قام مسرح "البسطة" مؤخراً، بالتعاون مع مركز خليل السكاكيني الثقافي، وبدعم من مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، بإنتاج عمل مسرحي تفاعلي يحمل عنوان "لائحة اتهام"، وهو عرض يحاكي المحاكم العسكرية، عبر وضع الجمهور في تجربة المعتقل، عقلياً ونفسياً وعاطفياً.
وكان اختيار "البسطة" لتمثيل هذا العرض موفقاً، في رأيي؛ وذلك بسبب العلاقة بين الموضوع وطبيعة عمل مسرح "البسطة" التي اعتمدت في عروضها على "تحويل المكان إلى مساحة مسرحية تفاعلية"، بالإضافة إلى انشغالها مؤخراً بقضية الاعتقال السياسي، وقد تناولت في عرضها السابق "غرفة 26" مواضيع حياتية للأسرى السياسيين في فلسطين وخارجها، وفق ما قاله المشرف الفني للمسرحية حسام غوشة.
تتوسع التجربة أكثر في هذا العمل لتتناول قضية المعتقل منذ لحظة اعتقاله إلى محاكمته. "وقد شاركَ ‹البسطة› مجموعة من أصدقاء المسرح والمهتمين، بالإضافة إلى أعضائها"؛ أصدقاء ومهتمون رغبوا في مشاركتها هذه التجربة بصورة جماعية، فتشاركَ الفريق في الفكرة والبحث والكتابة والإخراج والتمثيل. لقد كانت تجربة مشتركة في كل شيء، وهذا كان أساس رغبة أصدقاء "البسطة" في خوض التجربة معها، إذ وجد فيها الممثلون مساحتهم الكافية، كما يقول موسى نزال "ومن دون الهرمية التي تقتل الإبداع". أمّا خليل البطران فقد دخل في هذه التجربة ككل انطلاقاً من رغبته في "الاحتكاك بالشارع والتفاعل القريب مع الجمهور"، ووجد في "البسطة" فرصة لهذا النوع من المسرح "التفاعلي المحتك، والذي يضيف إلى تجربته الشخصية والتمثيلية بعداً جديداً استحضره في نفسه وجسده كممثل"، وأيدت لارا نصار هذه الآراء بشأن المسرح التفاعلي، فقالت إنها تجربتها الأولى في هذا الإطار، وأضافت أن لديهم الكثير من المعرفة خلال العمل كفريق جماعي يبحث ويصنع تجربته ويطوّر شكل العرض، وساعدها "على استكشاف قدراتها في مجالات مسرحية أُخرى غير التمثيل".
وأول خطوة جماعية قام بها الفريق هي البحث في القضية، وإذا كان المسرح يتكون من ممثل وجمهور فقط - في رأي جيرزي غروتوفسكي- فإن مهمة العرض هي أن تعمل على هذين العنصرين والعلاقة بينهما؛ ولذا، يفرض مطالب خاصة على الفريقين مرتبطة بالثقافة والوعي، "لكننا لا نستطيع تثقيف الجمهور - على الأقل ليس بصورة منتظمة - بل نستطيع تثقيف الممثل"، والمسرح بهذا المعنى هو عملية تثقيفية وتعليمية للممثل أولاً، فهو ليس ساعي بريد، بل عليه أن يكون الرسالة، أن يحملها في ذاته ووعيه وجسده، ومن هنا جاءت أهمية البحث المسرحي الذي قام به الفريق، الذي تثقّف عبر البحث كما يقول عثمان علي، ويكمل موضحاً: "شاركتُ في العمل لأعرف حقيقة المحاكم العسكرية وأنقل معرفتي إلى الناس، وأضاف لي هذا العرض المعلومات الكافية عن المحاكم العسكرية"، وبالمثل أوضحت يارا البرغوثي فقالت: "شاركت في هذا العرض حتى أثقف نفسي بواقع نعيشه كل يوم، لكننا لا نعرف تفاصيله بحذافيرها".
