السودان، آخر عنقود من عناقيد "الربيع العربي"، يختبر ثورة مضادة تقودها الدولة العميقة ممثلة بالمؤسسة العسكرية / الأمنية التي تسعى لتكرار تجربتَي مصر وتونس، لكن هذه المرة بغياب كامل لفزاعة "الإسلام السياسي" الذي سقط مع سقوط نظام عمر البشير، وبتنبّه القوى الحيّة السودانية والشباب السوداني (شبان وشابات)، لما يحاك في غرف المؤسسة العسكرية المغلقة. الكباش على أشدّه، والمقبل من الأيام سيكشف لمَن سيكون الفوز.
عبّرت الثورة السودانية التي انطلقت يوم الثامن عشر من كانون الأول / ديسمبر 2018 عن توق شعبي عظيم إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بعد ثلاثين عاماً من الديكتاتورية العسكرية الظلامية. فقد التقت مجموعة واسعة من القوى السياسية والنقابية والمدنية، تشمل قوى ليبرالية وإصلاحية ويسارية، على إعلان تبنّته في اليوم الأول من سنة 2019 تحت تسمية "إعلان الحرية والتغيير"، نصّ، ضمن عدة أمور، على "التنحّي الفوري للبشير ونظامه من حكم البلاد"، و"تشكيل حكومة انتقالية قومية من كفاءات وطنية بتوافق جميع أطياف الشعب السوداني."
وترك الإعلان الباب مفتوحاً أمام اتفاق مع المؤسسة العسكرية، إذ تحدث عن "النظام الشمولي" تفادياً للحديث عن "الحكم العسكري"، ولم يفصح عن التزام صريح بخوض المعركة حتى إقامة حكم مدني، كما لم يشدد على مدنية الحكومة الانتقالية، وإنما استخدم كلاماً فسح المجال أمام العسكر للمشاركة في الحكومة المنشودة. ولمّا أزاحت القوات المسلحة رئيس الدولة، عمر البشير، في نيسان / أبريل 2019، في محاولة لإنقاذ النظام العسكري، اصطدمت برفض شعبي لاستمرار هذا النظام، وإصرار على إحلال حكم مدني محله.
عند هذه النقطة، حاولت المؤسسة العسكرية وأد الثورة بشنّها هجمة دموية لـ "فض اعتصام القيادة العامة" (تُعرف أيضاً بـ "مجزرة القيادة العامة") في الثالث من حزيران / يونيو، لكن نجاح المقاومة الشعبية في حشد الطاقات الجماهيرية وتنفيذ إضراب عام وعصيان مدني، وظهور بوادر تمرد على القيادة العسكرية داخل القوات المسلحة بالذات، فرضا على القيادة المذكورة التراجع في صيف العام ذاته، والقبول بمساومة عبّرت عنها وثيقتان هما "الاتفاق السياسي"، ثم "الوثيقة الدستورية"، وهما المسار الذي سمح بتشكيل "الحكومة الانتقالية" التي طالب بها إعلان "قوى الحرية والتغيير".
كانت المساومة تعبيراً عن ميزان القوى في لحظة من لحظات السيرورة الثورية، ودشّنت مرحلة جديدة وضعت البلد على مفترق طريقَين لا ثالث لهما: إمّا طريق تفكيك العسكر بالتدريج لما قدّموه من تنازلات آنية، خلال فترة تولّي قائدهم عبد الفتّاح البرهان، رئاسة "مجلس السيادة"، تمهيداً لانقضاضهم المجدد على السيرورة الثورية، وإمّا طريق بناء القوة الشعبية من خلال التعبئة السياسية والاجتماعية، والضغط من أجل تنفيذ البنود الديمقراطية في الوثيقة الدستورية (وهي بالتحديد تلك التي ماطل العسكر تفادياً لتطبيقها)، والعمل على نسج شبكة ديمقراطية داخل صفوف القوات المسلحة، تمهيداً للإطاحة بالقيادة العسكرية الموروثة من نظام البشير من أجل إقامة نظام ديمقراطي حقيقي.
أمّا الذي حدث فهو أن العسكر سلكوا الطريق الأول بخطى تسارعت مع الزمن، بينما لم تفلح القوى الثورية في خلق حالة من الضغط الشعبي كفيلة بدفع الأمور في اتجاه تجذير الثورة وقطع طريق الردّة. وإذ خشيت القيادة العسكرية من تصاعد الضغط الجماهيري في سبيل المضي إلى الأمام في تسليم السلطة إلى المدنيين، افتعلت بواسطة حلفائها السياسيين حالة من الانقسام المزعوم في صفوف الحراك الشعبي، تجسدت بتظاهرات مؤيدة للحكم العسكري. ومع أن التظاهرة المضادة التي نظّمها الحراك الشعبي كانت أكبر كثيراً من تظاهرات أنصار حكم العسكر، إلّا إن القيادة العسكرية اتخذت من هذه الأخيرة ذريعة لتنفيذ انقلاب في الخامس والعشرين من تشرين الأول / أكتوبر الماضي، قضى على مساومة سنة 2019 عبر الإطاحة بالفريق المدني الذي شارك فيها وحاول العمل بموجبها، مصطدماً بتعجيز مستمر من طرف العسكر.
