنبثقة من تيارات فكرية متناحرة، يمجد بعضها تلك الفترة، أو يشيطنها الآخر بحسب الدافع الأيديولوجي. فالأغاني عكست ملامح مهمة عن بنية تفاعل الفرد مع محيطه عبر الزمن بشكل عفوي وحقيقي، والأهم أنه صادق ومرحلي. 

الطقوس الأسطورية حكاية الوجود الأول

في المستوى المتعلق بتحليل بعض الطقوس المتبعة في الممارسة الاجتماعية التي تُعتبر ممارسات إثنوغرافية مهمة شكلت الميثولوجيا المنقولة قوامها منذ القدم، ولا تزال تمارَس في المدينة حتى يومنا هذا، فإن هذه الطقوس تُعطي تصوراً تاريخياً مهماً عن نشأتها. ومن هذه الطقوس التي تمت مقاربتها: صناعة كعك المعمول؛ الشرب من "طاسة الرعبة"؛ "قَطِّع الخوفة".

فصناعة كعك المعمول لها بنية ثقافية تاريخية ممتدة في عمق طبقات الهوية الفلسطينية، وارتبطت بشكل أساسي بطقوس عبادة الإلهة "عنات" بعد عودتها من العالم السفلي في رحلتها من أجل استعادة الإله "بعل" من الموت. وقد وردت تلك الطقوس في نقوش وُجدت في بيت شان في القرن الثالث عشر، وفي النصب الحجري الذي عُثر عليه في تل الرميدة في مدينة الخليل، والذي يُظهر تلك العبادة القديمة، إذ احتوت الطبقات الأثرية في الموقع على بقايا طعام القرابين التي كانت تقدَّم في ذلك الطقس العقائدي، وكان الكعك المصنوع من القمح المحصود في بداية تموز / يوليو، هو القربان الأهم للإلهة عنات في طقس العيد المتكرر في كل عام. ويرجع تاريخ البدء بهذا الطقس الاحتفالي في فلسطين القديمة إلى الألف الثاني قبل الميلاد، في عيد رسمي يرمز إلى الأمل والتجدد والانتصار على قوى اليأس والموت.[5]

أمّا طقس "قَطِّع الخوفة" الذي يقام للسيدات اللواتي يعانين أمراضاً نفسية أو مشكلات في الإنجاب أو حتى أُسرية، فكان مرتبطاً بشكل أساسي بالصراع بين الخير والشر في المعتقد الإغريقي، ويقوم على إدخال امرأة لسرقة اللحم في الولائم الكبيرة من بين الرجال من أجل كبح القوى الشريرة.

لقد تم العثور على معبد إغريقي ومذبح كبير ورئيسي للإله "زيوس" في منطقة نمرا بالخليل، وتقوم اليوم على بقاياه آثار كنيسة نمرا البيزنطية في المنطقة الأثرية في تلة بئر حرم الرامة شمالي المدينة. وكان المؤرخ سوزومين تحدث عن طقوس الاحتفالات الجماعية التي كانت تقام في هذا الموقع في القرن الخامس الميلادي للآلهة الإغريقية، وأهمها تقديم النساء اللحوم المطهوة إلى النصب طلباً لحماية الآلهة لأُسرها.[6] وكانت المرأة تقوم بسرقة اللحم لتقدمها قرباناً للإلهة هيكات كي تضع حداً لشرور الإله إيريبوس، لكن الإلهة هيكات لا تستطيع أن تقدم المساعدة إلى البشر من دون أن يتخذوا موقفاً شجاعاً يُعتبر أساسياً في التخلص من الروح الشريرة؛ وتشمل قمة الشجاعة دخول المرأة وحدها بين الرجال ومواجهتهم لسرقة لحم القربان لإلهتها المخلصة، كي تطرد عنها شرور إيريبوس.

