تتشابه حالتا العراق ولبنان في بعض مفاصلهما التاريخية الحديثة، لكنهما تكادان تتطابقان في الأحداث الحاضرة، على الرغم من تفاوت الأحجام الجغرافية والديموغرافية والتعدد القومي. وإذا تجاوزنا البحث في التاريخ الماضي لكل من البلدين، فإن الحدث الحاضر يبدو شديد التشابه والتشابك، لما فيه من عناصر مشتركة تؤثر في السيرورتين الاجتماعية والسياسية فيهما.
ثمة ما يغري في قراءة بعض الأحداث التاريخية التي ربطت التطورات في العراق بتلك التي رافقتها أو تلتها في لبنان، وخصوصاً ما يسمّى الجيواستراتيجيا، أو التحولات الإقليمية والدولية التي تفرض نفسها على البلدين. فعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة في تركيبة المجتمعين العراقي واللبناني وفي حجم كل منهما، ومن التباين في مبنى الوطنيتين العراقية واللبنانية والنظم والنخب السياسية التي حكمت الدولتين بعد استقلالهما، فإن العديد من اللحظات الصراعية أو التسووية وصلت بيروت ببغداد، أو ولّدت ديناميات جديدة في كل منهما.
وإذا كانت حقبة خمسينيات القرن الماضي، وما تخللها من قيام حلف بغداد، ومن صراع مع الناصرية المتوسعة جغرافياً نحو سورية، قد عرفت في سنة 1958، تطورين فصلت أشهراً بينهما، وتمثّلا في الحرب الأهلية اللبنانية الخاطفة على قاعدة الخلاف على المحورَين الإقليميين المتواجهَين (وعلى التحاصص الطائفي الداخلي) من ناحية، وفي الإطاحة بالعرش الملكي وقيام الجمهورية في العراق من ناحية ثانية، فإن حرب الخليج في سنة 1980، والتي تلت الثورة في إيران، غيرت منظومة العلاقات الإقليمية، وأثّرت عميقاً في تحولات الساحة السياسية اللبنانية.
التحالف الإيراني - السوري ضد العراق وتأسيس حزب الله
إن الاشتباك السوري - العراقي بين البعثَين، ثم بين حافظ الأسد وصدّام حسين، والذي كان له تبعاته في لبنان من اغتيالات وبعض المواجهات المسلحة، وجد في الحرب مع إيران سبيلاً ليتوسع ولتصبح ترجمته اللبنانية تأسيساً لحزب سيتحول مع الوقت إلى الطرف الأقوى في المعادلة اللبنانية، وإلى الأداة الأكثر فاعلية لطهران في المنطقة بأسرها.
فسورية الأسد الأب تحالفت مع إيران الخمينية لسببين استراتيجيين: الأول، بهدف احتواء الخصم العراقي اللدود وإنهاكه؛ الثاني، كي تكون سورية وسيطاً بين إيران المعزولة دولياً وممالك الخليج وعواصم الغرب، بما يوفر لدمشق موارد مالية وأدواراً جهد النظام السوري لانتزاعها بصفتها مستند مشروعيته. وفي المقابل، تحالفت إيران مع سورية لحاجتها إلى دحض الدعاية القومية العربية التي شهرها العراق في مواجهة "العدو الفارسي"، وللركون إلى طرف وسيط في صلاتها الإقليمية والدولية المنقطعة، وللعبور إلى لبنان حيث النفوذ السوري، تصديراً للثورة الإسلامية. وقد أدى ذلك كله إلى تعميق التعاون الإيراني - السوري وترجمته تكويناً لحزب الله، وتنسيقاً في ملفات المخطوفين الغربيين في لبنان والمفاوضات السياسية والمالية لتحريرهم، ولو أنه أدى بعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية في سنة 1988 إلى تنافس دموي بين طهران ودمشق على إدارة "المسألة الشيعية" اللبنانية، كانت حروب حركة أمل وحزب الله أبرز تجلياته، إلى أن اتفق الطرفان على تقسيم الأدوار والركون إلى سورية سياسياً وحليفتها أمل إدارياً، وإلى إيران عسكرياً في المنازلة مع الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، والتي تولّاها حصراً حزب الله.