فقد حلّ قائد الانقلاب، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول ركن عبد الفتّاح البرهان، المؤسستين اللتين عبّرتا عن مساومة سنة 2019، وهما مجلس السيادة ذاته والحكومة، واعتقل بعض أعضائهما المدنيين، ووضع رئيس الحكومة عبد الله حمدوك تحت الإقامة الجبرية، ثم أعاد تركيب مجلس السيادة بما يروق للعسكريين، معلناً قرب تشكيل حكومة من "الأخصائيين". بيد أن القيادة العسكرية فوجئت برفض شعبي عارم لانقلابها، ضاعف من وقعه إدانة الدول الغربية له. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن روسيا وإسرائيل هما أبرز دولتين أيدتا الانقلاب بصورة شبه مكشوفة، بينما ادّعت الإمارات العربية المتحدة، عرّابة القيادة العسكرية السودانية، الحرص على العودة إلى المسار المدني. وبعد أسابيع من المماطلة تحت الضغط الشعبي وضغط العواصم الغربية، شعرت القيادة العسكرية السودانية بضرورة الإيحاء بأنها رضخت للمطالبين بإعادة إحياء مساومة سنة 2019 الميتة، فأفرجت عن حمدوك لقاء قبول هذا الأخير بعقد "اتفاق سياسي" جديد معها.
لقد أبقت المساومة المجددة على كل ما قام به العسكر باستثناء تنحية رئيس الحكومة بالذات: فـ "الاتفاق السياسي" الذي وقّعه البرهان وحمدوك لم ينصّ على إعادة تفعيل المجلس السيادي السابق للانقلاب، ولا على إعادة تأهيل الحكومة السابقة، بل إن التراجع الوحيد الذي كرّسه لم يكن سوى إلغاء قرار قائد الجيش السوداني عبد الفتّاح البرهان إعفاء رئيس الحكومة عبد الله حمدوك الذي بات في نظر القسم الأعظم من الحراك الشعبي السوداني، شريكاً في لعبة العسكر بموجب هذا الاتفاق، وقد خيّب ظنّ أولئك الذين رأوا فيه بطلاً عندما كان لا يزال العسكر يحتجزونه.
وإذ انجلى الآن أن العسكر غير مستعدين بتاتاً لتسليم زمام الأمور فعلياً إلى حكم مدني ديمقراطي، استخلصت القيادة النقابية الرئيسية للثورة السودانية (التي يمثّلها "تجمّع المهنيين"، مدعومة من "لجان المقاومة" الشبابية، رأس حربة الحركة الشعبية السودانية)، أن السبيل إلى التقدم بالعملية الثورية نحو الهدف الديمقراطي المنشود لا يمكن أن يكون بالعودة إلى الوراء ومحاولة إحياء الصيغة الانتقالية التي كانت بحكم الميتة، وتجديد الأوهام بحُسْن نيات القيادة العسكرية، وإنما يمرّ السبيل الوحيد بتعميق الثورة على غرار ما عرفه التاريخ من حالات أدت فيها محاولات مضادة للثورة إلى تجذير العملية الثورية.
لقد صاغ "تجمّع المهنيين" وثيقة جديدة بعنوان "الإعلان السياسي لاستكمال ثورة ديسمبر المجيدة"، واقترحها على سائر القوى الثورية بصفتها مسودة لوثيقة بديلة من "الوثيقة الدستورية"، وتشكل أرضية برنامجية للمرحلة الجديدة في السيرورة الثورية السودانية. ونصّ الإعلان، ضمن أمور أُخرى، على "استكمال الانتقال المدني الديمقراطي بالمقاومة السلمية لانقلاب المجلس العسكري وحتى إسقاطه وتشكيل سلطة انتقالية مدنية خالصة ملتزمة بأهداف ثورة ديسمبر"، و"إعادة هيكلة القوات المسلحة عبر تغيير عقيدتها لتتماشى مع دورها في حماية الوطن والدستور، وأيلولة كل استثماراتها للسلطة المدنية ليقتصر نشاط القوات المسلحة الاقتصادي في المجالات ذات الصلة بالتصنيع للأغراض العسكرية"، و"تصفية جهاز أمن الإنقاذ ومحاسبة كل ضالع في جرائمه منذ 1989"، و"حلّ ميليشيا الدعم السريع وغيرها من الميليشيات والحركات المسلحة."*
إنها أهداف حيوية لا مستقبل للثورة السودانية من دون إنجازها؛ فإمّا أن تتمكن القوى الثورية من أن تحرزها من خلال تحقيق شرطين أساسيين، هما: القدرة على مواصلة التعبئة الشعبية والعصيان المدني، والقدرة على شقّ صفوف القوات المسلحة مثلما تسعى القيادة العسكرية لشقّ صفوف القوى الديمقراطية؛ وإمّا تلتحق الثورة السودانية بقافلة العمليات الثورية المجهَضة وتنضاف إلى سائر إخفاقات الموجة الثانية في السيرورة الثورية العربية الطويلة الأمد، بعد انتكاسة الموجة الأولى. وبكلام آخر، فإمّا أن تحقق القوى الثورية السودانية نجاحاً عظيماً يلهم موجة ثورية إقليمية ثالثة، وإمّا تخفق فتستحيل ثورة كانون الأول / ديسمبر "بروفة عامة" تستعد في ضوئها القوى الثورية، ولا سيما الشبابية منها، للموجة الثالثة المقبلة لا محالة، وفي مستقبل ليس بالبعيد.
* انظر نص الإعلان في صفحة "تجمع المهنيين السودانيين" (@AssociationSd)، في موقع توتير، في الرابط الإلكتروني.