أمّا بالنسبة إلى طقس "الشرب من طاسة الرعبة" فإنه خليط من الرواسب الثقافية الفينيقية والفرعونية، إذ كان الناس يداومون على التقرب إلى آلهتهم في المعابد من أجل اجتذابها للمساعدة في طرد القوى الشريرة،[7] وذلك من خلال عطايا تقدَّم بواسطة الكهنة في أوانٍ ذهبية إلى إله الشفاء أشمون الفينيقي.[8]

وضمن تلك الطقوس كان الكهنة يقدمون إلى الناس ماء في طاسة ذهبية فيها سبع حبات من الزبيب أو التمر (استُبدلت الطاسة بالنحاس في العهد الفاطمي، ونُقش عليها نقوش إسلامية تحمل اسم الله والنبي محمد وفاطمة وعلي والحسن والحسين) بعد أن يتم وضعها تحت سماء مقمرة، وتعود الحبّات السبع في الميثولوجيا القديمة إلى ربطها من طرف الكهنة بالكواكب السيارة السبعة التي عرفوها ورمزوا بها إلى الآلهة وهي: الشمس والقمر وعطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل. وكانت الأواني تُملأ بالماء وتُترك مكشوفة في الجو طوال الليل، وفي يوم تقديم القرابين تقدَّم إلى المرضى وعموم الناس. وكان يتكرر هذا الطقس لثلاث أو سبع ليالٍ، وقد يمتد إلى أربعين ليلة تُتلى فيها بعض التعاويذ الدينية مثل: يا مَن بمائك يأتي الشفاء / تقبّلني / انتزعْ ما بجسدي وارمِه إلى ضفافك.[9]

برز من خلال البحث في مقومات هذه الممارسات تصور واضح للتراكمات الثقافية الكبيرة التي شكلتها وأفصحت عن شكل الارتباط الوثيق الذي ما زال يربط أفراد المجتمع اليوم بالنظام (الما ورائي) الذي تشكل الآلهة أساسه وتتحكم فيه وفق المعتقدات الميثولوجية القديمة (الدين الفلسطيني القديم)، والتي لا تزال تمارس بالشكل الأصلي نفسه، سواء أكانت الطقوس الناتجة من ممارسة محلية، أو المتأثرة بالحضارات المجاورة، نتيجة التفاعل البشري الاجتماعي القائم على التجارة أو الصراعات والحروب.

واتضح من خلال البحث أن الممارسات زاخرة برواسب ثقافية مرتبطة بالحضارات الفينيقية واليونانية والرومانية والمصرية بشكل أساسي، والتي تكرست في الوعي الشعبي عبر علاقة جدلية قوامها وعي الإنسان بالكون والمادة. وغالباً ما يصيغ الخيال ذلك الوعي المستند في تصوراته إلى العواطف والانفعالات التي لا ترتكز إلى دليل عقلي، بقدر ما تعتمد على انفعالات لا تتطلب الاثبات والبرهان، بحيث تصبح عبارة عن صورة وجدانية ذات طاقة إيحائية عالية. 

ترانيم الألم الموؤود

هذا المستوى من البحث المتعلق بالأغاني التي تُعتبر جزءاً مهماً من التاريخ الشفوي للمكان، والتي جاء البحث فيها من حاجة معرفية لأن الذاكرة بمفهومها الجديد تُعتبر كينونة وحالة بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية وتاريخية، هو بيت القصيد في هذا التاريخ الجديد الذي سُمّي جزء منه التاريخ الشفوي، إذ جرى التعامل مع الأغاني المؤرشفة على أنها مبنًى حكائي مسرود ناتج من ذاكرة متناقلة تشكل جزءاً لا يتجزأ من هوية إنسانية تحتاج إلى التأويل والفهم والتفسير، وذلك من خلال منهج بنيوي تكويني قادر على الكشف عن مسوغات إنتاج ذلك التفاعل الاجتماعي مع الواقع (الأغنية).