نهاية الحرب اللبنانية واجتياح العراق للكويت
إن التطور الأبرز الذي بيّن عمق الترابط بين الأحداث الجسام في العراق ولبنان، تمثّل في سنة 1990، في اجتياح العراق للكويت وضمّها إليه، بما أتاح لأطراف إقليمية ودولية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية حشد تحالف واسع مناهض للعراق، ثم شنّ حرب عليه تحريراً للكويت وتدميراً لبنيته العسكرية. وبدت المشاركة السورية في هذا التحالف مقرونة، أو بالأحرى مشروطة، ببسط نفوذ دمشق على لبنان الخارج نظرياً من حربه الأهلية، والذي واجه سِلْمُه المستجد بعد اتفاق الطائف عصياناً عسكرياً ذا طابع طائفي مسيحي. ويمكن القول إن النظام السوري حصل فعلاً، في مقابل انخراط قواته في التحالف الدولي، على الغطاء الأميركي والسعودي المنشود لإنهاء العصيان وبسط السطوة السياسية والاستخباراتية على الأراضي اللبنانية، ما عدا جنوبها الذي استمر الاحتلال الإسرائيلي لنصفه قائماً حتى سنة 2000. وسمح هذا الأمر لسورية بهيمنة رافقت مشاريع إعادة الإعمار الحريرية لبيروت، وفرضت تعايشاً بين حزب الله المسلح من إيران ورفيق الحريري المدعوم سعودياً، ليصبح لبنان ساحة تحكمها اعتبارات حافظ الأسد الإقليمية والداخلية، إذ كان تحضير التوريث قائماً، إلى أن أفضى في سنة 2000 إلى تولي بشار سدّة الرئاسة بعد مصرع الوريث الفعلي باسل قبل ذلك بأعوام.
بهذا المعنى، شكلت حرب الخليج التالية لاجتياح الكويت لحظة مفصلية في تاريخ العراق ولبنان، كما في تاريخ المنطقة، إذ انطلقت بعدها مباشرة مفاوضات السلام العربية - الإسرائيلية التي فاوض الأسد فيها بالنيابة عن سورية ولبنان (ضمن وفود مشتركة) من دون نتيجة، بينما وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو وعادت قيادتها إلى غزة والضفة الغربية، ووقّع الأردن اتفاق وادي عربة، قبل أن تتداعى العملية برمّتها مع استمرار الاستيطان الإسرائيلي وتوسعه في الأراضي المحتلة ورفض تل أبيب البحث في قضايا القدس واللاجئين والسيادة الحدودية واندلاع الانتفاضة الثانية ومحاصرة ياسر عرفات في مقرّه في الضفة ثم موته مسموماً.
ولا شك في أن اندحار الاحتلال الإسرائيلي عن الجنوب اللبناني في ربيع سنة 2000، أربك القيادة السورية التي اضطرت إلى البحث مع الإيرانيين عن أدوار جديدة يمكن إناطتها بحزب الله، بما يُبقي ذرائع تسلحه قائمة. كما أن هذا الاندحار أبطل الحجج السورية التي بقي بموجبها جيش الأسد واستخباراته على انتشارهم اللبناني، وأوجد تحالفات سياسية لبنانية جديدة راحت تطالب برحيلهم وباستقلال بيروت عن حُكمهم، لكن من دون جدوى.
وكان أن أجّلت هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001 والمناخ الدولي الجديد الذي أوجدته، الاستحقاقات السورية - اللبنانية قليلاً. فالحرب الأميركية المسماة "حرباً على الإرهاب"، استهدفت بداية أفغانستان حيث مقر إقامة بن لادن المسؤول عن تنظيم الهجمات، ثم استهدفت العراق من جديد. والاستهداف الثاني، الآتي وفق عقيدة تغيير الأنظمة التي اعتنقها محافظو واشنطن الجدد (على الرغم من ادعائهم استناده إلى إخفاء بغداد أسلحة دمار شامل)، أنهى التفويض الأميركي لسورية بإدارة الشؤون اللبنانية، معتبراً حلفها مع إيران حلف شرّ. وشكّل ذلك خاتمة لغطاء سعودي - أميركي أوجدته الحرب الأولى على العراق قبل 12 عاماً. والأرجح أن النظام السوري لم يفقه الأمر تماماً أو يدرك مدى جديته إلّا حين تحوّله إلى قرار أممي في سنة 2004 (قرار مجلس الأمن رقم 1559)، بمبادرة فرنسية - أميركية دعت، ضمن أمور أُخرى، إلى خروج القوات السورية من لبنان، ونزع سلاح ما تبقّى من ميليشيات فيه.
