في ذكرى التقسيم، وفي اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني (29 تشرين الثاني/نوفمبر) نجد أنفسنا بلا عنوان.
هذا لا يعني أن الشعب الفلسطيني اختفى، بحسب العنصرية الإسرائيلية وتهويمات المشروع الصهيوني الذي يريد أن يعيد الشعب الفلسطيني إلى عتمة ما بعد حرب نكبة 1948.
ولا يعني أن النضال من أجل الحرية والبقاء، وفي مواجهة النكبة الزاحفة، قد تراخى أو توقف. فالفلسطينيات والفلسطينيون في الأرض المحتلة والمنافي والشتات، يقاومون، وظهرهم إلى الفراغ العربي الذي يحاصرهم بالتطبيع والتتبيع.
كما لا يعني أن الصوت تلاشى، فالصوت يكسر عتمة زنزانات الأَسر، ويقاوم في القدس وجنين ونابلس وغزة والجليل واللد ويافا وحيفا، ويمزج الموت بالحياة والبطولة بالألم. وهو لم يغب عن ركام مخيمَي اليرموك وتل الزعتر، وظل يتسلل من خلف الحصار والبؤس في مخيمات اللاجئين.
فلسطين هنا. كانت هنا وستبقى هنا، لا الحصار يركعها ولا القمع يخيفها.
لكن ما نخشاه هو إضاعة العنوان، بحيث يفقد العرب أو غير العرب من الذين يعتبرون فلسطين جرحاً عربياً، وقضية انسانية، وأفقاً للعدالة والحرية، طريقهم إليها.
هناك مَن يبعثر العنوان، ويعبث به بشكل مقصود، كي تدوم هيمنته ومصالحه، وهناك مَن يشتري الوهم الإسرائيلي معتقداً أنه يشتري بقاءه في السلطة.
يجب أن يبدأ السؤال في فلسطين.. هنا / هناك يقع الموضوع الأساسي. فمن أجل أن تكون مواجهة التطبيع فاعلة عربياً وعالمياً، وكي تكون المقاطعة سلاحاً ضد دولة الأبارتهايد الإسرائيلية، يجب أن يتوقف التطبيع الفلسطيني مع إسرائيل، وهذا يبدأ من وقف التنسيق الأمني، وصولاً إلى تأكيد المؤكد، وهو حق تقرير المصير.
يبدأ السؤال من فلسطين، لأنها هي العنوان. ومن الضروري أن يستمر النضال في كل مكان، لكن من دون فلسطين يذهب كل شيء سدى.
فنحن نعيش أكثر لحظات التاريخ الفلسطيني صعوبة، لأن الأمور وصلت إلى لحظة كشف المستور كله.
فحكومة اليمين والوسط واليسار في إسرائيل، والتي نجحت في التخلص من نتنياهو، نجحت أيضاً في التخلص من الحياء والالتباس الذي طبع الحياة السياسية الإسرائيلية في حقبة هيمنة ما يسمى يسار الوسط. الآن هناك إجماع إسرائيلي على رفض الانسحاب واحتقار المفاوض الفلسطيني والتمسك بالتوسع الاستعماري الاستيطاني، تمهيداً لإعلان ضم الضفة الغربية قانونياً.
هذه الصراحة - الوقاحة، يقابلها عالم عربي يزحف بحثاً عن الرضى الإسرائيلي ويطبّع ليس مع دولة الاحتلال فقط، بل مع المستعمرات الاستيطانية في الضفة أيضاً.
عالم عربي يتفكك ويعتبر أمن بعض دوله جزءاً من العلاقة القديمة - الجديدة بإسرائيل، وسط تفاقم الصراع العبثي - الطائفي مع إيران، والذي يتحمل طرفا هذا الصراع الأهوج مسؤوليته.
وهناك صمت دولي مريب؛ صمت هو أقرب إلى التواطؤ، والانخراط السعيد في تشجيع التطبيع العربي - الإسرائيلي، وتحويله إلى أولوية واقعية.
وهناك أخيراً مشاعر تمتزج فيها المرارة باليأس، في مشرق عربي صارت نكبته صورة جديدة عن وحشية زمن النكبات الذي بدأ بالنكبة الفلسطينية.
وسط هذا الواقع المؤلم، ضاع العنوان.
قد نقول إن العنوان هو فلسطين، وقد نقول أيضاً إن هذا العنوان يستدعي التوق العربي إلى الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة، وإن الأسى الفلسطيني يتصادى مع الأسى اللبناني أو السوري أو العراقي، الذي يلف المشرق بالخيبة والاستبداد.
هذه العناوين صحيحة لكنها في حاجة إلى عنوان يجمعها ويؤطرها.
هذا العنوان يجب أن نجده في فلسطين.
اكتشاف العنوان اليوم أكثر صعوبة من مرحلة أواخر الستينيات بعد هزيمة حرب حزيران / يونيو المخزية.
في تلك المرحلة كان النظام العربي مكشوفاً ومهلهلاً وعاجزاً عن صدّ صعود فكرة المقاومة.
أمّا اليوم فنحن في مواجهة مزيج من الصلف والوقاحة، ليس في المحيط العربي فقط، بل في فلسطين نفسها.
آن أوان الخروج من فقاعة سياسية واقتصادية وأمنية ارتضتها مجموعة من ورثاء الزمن القديم ومعها كتل من رجال المال الذين وجدوا في استقلالٍ فلسطينيٍّ اسميٍّ وسيلتهم لنهب فلسطين، وللعمل كرديف للاحتلال الذي يَعِدهم بمزيد من إمكان تجميع الثروات على حساب الوجود الوطني.