وقد حملت تلك الأغاني خمس لوحات اجتماعية متنوعة: الأولى حملت اسم "السفر برلك" وارتبطت بفترة التجنيد التركي الإجباري؛ الثانية تحمل اسم "يا مدعّسة قطوفك" وهي مرتبطة بعمالة النساء في بساتين الأعيان؛ الثالثة حملت اسم "شرّق الراعي" وهي مرتبطة بتحولات فترة غزو إبراهيم باشا لفلسطين؛ الرابعة تحمل اسم "إم العروس" وهي تحمل ملامح العرس الفلسطيني ضمن السياق التاريخي المتعلق بنهاية الحكم التركي؛ الخامسة جاءت في بدايات القرن العشرين وتتعلق بموسم النبي موسى، أحد أهم مواسم فلسطين الدينية.

حملت أغنية "السفر برلك" صورة واضحة عن النزعة الفردية الواعية في صراعها مع الآخر (الوجود العثماني)، وهي نزعة اتضح أنها قائمة على تجليات البنى الذهنية للفرد داخل ذلك الصراع، ومنبثقة من ولادة في خضمّ صراع المكان والزمان، وقائمة بين الأنا والآخر في المدينة الفلسطينية: الأنا الساردة لتلك الولادة المتعلقة بالفلسطيني صاحب الأرض المتمسك بالحياة من خلال بذل قصارى جهده من أجل الحفاظ على كينونته، والآخر المرتبط بالعسكر العثماني الذي يحاول بتر تلك الحياة وسرقتها، وهدم حجر الأساس في الأسرة داخل المدينة، في إشارة إلى علاقة أفراد البوليس العثماني بالتسبب بالدمار وتفشي الموت. وهذا الأمر جعل المرأة تخرج من بيتها في كسر لتابوهات المجتمع الشرقي كله، من أجل منع انهيار بنية الأسرة الداعم الأول لبنية المجتمع في المدينة وفق ملحمة لها آثار إيجابية وأُخرى سلبية تكشفت بعد عقود، ومتعلقة بالربا اليهودي في المدينة الذي سيؤدي إلى نشوء تراصف طبقي ورأس مالي جديد في المدينة يستبد بالطبقات الأقل منه.

أغنية "يا مدعّسة قطوفك" التي تقول: يا مدعسة قطوفك بكعاب الحنة / عين الأفندي ما بترحم تعب / ما تشمري ع الرمانة / ليغار من العنب، مرتبطة بشكل مباشر بعمالة النساء الفقيرات في حقول ومزارع العنب الخاصة بالمرابين والإقطاعيين من أعيان المدينة، ومنها نستطيع أن نستشف الفترة ذات التحولات الأعمق، والتي فرضت نوعاً من ممارسة اجتماعية مستجدة لم تُلاقِ استحسان المجتمع في مدينة الخليل، أي عمالة النساء في المزارع ، وهذا بحسب سياق الأغنية. وتشير كلمات الأغنية إلى الاستغلال الكبير الذي كانت تعاني جرّاءه النساء من طرف الإقطاعيين وملّاك الأراضي، إلى جانب الظلم الاجتماعي والفقر اللذين أجبراهن على تأدية تلك الأعمال. كما تبرز من خلال كلمات الأغنية إشارة واضحة إلى ظاهرة التحرش الجنسي، فهل يُعتبر هذا الانتهاك الجسدي امتداداً لممارسات طبقية موروثة متعلقة باستحواذ الملّاك حتى على أجساد النساء العاملات لديهن، أم إنه ظاهرة مستجدة في واقع المدينة الاجتماعي؟

وتحمل الأغنية الثالثة "شرّق الراعي" دلالات مهمة جداً ليس على مستوى تحول طريق التجارة من الغرب إلى الشرق فحسب، بل ما رافق تلك الطريق الجديدة من تحولات كبرى أيضاً أهمها، مثلما يرد في الأغنية، العلاقات القوية بين تجار الخليل وبدو بيسان وجبل العرب وسهل حوران والجنوب اللبناني، والتي نشأت عنها منفعة متبادلة تعلقت بتصدير أهل الخليل للأغنام واستيراد القمح.[10] وتقول الأغنية: شرّق الراعي يا صبية / طولي جرار القمح / غيمة المسا غربية / غزيها يشق الصبح.