التتمة معروفة: اغتيال رفيق الحريري في سنة 2005 وما تلاه من انتفاضة شعبية لبنانية ضد دمشق، إلى انقسام طائفي وسياسي لبناني وتصارع على السلطة عقب الانسحاب العسكري السوري، وحرب تموز / يوليو بين حزب الله وإسرائيل في سنة 2006، وصولاً إلى تفوّق الحزب الشيعي على خصومه المحليين وفرضه خياراته الأمنية وتحالفاته الخارجية بدءاً بسنة 2008.
الدور الإيراني المتعاظم
لعل رصداً للتطورات في المنطقة خلال تلك المرحلة، بعيداً عن التفصيلات الداخلية في كل بلد على أهميتها القصوى، يُظهر تكرار تلاقي المصائر العراقية واللبنانية. فسقوط نظام صدّام حسين في بغداد بعد سقوط نظام الطالبان في كابول، مكّن إيران من التحرر من احتواء عدوّين لها لتصدير نفوذها على حدودها الشرقية وعلى حدودها الغربية حيث أولويتها الاستراتيجية. فالاحتلال العسكري الأميركي للعراق ولأفغانستان لم يغير من الأمر شيئاً، إذ نجح الإيرانيون في توسيع شبكات تحالفاتهم في البلدين، واستفادوا من عمليات مقاومة الأميركيين المسلحة، بل موّلوا بعضها. كما استفادوا من انهيار الدولة المركزية نتيجة سياسات "اجتثاث البعث" في العراق، و"إعادة تكوين السلطة" في أفغانستان، لينسجوا مزيداً من العلاقات، وليستثمروا في المسألة المذهبية المنفلتة عراقياً لعدة أسباب مرتبطة بسردية مظلومية شيعية، وببروز المشكلة الديموغرافية بعد طول إخفاء، وبنظام محاصصة مستجد غير بعيد عن النظام الطائفي اللبناني وقسمته، على الرغم من ادعاء الفدرالية.
بهذا تقدمت إيران بالتدريج في الإقليم وتحولت إلى لاعب سياسي وأمني في أفغانستان (عبر حلفائها من الهزارة)، وبنت عمقاً استراتيجياً حيوياً من طهران إلى البحر المتوسط، مروراً ببغداد ودمشق (حيث الأسد الابن شديد الحاجة إليها) وبيروت، مستفيدة من التوزع في ولاءات السلطات العراقية الجديدة بينها وبين الأميركيين. كما رسخت حضورها المباشر على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية بواسطة حليفها الموثوق به حزب الله، والذي جهدت لاستنساخ تجاربه اللبنانية في العراق، عبر دعم تشكيل ميليشيات شيعية وأجهزة أمن تواليها، وتكون دولة ضمن الدولة.
ويمكن اعتبار تصاعد التوتر المذهبي السنّي - الشيعي في المنطقة، ترجمة للتقدم الإيراني هذا، وللردّ السعودي المذعور عليه، ثم لصعود طرف عراقي جاهز لمقارعته بالنار. فقد انشق تنظيم القاعدة في الرافدين بقيادة أبو مصعب الزرقاوي عن التنظيم الأم وعن بن لادن وأيمن الظواهري، وبات يعتبر استهداف الشيعة العراقيين موازياً لاستهداف الأميركيين وحلفائهم في وحدات الأمن العراقية، الأمر الذي أدى إلى مئات الهجمات، بما فيها الانتحارية، على الأحياء والمزارات الشيعية. وردّت أجهزة الأمن العراقية والميليشيات الموالية لإيران عبر عمليات استهدفت مناطق سيطرة تنظيم الزرقاوي فيما عُرف بمنطقة "المثلث السنّي" في وسط البلد، وتصاعدت العصبيات المذهبية التي فاقمتها تداعيات حلّ الدولة العراقية من طرف الأميركيين، وتسريح الآلاف من الموظفين والضباط من هيئاتها ومؤسساتها، وجلّهم من العرب السنّة، وتظلّمهم ثم انكفاء بعضهم نحو ميليشيات عشائرية، أو نحو القاعدة لحماية أنفسهم والانتقام من "نُخب" الحكم الجديد.