تعلّم الفريق الكثير عن المحكمة وكواليسها، وتآمُر القضاء مع الاستخبارات والطب ومع كل مكونات مؤسسة الاحتلال، وكانت مرحلة البحث قاسية وصعبة ومثيرة للاستغراب، لا أقول الاستغراب بمعنى استبعاد الأمر وعدم معقوليته، وإنما الاستغراب كنقيض للاعتياد.
المعرفة عن المحكمة أعطت الفريق مسؤولية صعبة تجاه المجتمع "وتوعيته بما أعرفه، وتذكيره بهذا الواقع الذي يؤذي كل الفلسطينيين كل يوم". وأجمع الفريق على هذه المسؤولية وأهمية أن يكون العرض نزيهاً تجاه الأسرى والقضية، وجاء السؤال هنا عن الشكل الفني، بمعنى كيف سيتم نقل الحقيقة؟ هل ستنقل الواقع؟ تنتقي وتكثّف؟ تعيد رسمه وتشكيله مسرحياً؟ ترمّز له؟ وأسئلة كثيرة شغلت الفريق.
وهنا يجب التوضيح أن المسرحية كانت عبارة عن محطات من رحلة المعتقل، وعلى الجمهور أن يمرّ بهذه المحطات التي تعتبر من واقع حياة الأسير، وتعمّد الفريق تقديم عرض واقعي. "فبعض المسائل في هذه الحياة لا يمكن تأويلها أو تحويلها" كما يقول موسى نزال، وأن السؤال الأهم في رأيه كان: "كيف أنصف أحبائي في سجون الاحتلال؟" وكأن المسرح هنا لم يكن منشغلاً بالشكل الذي يحبه الجمهور أو النقاد، بل ارتبط بأصحاب القضية، تلك القضية التي "لم يكن ممكناً الالتفاف بأي طريقة حول حقيقتها المؤلمة".
قرر الفريق إذاً أن يأخذ الحقائق التي حصدها من البحث ويقوم بتكثيفها وإلقائها على الجمهور بكل واقعية، وهذا ينبع بالضرورة من نوع العمل وملامسته لكل الشعب الفلسطيني؛ "فكل موضوع مسرحي يفرض نوعه وشكله، ومن هنا كان يجب أن يكون الشكل بهذه الواقعية المريرة"، وفقاً لبطران، أي أن هذا يحدث، "لا داعي للخوض في أية تأويلات لمصلحة الجمالية الفنية للعرض". ومن هنا أخذ العرض شكله التفاعلي الصادق، من دون مواربة ولا تأويل، وقد كان على الجمهور "أن يعيش التجربة من دون أي تجميل. ويتفاعل معها"؛ يتناولون قسوتها ويتلقّون حقائق غابت من فرط الاعتياد. لكن مع هذا "لم يكن العمل توثيقياً بحتاً، بل يستند إلى وقائع وحقائق، ثم يعيد تكثيفها وعرضها على الجمهور". والجمهور هنا لم يكن متلقياً خاملاً للعرض، بل كان متفاعلاً متورطاً في التجربة، لقد كان عليه "أن يتعمق في التجربة، ويتورط في الفعل المسرحي، ويتعلم ويتساءل بصورة جماعية، ومع الفريق".
لم يكن العمل جماعياً من حيث البحث والتفكير الجماعي فحسب، بل أيضاً شمل الجوانب الجمالية والإخراجية، إذ تشاركَ الفريق في صوغ النص بالتزامن مع العملية الإخراجية الجماعية، وحتى التمثيل المسرحي، فمثلاً عند بناء مشهد التحقيق والتعذيب، ومن المضحك المبكي أن استخبارات الاحتلال استدعت موسى نزال للتحقيق، وبعد انتهائه ذهب نزال إلى البروفة، ليعيد هو وخليل البطران بناء مشهد التحقيق على الرغم مما في ذلك من قسوة، ولم يكن سهلاً على كليهما الانفصال عن الواقع، لقد عاشه نزال مجدداً وقدّم للبطران نصائح تعطي شخصية المحقق صدقية أكبر. انتهى بناء مشهد التحقيق وأخذ كلٌّ منهما استراحة طويلة، لم تكن استراحة من البروفة، لقد كانت استراحة من الواقع المرير الذي يعيشه كل أسير فلسطيني.