والملمح الآخر المهم هو ما يتعلق بدود القز، المصدر الأساسي للحرير، إذ يبدو أن التجار من أهل الخليل حملوا معهم البيض وتقنية تفقيس البيض إلى المدينة في تلك الفترة، حيث كان يتم لف بيض القز بقماش أبيض يشبه الشاش الطبي، ويربط بالرقبة ليفقّس بعد فترة في دفء النهود، وقد حملت الأغنية هذا التوصيف بطريقة مقتضبة: "بعبّك دود القز". ويفقس البيض في نهاية نيسان / أبريل، حين تورق أوراق التوت التي تُعدّ الغذاء الأهم لتلك الحشرات التي باتت ذا قيمة عالية (دلب التوت بْيِنْعَزّ). والأمر الذي يدعم انتشار تلك الظاهرة في جبل الخليل هو وجود مثل شعبي لا يزال رائجاً حتى يومنا هذا، ويحمل في سياقه ما يدعم هذه الرواية (الإسكافي حافي، والحايك عريان)، في إشارة إلى أن مَن يعملن في تربية دود القز لا يلبسنه، لأنه كان يباع للأغنياء مع أن الفقيرات هن مَن يَحُكْنَه (ينسجنه).

تُعتبر السردية الفنية المغناة عملية إبداعية لم توجد عبثاً، وإنما جاءت نتيجة فشل الإنسان منذ بداية تفاعله مع محيطه، في الوصول إلى تصور كامل للعالم، بحيث أصبح المنتَج الإبداعي وسيلة من وسائل المعرفة الباحثة عن تفسير لوضع الإنسان في عالمه الواقعي. ويدخل هذا المنتَج في جدلية التفاعل بين الواقعَين المادي والإبداعي، والوعي القائم والممكن، في محاولة للوصول إلى معانٍ جديدة ربما تساهم في إعادة التوازن إلى الواقع المتأزم، كي يصبح طاقة فعلية تعبّر بلسان مؤلفيها عن واقعهم الاجتماعي.[11] 

خاتمة

من خلال هذه المقاربة الأنثروبولوجية التاريخية والسوسيولوجية في الذاكرة التراثية لمدينة الخليل، نستطيع الكشف عن بنية ثقافية وحضارية موغلة في التاريخ، وتعطي صورة حقيقية وغير مشوهة لتاريخ المدينة الحضاري؛ هذا التاريخ الذي عاثت فيه المصادر الدينية المستندة إلى الإسرائيليات والمصادر الاستشراقية التوراتية خراباً كبيراً، وتزويراً للتاريخ والحقائق.

لقد استطاعت الطقوس المتوارثة تثبيت جذرنا التاريخي في المكان، من خلال مقاربة أنثروبولوجية ربما تكون غير مكتملة الملامح، لكنها تزودنا بمفاتيح بحوث تاريخية عديدة يجب أن نخوضها بكل روح علمية كي نفهم تاريخنا ووجودنا على مسرح الحياة الإنسانية. والأغنية الشعبية التي حملت ملاحم بطولية على صعيد البناء الاجتماعي ضربت عرض الحائط بجميع تلك الروايات التي تمجد الماضي، وتدعو إلى العودة إلى عهد مليء بالأزمات والمشكلات والظلم كأنه مساحة للنور والخلاص، كما أظهرت الصورة الحقيقية لعلاقتها مع الوجود العثماني في المدينة الذي اعتبرته الآخر ولم تتقبله كجزء من نسيجها الاجتماعي.

أخيراً، نحن في أمسّ الحاجة إلى أن نشرّع أبواب البحث في الذاكرة الإنسانية لضرورة أبستمولوجية نستطيع من خلالها تتبّع أبجديات الحضارة والثقافة في المجتمع الفلسطيني، في ظل هذا التخاذل الذي يُنتَج تباعاً في حقول تدّعي المعرفة والتاريخ، فالذاكرة الحضارية هي شيفرة الوجود السرمدي التي لا تموت ولا تُعلّم، وإنما تُنقل بكل عفوية من قلوب الجدات إلى شغف الأحفاد بالحياة والاستمرار والحب.