ولم يكن التوتر السنّي - الشيعي في لبنان بأقل من نظيره في العراق (ولو أن لا عنف جماعياً أو اقتتالاً واسعاً تخلله، ما عدا اجتياح حزب الله المسلح لبيروت في سنة 2008 وإسقاطه الحكومة بالقوة، ثم تحوّل الاحتقان المذهبي إلى مناوشات في طرابلس بين شبان من الأحياء السنّية والعلوية الأكثر فقراً في المدينة)ـ إذ إن هذا التوتر المذهبي حال دون تشكيل حكم مركزي قادر على معالجة شؤون البلد، وأبقى الانقسام فيه حاداً ومعطِّلاً لقيام الدولة ومؤسساتها وحقّها في احتكار العنف.
الانكفاء الأميركي والثورات العربية
في سنة 2011، اندلعت الثورات العربية ضد الاستبداد في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، ثم وصلت إلى سورية حيث النفوذ الإيراني الواسع. وترافق الأمر مع تجاذبات وخلافات عراقية بشأن خطة الرئيس الأميركي باراك أوباما لسحب قوات بلده، وأيضاً مع تحولات داخل خريطة القوى الجهادية في العراق وبدء صعود أبو بكر البغدادي وتوسّع المعارك بين مقاتليه وقوات الأمن العراقية والميليشيات الشيعية.
ما جرى بعد ذلك بات معروفاً: انفلات هائل للعنف، وقمع النظام في سورية للمنتفضين عليه، واللذان حوّلا الثورة إلى كفاح مسلح؛ تقدم لقوات البغدادي في العراق تحت مسمى "دولة العراق الإسلامية"، والذي أوجد – في موازاة المواجهة المركزية في سورية بين النظام المدعوم إيرانياً وروسياً والمعارضات التي حصلت على مساعدات غربية وخليجية وتركية - مواجهات بين جهاديتين: جهادية سنّية تحلقت حول "الدولة الإسلامية" التي تمددت ابتداء من سنة 2013 داخل الأراضي العراقية والسورية وأعلنت قيام الخلافة، بعد عام من الاستيلاء على الموصل، باحتلالها وسط العراق وبعض غربه وشماله وشرق سورية وبعض شمالها وضمّها إلى صفوفها "مهاجرين" من عشرات الجنسيات؛ جهادية شيعية شملت حزب الله اللبناني وعدداً من الميليشيات العراقية (عصائب أهل الحق، وأبو الفضل العباس، والنجباء وغيرها) وفصيلَي فاطميون الأفغاني وزينبيون الباكستاني المقاتلَين بإمرة فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني.
وتسبب تهديد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) للحكم العراقي الجديد وللوحدات الكردية (المتباينة سياسياً في العراق وسورية)، فضلاً عن استمرار توسع سيطرته الترابية في البلدين، بإعلان "الجهاد الكفائي" الشيعي (من النجف) وتشكيل قوات الحشد الشعبي، ثم إعلان واشنطن الحرب عليه بعد إعدامه صحافياً أميركياً، متعاونة مع الإيرانيين والقوى الموالية لهم في العراق ومكتفية بدعم الأكراد لقتاله في سورية، ومتخلية بالتالي عن بلورة مقاربة سياسية للمسألة السورية بعد تراجعها عن خطّها الأحمر الكيماوي قبل ذلك بعام. وفسح هذا التخلي المجال أمام روسيا في سنة 2015، للتدخل عسكرياً وإنقاد نظام الأسد المتهالك في دمشق.