بعد كل تلك الجهود والحزن الطويل والمعايشة الصعبة لواقع صعب، جاء موعد العرض، وقد كنتُ جزءاً من الجمهور "دخلتُ المركز الذي لم يعد مركز خليل السكاكيني، بل صار محكمة ومركز تحقيق وغرف انتظار وتفتيش وغيرها، دخلنا من الباب، أطفأنا الهواتف، وقّعنا على إخلاء مسؤولية، ارتدينا كمامات، دخلنا في متاهة، ضعنا فيها، وصلنا إلى غرفة انتظار، مررنا بزنزانة، سمعنا أصواتاً، سمعنا معاناة أسير ينتظر أمه، شاهدنا مشهد التعذيب من مسافة صفر، انتقلنا إلى المحكمة وحوكمنا. شاهدنا تتابُع الملفات والقضايا وهزلية المحكمة ولاشرعيتها، وصولاً إلى محاكمة الأطفال، إذ تنادي القاضية على الملف رقم 100، ولم يحضر أي معتقل، بل جيء بكيس كبير عوضاً عن الأسير، قامت القاضية من مكانها وبكل هدوء قالت: "أنا أيضاً أم؛ ولكنني هنا لأفرض الأمن، لا العدل" وهذه القاضية - الأم تقوم بإلقاء محتويات الكيس التي كانت عبارة عن ألعاب للأطفال، وكتب وملابس وأغراض وأقلام لأطفال، نراها تحاكمهم، ونراهم عبر فيديو توثيقي يُعتقَلون ويبكون"، ينتهي العرض، تُطفأ الإضاءة، لحظات من الصمت قبل أن تُضاء، ومن دون تصفيق.
كل عرض مسرحي تشغله بالضرورة ردة فعل الجمهور، وليس بالضرورة أن تكون ردة فعله بالتصفيق، فالكاتب السوري سعد الله ونوس كان ينتظر أن يتظاهر الجمهور ويفعل، لا أن يصفق، وقد عقّب على مسرحية "ليالي سمر من أجل 5 حزيران" على دور الجمهور، وكيف كان يشعر بمذاق المرارة والخيبة بسبب انتهاء عروضه بالتصفيق، والخروج من العرض من دون أي شيء، "فلا الصالة انفجرت في تظاهرة، ولا هؤلاء الذين يرتقون إلى درجات المسرح ينوون أن يفعلوا شيئاً"؛ أمّا في "لائحة اتهام" فلم يكن منتظَراً، أو على الأقل متوقعاً القيام بتظاهرة، وإنما البكاء وعدم التصفيق، "فمن سيصفق بعد هكذا عرض؟"، وبالفعل حدث المتوقع، إذ يقول نزال إنه حدّق في عيون الناس، فرأى العيون تبكي، ولم تجرؤ أي يد على التصفيق "وكأن الجميع كان يتذكر شيئاً، كل منهم في عالمه الخاص، وأيضاً معنا".
لقد سلّط العرض الضوء على قضية صعبة، وعالجها كما هي من دون هزلية ولا إيماء ولا تأويل، لقد كان الضرب ضرباً والشتم عنيفاً والمحاكمة قريبة ومهاجمة للجمهور، الجمهور تعرّض لكل هذا "وشعر بأنه مقيّد، يريد أن يتفاعل ويرفض، لكنه لم يستطع فبكى، كانت هذه طريقته في التعبير والتفاعل".