 

المراجع:

بالعربية

  • البحري، محمد أمين. "البنيوية التكوينية من الأصول الفلسفية إلى الفصول المنهجية". بيروت: منشورات ضفاف، 2015. 
  • بن سباع، محمد. "تحولات الفينومنولوجيا المعاصرة: مرلو بونتي في مناظرة هوسرل وهايدغر". الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015. 
  • السواح، فراس. "الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية". دمشق: دار علاء الدين للنشر والتوزيع، 2011. 
  • سوزومين، سقراطس. "التاريخ الكنسي". تعريب بولا ساويرس. القاهرة: مشروع الكنوز القبطية، د. ت. 
  • شولش، ألكزاندر. "تحولات جذرية في فلسطين 1856-1882: دراسات حول التطور الاقتصادي والاجتماعي السياسي". ترجمة كامل العسلي. عمّان: الجامعة الأردنية، 1988. 
  • لوغوف، جاك. "التاريخ والذاكرة". ترجمة جمال شديد. قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017. 
  • الماجدي، خزعل. "الحضارات السامية المبكرة". بيروت: دار الرافدين، 2019.

 

بالأجنبية 

  • DePietro, Dana Douglas. Piety, Practice and Politics: Ritual and Agency in the Late Bronze Age Southern Levant. Berkeley: University of California, 2012.
  •  Goody, Jack. “Mémoire et apprentissage dans les sociétés avec et sans écriture: la transmission du Bagre”, l'homme, vol. 17 (1977), pp. 29-52.
  •  Heidel, Alexander. The Babylonian Genesis: The Story of Creation. Chicago: University of Chicago Press, 2009.
  •  Hooke, Samuel Henry. Babylonian and Assyrian Religion. London: Nabu Press, 2011.

المصادر:

[1] يأتي الطرح هنا بحسب منطلقات هايدغر في الأنطولوجيا الظاهراتية.

[2] جاك لوغوف، "التاريخ والذاكرة"، ترجمة جمال شديد (قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص 210.

[3] Jack Goody, “Mémoire et apprentissage dans les sociétés avec et sans écriture: la transmission du Bagre”, l'homme, vol. 17 (1977), pp. 29-52.

[4] الداراسات السامية هي علم يدرس الشعوب والحضارات السامية على مدى التاريخ وتحولاتها بمقاربات أنثروبولوجية واجتماعية وتاريخية وميادين أُخرى. انظر خزعل الماجدي، "الحضارات السامية المبكرة" (بيروت: دار الرافدين، 2020)، ص 61.

[5]Dana Douglas DePietro, Piety, Practice and Politics: Ritual and Agency in the Late Bronze Age Southern Levant (Berkeley: University of California, 2012).

[6] سقراطس سوزومين، "التاريخ الكنسي"، تعريب بولا ساويرس (القاهرة: مشروع الكنوز القبطية، د. ت.)، ص 188.

[7] فراس السواح، "الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية" (دمشق: دار علاء الدين للنشر والتوزيع، 2011)، ص 136.

[8] Samuel Henry Hooke, Babylonian and Assyrian Religion (London: Nabu Press, 2011), p. 54.

[9] Alexander Heidel, The Babylonian Genesis: The Story of Creation (Chicago: University of Chicago Press, 2009), p. 73.

[10] ألكزاندر شولش، "تحولات جذرية في فلسطين 1856-1882: دراسات حول التطور الاقتصادي والاجتماعي السياسي"، ترجمة كامل العسلي (عمّان: الجامعة الأردنية، 1988)، ص 102.

[11] محمد أمين البحري، "البنيوية التكوينية من الأصول الفلسفية إلى الفصول المنهجية" (بيروت: منشورات ضفاف، 2015)، ص 38.

السيرة الشخصية: 

أحمد الحرباوي: باحث في مختبر السرديات الفلسطيني (الخليل).