تركت هذه المعطيات كلها، ومعها عمليات القتل والتهجير والفرز الديموغرافي المذهبي في العراق وسورية ووصول مئات الآلاف من اللاجئين إلى لبنان، آثاراً لن تُمحى حتى على المدى البعيد؛ فإيران خلقت بنى عسكرية وثقافة ميليشياوية بإمرة حرسها الثوري، منتزعة في الوقت نفسه اتفاقاً نووياً مع واشنطن ترافق مع رفع متدرج للعقوبات عنها، ووصلت في تمددها إلى اليمن حيث دعمت الانقلاب الحوثي على المسار السياسي في سنة 2014، استنزافاً للسعودية على حدودها الجنوبية، وتحكّماً في أمن البحر الأحمر في موازاة التحكم في أمن مضيق هرمز. وإذ شنّت الرياض وحليفها الإماراتي حرباً شاملة على الحوثيين ابتداء من سنة 2015، فإنها فشلت في حسم الصراع بعد أن فشلت في تعديل موازين القوى في لبنان، وانكفأت من سورية بفعل التدخل الروسي، وصار رهانها الوحيد هو على التصعيد الأميركي ضد الإيرانيين بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً في سنة 2017، وانقلابه على الاتفاق النووي معهم وإعادته العقوبات الاقتصادية على طهران.
وعلى الرغم من بعض محاولات إحداث مصالحات وطنية في العراق، فإن ضراوة الحرب على "الدولة الإسلامية" ثم هزيمتها، ولّدتا خراباً سياسياً ومذهبياً إضافياً جرّاء تكشّف فظائع ما ارتكبه جهاديو "الخلافة"، ونتيجة العمليات الانتقامية التي تلت سقوطهم، وكذلك نتيجة رفض الميليشيات الشيعية التخلي عن سلاحها وبقاء بعضها خارج المنظومة الأمنية والعسكرية العراقية التي أُعيد تركيبها لتشمل جميع القوى التي قاتلت "الخلافة". كما أن التفاوتات الاقتصادية، والفساد المستشري داخل النخب السياسية والاقتصادية الجديدة (أو القديمة المتجددة)، فاقما من أزمة البلد الذي استمرت المسألة الكردية فيه من دون حلّ رسمي نهائي بعد تراجع الأكراد عن استفتاء الاستقلال، على الرغم من وجود جميع المؤسسات الضرورية لبناء الدولة المستقلة.
وفي سورية، تواصل انتشار الجهاديين الشيعة بإمرة إيران، وبات تعرّضهم لقصف دوري إسرائيلي - تُجيزه موسكو - مؤشراً إلى رغبة روسية في إخراجهم بالتدريج من دون التضحية بالتحالف مع إيران، ووفق أجندة باتت تركيا شريكاً في التعامل معها بعد انتشار قواتها في الشمال الغربي السوري، بما أبقى للمعارضات السورية منطقة وحيدة للحركة بعد خسارتهم جميع المناطق لمصلحة الروس والإيرانيين وقوات النظام.
أمّا لبنان، فإن أعواماً متواصلة من التأزم السياسي والمذهبي وانتشار شبكات النهب والفساد، ومن الصراعات الإقليمية المتسببة بتهجير واسع نحو أراضيه وبتراجع النمو الاقتصادي فيه، عَنَت أنه يتجه إلى انهيار اقتصادي شامل، ذلك بأن عمليات الهندسة المالية التي اعتمدها المصرف المركزي، وتيسيره اقتراض الدولة من المصارف الخاصة تعويضاً عن انعدام القدرة على الاقتراض الخارجي بعد تخطي الدين الحدود القصوى المسموح بها، وتحوّل خدمة الدين إلى أكثر من ثلث الموازنة الوطنية السنوية، أمور أدت إلى تراجع مطرد في احتياط المصارف، وإلى ضغط متزايد على الليرة اللبنانية. ولم تشفع وعود المساعدات الفرنسية والدولية المشروطة بالمباشرة في إصلاحات محددة، في تعديل الأمور، إذ إن الإرادة الإصلاحية - ولو تجميلياً - غابت تماماً، والهدر والنهب لم يتراجعا، وتهريب الأموال إلى الخارج من طرف العارفين باحتمالات الانهيار تزايد. وجاءت العقوبات الأميركية على "كيانات" وهيئات، والتمنع السعودي عن أي عون أو استثمار بذريعة هيمنة حزب الله على الكيانات المعنية وعلى الحياة السياسية، ليُفاقما من التأزم ومن العزلة اللبنانية.