لم يكن البكاء من منطلق التطهير الأرسطوي المبني على التعاطف، وإنما جاء كمسؤولية، كما توضح عفاف أسدي: "لقد بكينا كثيراً في فترة الإنتاج وعلمنا بأن الجمهور سيكون مكاننا ويبكي في العرض"، لقد بكى الجمهور من داخل التجربة والحالة، إذ أنه كان "قريباً جداً من المَشاهد، وعلى تفاعُل معها، يستمع إلى المشهد ويراه عن قرب"، وهذا القرب وضع الجمهور في حالة ضغط خلال المحطات، حتى ولو لم يأخذ الأمر على محمل الجد في البداية، لكن عندما وجد نفسه داخل عملية التعذيب القاسي والمتجاوز لحدود المسرح، بدأ يشعر بجدية الموقف"، كان الجمهور يتورط خلال محطات المسرحية أكثر فأكثر، وبعد كل محطة كان يسأل نفسه، بحسب رأي خليل البطران: "هل أستطيع تحمُّل هذا؟" وكانت الإجابة في رأيه هي نعم، يستطيع الفلسطيني أن يتحمل هذا التعذيب ويستطيع الصمود، "إلى أن وصل الأمر بالمحكمة إلى إلقاء أطفالهم وألعابهم ودفاترهم وكتبهم، وقد عذبوهم وسرقوهم عبر المسرح والفيديو الممنتَج، هنا لم يستطيعوا التحمل، فالأمر خرج عن طاقة التحمل، كأنهم شاهدوا أطفالهم الذين يعجزون عن حمايتهم، الأطفال لن يتحملوا هذا. ولا نحن نستطيع خسارة أطفالنا، وهنا كان التعبير الوحيد بالبكاء".
ربما كانت وحشية التعذيب ومحاكمة الأطفال سبب بكاء الجمهور، كما يرى عثمان علي؛ وربما هي قسوة العمل وثقله، كما توضح لارا نصار؛ وربما كبت مشاعره طوال الوقت وانفجارها عند محاكمة الأطفال، كما تروي يارا البرغوثي؛ وقد يكون البكاء هو مسؤولية الجمهور، كما يتفق موسى نزال مع عفاف أسدي؛ المسؤولية بمعنى ألا يخرج الجمهور من عرض وينتهي كل شيء، "بل عليه أن يفكر فيما حدث، ويتساءل، ويعلق في تلك المحاكمة المسرحية المريرة والقاسية"؛ وربما سبب البكاء يعود إلى شعور الجمهور بالعجز وعدم التحمل، كما يوضح خليل البطران؛ وربما لملامسة العرض الجمهور بصورة شخصية، كما اتفق الطاقم؛ كلها أسباب مقنعة لبكاء الجمهور الذي يشكل شريكاً لطاقم العرض، فثمة "رابطة مقدسة بيننا وذاكرة جمعية لا نستطيع، لا نحن ولا الجمهور، أن نختار الهروب، هذا ما عملنا لأجله، وهذا ما اتفق عليه الجمهور، فلا يمكن أن ينسلخ الإنسان من جلده، ونحن شعب عظيم متأصل في الأرض ولا نخجل من البكاء".
ختاماً، أود أن أوضح أن هدف المسرحية الأساسي، في رأيي، أو على الأقل الهدف من الشكل المسرحي، هو تغريبنا عما اعتدناه، فالاعتياد يقتلنا ويجعل الغريب مألوفاً، على عكس دور المسرح الذي يغرّبنا عن المألوف، ولن نحتاج من خلال عرض كهذا إلى استخدام تكنيكات التغريب الملحمي، ليس علينا سوى أن نعيش التجربة مسرحياً حتى نشعر بهذا الاغتراب الفظيع، فهل من العادي أن يحقق القاضي الأمن وأن يسخر من مفردة "العدل"؟ أن يحاكَم أحدهم على بيع كمامة؟ أن يُسرقَ طفلٌ من مدرسته، وطالب من جامعته؟ هل يصح أن نعتاد الحكم الإداري؟ أن يعيش أسير أكثر من مئة يوم وهو مضرب عن الطعام؟ هل من العادي أن يُعتقل شاب بتهمة حادث سير تسبّب بمقتل كلب برتبة ضابط؟ هل اعتدنا كل هذا وأكثر؟ لقد كان على المسرحية أن تتجاوز كل قواعد الفن والمسرح وتكون فجة بحقيقتها المؤلمة، على الشاعر أحياناً أن يشتم غير مكترث بلغة الشعر، والموسيقي قد يهتف غير مكترث بالمقامات الموسيقية ورهافة الأذن الموسيقية، وكذلك المسرح... لقد احتجنا إلى أن نرى عن كثب حتى نرفض ونستغرب، حتى وإن كان الاحتلال وراء كل هذا، الاحتلال كفعل غير طبيعي وغير عادي.