آن أوان الخروج من انقسام فصل غزة عن الضفة، والذي جعل من المقاومة أداة ضغط، متناسياً أن المقاومة في وطن تحت الاحتلال إمّا أن تكون نمط حياة، وإمّا لا تكون.
لسنا طوباويين كي نعتقد أن يقظة الضمير لا تزال ممكنة، فالأمور لن تعود إلى نصابها القديم، لأنها بَنَت نصاباً تراكمياً جديداً من الوقائع، بات الخروج منه شبه مستحيل.
النصاب الجديد الذي يعيد العنوان إلينا يجب أن يُبنى من جديد، وهو يجد بذوره في الشيخ جرّاح، وفي المقاومة اليومية في القرى التي تواجه هجمات المستوطنين، وفي السجون حيث جعل الأسرى من كلماتهم وأجسادهم التي أنهكها التعذيب جسراً للعبور إلى الحرية، وفي إرادة المقاومة التي جسّدها باسل الأعرج ورفاقه.
عملية البناء طويلة ومعقدة.
أوسلو، ثم هزيمة الانتفاضة الثانية، خلقتا ركاماً غطّى وقائع الاحتلال بالوهم والوهن وبالتطبيع اليومي والتطبع لمواءمة زمن الاحتلال بخطاب مهلهل عن عملية سلام لا وجود لها إلّا في الأوهام.
وبينما تبحث فلسطين عن احتمالاتها الجديدة، فإنه يتعين على العمل الفكري والبحثي والثقافي أن يستمر ويبدع، ويكون صدى لمخاض يستولد الحي من الميت. وهذا يحتاج إلى فضيلتَين:
التواضع بالمعنى العميق للكلمة، فنحن لا نملك المعرفة بل نسعى للوصول إليها، ونحن ورثاء خيبات كبرى يجب أن نتعلم من دروسها؛ وتأكيد الجوامع المشتركة، وهذا لا يعني طمس الخلافات إذا وُجدت، بل وضعها في مكانها كي لا تحجب التناقض الرئيسي مع الاحتلال. والأمر ينطبق على أوجه النشاط الفكري والثقافي كلها: من المقاطعة، إلى تأكيد تكامل النضال الفلسطيني مع النضال العربي ضد الاستبداد، والنضال العالمي ضد العنصرية وأشكال القمع الفردي والجماعي كافة.
مواسم الغياب
في تشرين الثاني / نوفمبر 2021، حصد الموت ثلاثة أسماء كبيرة لمعت في سماء الثقافة العربية.
كأن موسم الغياب، جاء ليذكرنا، وسط الأزمات والنكبات، أن الإبداع هو ملجأنا الأخير، وأن الأدب والرسم والموسيقى هي الأشكال الأكثر فاعلية في مقاومة التصحر العربي بماء الكلمة.
- إيتيل عدنان الشاعرة والرسامة والروائية، التي أعادت إلى الكلمة براءتها الأولى، وإلى اللون إيقاعاته الروحية، ماتت في باريس عن ستة وتسعين عاماً كانت مليئة بتلاوين بلدنا. فهذه السورية اليونانية اللبنانية والفلسطينية، كانت نسيج وحدها، محوّلة الإنجليزية والفرنسية التي كتبت بهما إلى إيقاعات عربية امتلأت بعبير الشرق، وبتلاوين الانتماء إلى قضايا الإنسان، من الهندي الأحمر إلى الفلسطيني، ومن لبنان الذي كسرته طبقة فاسدة اختطفته، إلى سورية في مأساتها الكبرى.
- سماح إدريس، رئيس تحرير مجلة "الآداب"، الناقد والناشر وكاتب قصص الأطفال واليافعين والمعجمي، مات في بيروت عن ستين عاماً، بعد معاناة خاطفة مع مرض السرطان.
سماح ادريس هو ابن مجلة "الآداب" التي كانت في الخمسينيات والستينيات منبراً للطليعة الأدبية العربية، وقد تحولت معه إلى منبر فكري ونضالي جعل من فلسطين قضيته الأولى. الالتزام كان شعار "الآداب"، وهو التزام بقيم الحرية والعلمانية والعروبة. هذا الشعار استمر مع سماح، ومعه ارتفع صوت المثقف الذي جعل من فلسطين أحد وجوه بيروت، وتعامل مع بيروت بصفتها مرآة فلسطين.
- همفري دايفيز، عاشق اللغة العربية، ومترجم كثير من الأعمال الروائية العربية إلى الإنجليزية، مات في بريطانيا عن ثلاثة وسبعين عاماً، بعدما نُقل إليها بشكل عاجل لإجراء جراحة لاستئصال التورم السرطاني في البنكرياس.
توج دايفيز، الذي أقام في القاهرة وعمل في الجامعة الأميركية، حياته المهنية بعمل إبداعي كبير، إذ قام بترجمة "الساق على الساق" لأحمد فارس الشدياق إلى اللغة الإنجليزية، محققاً بذلك إنجازاً أدبياً مدهشاً.
في مواسم الغياب لا نودع أصدقاءنا الموتى إلّا بشكل مجازي، فموت الأدباء والمثقفين والفنانين ليس سوى استعارة للحياة التي تتجدد في أعمالهم.