الموجة الثانية من الثورات والثورات المضادة
بدأت تطورات مهمة تلوح في المنطقة ابتداء من أواخر سنة 2018، ثم طوال سنة 2019. فالثورات العربية التي هُزمت بين سنتَي 2012 و2015 نتيجة الثورات المضادة والعنف والانقلابات والتدخلات الإيرانية والإماراتية والروسية والسعودية والتركية والسياسات الأميركية والغربية المهجوسة بقضايا الاستقرار ومنع النزوح وصعود الإسلام السياسي، تجددت في دول لم تعرف الموجة الأولى. فمن السودان إلى الجزائر اندلعت تظاهرات ضخمة فاقت في حجمها ومثابرتها كل ما سبقها، ثم انضم إليها كل من العراق ولبنان في أواخر سنة 2019، وبدا أن موجة ثانية من الثورات في طريقها لإثبات أن هزيمة الموجة الأولى ليست نهائية. وإذا كانت ثورتا السودان والجزائر وُجّهتا حكراً ضد النخب الحاكمة في البلدَين، فإن ثورتَي العراق ولبنان تداخل فيهما الشأن الوطني بالشأن الإقليمي. لكن القمع في السودان، والسعي لاحتواء الثورة من طرف المجلس العسكري مدعوماً من دولة الإمارات، وتضحية الجيش بعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر ودعوته إلى انتخابات عامة ودستور جديد، أوهنت الزخم الثوري، وخصوصاً في الجزائر، ثم جاءت جائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية لتساعد في محاصرة ما تبقّى من حيوياته.
أمّا في العراق، فقد واجهت الميليشيات والقوى الأمنية جموع المتظاهرين بالرصاص والاغتيالات، وأرخى الكباش الأميركي - الإيراني (بما في ذلك اغتيال الأميركيين لقاسم سليماني قائد فيلق القدس وردّ إيران بقصف مواقع أميركية) ثقله على الحراك الشعبي الذي تراجع زخمه مع الوقت، علماً بأنه كان قد عبّر في بعض جوانبه عن وطنية عراقية لدى أوساط شيعية واسعة في البصرة وبغداد رافضة للهيمنة الإيرانية.
في الوقت نفسه، تعرضت الثورة اللبنانية لضربات شديدة العنف، بدأت باستثارة الحميّة المذهبية الشيعية ضدها، ثم تأثرها بنتائج الكارثة الاقتصادية والإفلاس المالي وضياع أموال المودعين في المصارف وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، مروراً بعوارض جائحة كورونا، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت الذي جسّد خير تجسيد تحوّل الفساد لدى جميع أطراف الحكم إلى فعل إجرامي موصوف أطاح بعشرات آلاف المواطنين قتلاً أو تهجيراً أو رحيلاً عن البلد.
هكذا، فشلت موجة الثورات الثانية في تعديل موازين القوى في المنطقة وداخل كل بلد معنيّ، ولو أنها أبرزت طموحات وإرادات تغيير وثقافة سياسية مواطنية آخذة في الترسخ في أوساط شعبية متنوعة. ونجحت الأنظمة المستهدفة بالانتفاضات في التماسك مرحلياً، كما نجحت الأنظمة الراعية لها، في إيران والخليج، في منع تهاويها والعمل على إعادة تعويمها، وهذا كله في موازاة تطبيع متسارع مع إسرائيل يهدف، تماماً مثلما هدفت الممانعة قبله، إلى حماية الاستبداد وتبريره.
ويمكن الزعم، على سبيل الخلاصة، وبالعودة إلى لبنان والعراق، أن البلدين باتا مع سورية، عرضة لإعادة تشكيل مجتمعي ديموغرافي، وأن حدودهما مشرعة على جملة عوامل قد تبدّل من معالمهما نتيجة الاحتلالات في سورية، وتفكك الدولة في لبنان، والتمسك الإيراني بالهيمنة في العراق، وطموح الاستقلال الكردي. وهذا بذاته مؤشر إلى عمق الأذى الناجم عن أعوام من القمع والحروب والاجتياحات والنهب المنظم وتوظيف الطائفية والمذهبية في مشاريع نفوذ قاتلة.