البحث عن مسار ثالث
التاريخ: 
30/11/2021

تراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية إلى مستوى غير مسبوق، محدثاً فراغاً كبيراً ومقلقاً، إذ تتولى حكومة الاحتلال تعبئته على مقاس مصالحها الاستعمارية. فمن غير المنطقي سقوط إدارة ترامب وبقاء مشروعها السياسي "صفقة القرن" ساري المفعول على الأرض. النظام الدولي الذي لم يقبل صفقة القرن، لكنه في الواقع يتعامل مع مخرجاتها، بما في ذلك خنق فلسطين سياسياً واقتصادياً، ولم يتقدم بأي مبادرة سياسية بديلة لحل الصراع، ولم يأت على ذكر مبادراته السابقة "خريطة الطريق". وتراجع الاهتمام العربي الرسمي بالقضية الفلسطينية، بل عمل العديد من الدول العربية بعكس ما نصت عليه "مبادرة السلام العربية"، عندما أبرمت أربع دول عربية اتفاقات ومعاهدات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي جسدت تحالفاً سياسياً وأمنياً وتعاوناً اقتصادياً بين الدول العربية الموقِّعة وإسرائيل، وسط تأييد أو صمت معظم الدول العربية. وكان من اللافت تراجُع المانحين العرب والأوروبيين والأميركيين عن دعم السلطة على الرغم من استمرار التزامها باتفاق أوسلو من طرف واحد، ومن وقف معارضتها لاتفاقات التطبيع الجديدة، وقد أوصلها تراجُع الدعم إلى حافة الإفلاس، وانعكس ذلك على قطاعات واسعة من المواطنين. وطال تراجُع الدعم مؤسسة الأونروا التي تعيش ضائقة مالية، ولم تسلَم المؤسسات الأهلية من تراجُع الدعم وأصبحت أمام شروط وقيود جديدة قدمها المانحون استجابةً لضغوط إسرائيلية وأميركية. واستمر حصار غزة وازداد قسوة مع وقف المنحة القطرية بعد عدوان أيار/ مايو الماضي. التراجُع الدولي انعكس على الحضور الفلسطيني في وسائل الإعلام العربي والدولي. وكان من اللافت ضعف الاهتمام الإعلامي بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي في أثناء اجتماع الجمعية العامة السنوي.

 إن تراجُع الاهتمام السياسي والإعلامي والاقتصادي العربي والدولي ترافق مع استباحة إسرائيلية للأرض والموارد والحقوق والحريات الفلسطينية، وقرارات إضافية بالتوسع الاستيطاني، فضلاً عن استهداف المجتمع المدني، والمضي في تثبيت الاحتلال وفرض نظام فصل عنصري استعماري، وترافق أيضاً مع تدخلات إقليمية ودولية متزايدة في الشأن الفلسطيني؛ كل ذلك أفضى إلى حالة من التفكك والانقسام والضعف وفقدان الاتجاه وتعمُّق الانقسام السياسي الفلسطيني.

الحالة الفلسطينية الراهنة لا تسرّ صديقاً ولا تكيد عدواً، وهي تستدعي التوقف عند العامل الفلسطيني الذي ساهم في صناعة المأزق. صحيح أن الأطماع الاستعمارية الإسرائيلية المدعّمة بصناعة الوقائع على الأرض سبب رئيسي في دخول المأزق، وصحيح أن النظام الدولي وضع دولة الاحتلال فوق القانون والمساءلة وشجّع على بقاء الاحتلال، وصحيح أن التحول في النظام العربي والانتقال إلى طور التحالف- من موقع تبعي – مع دولة الاحتلال ساهم في المأزق. هذه أسباب حقيقية فعلت فعلها وتركت بصماتها السلبية القوية على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. غير أن انحدار العامل الذاتي الفلسطيني يُعتبر السبب الأهم في الوصول إلى المأزق الذي يعيشه الشعب الفلسطيني. فالعامل الفلسطيني المعافى والمبادر والنشط يستطيع الحد من غلواء الاستباحة والتواطؤ وعدم الاكتراث. ويستطيع فتح الأبواب أمام مسار تحرُّري يشارك فيه حلفاء الشعب الفلسطيني الحقيقيون، وهو ما قدمت نموذجه هبّة القدس وإضراب 18 أيار/مايو التاريخي.

دعونا نعترف بأن القيادة الرسمية غامرت بدخول مسار أوسلو بالاستناد إلى ثلاث ركائز: أميركية، وعربية رسمية، وإسرائيلية – حزب العمل ومعسكره. وافترضت أن الخلاص من الاحتلال وتقرير المصير وترجمة المشروع الوطني ستتم من خلال تلك الركائز، متجاهلةً بالمطلق أهم ركيزة ممثلة بالشعب الفلسطيني. كان تفعيل الركيزة والقاعدة الأهم بحاجة إلى مؤسسات ديمقراطية تُشرك الشعب في مقاومة الاستيطان والاحتلال والنهب والفصل العنصري؛ وبحاجة إلى تنمية الموارد من داخل المجتمع والتجمعات الفلسطينية وإعادة تدوير رأس المال ونقله من حالة الريع إلى الإنتاج؛ وكانت بحاجة إلى نظام تعليم يزيل القيود من عقول قوة التغيير الأساسية في المجتمع - مليون وربع المليون طالب وطالبة في الضفة والقدس والقطاع - ويطلق طاقاتهم. فضلاً عن الحاجة إلى منظومة قوانين تحترم الحق في حرية التعبير، وفي العمل والرعاية والضمان الاجتماعيين، وقوانين تزيل التمييز بحق نصف المجتمع، وتدافع عن العدالة. كان يمكن قطع أشواط مهمة في كل مجال من المجالات الآنفة الذكر على طريق إعادة بناء مجتمع وشعب حر قادر على جذب الحلفاء، وعلى الصمود والمقاومة وانتزاع حق تقرير المصير.

للأسف الشديد، جرى تغييب الشعب كأهم ركائز المشروع الوطني، وجرى بناء نظام سياسي بيروقراطي منفصل عن المواطنين ومتعارض المصالح معها، وسادت أشكال من الفساد الإداري والسياسي والمالي، ومن التلاقي والتعايش مع تحولات رجعية داخل الحركة السياسية والمجتمع، وهو ما ولّد أزمة ثقة مستفحلة بين المستوى السياسي والناس. وترتّب على ذلك مستوى من التعايش مع الانتهاكات والضغوط الإسرائيلية والتدخلات الخارجية. وشكّل الاستمرار في عملية سياسية أو انتظارها في ظل تقويض مقومات الحل السياسي على الأرض غطاء فلسطينياً رسمياً للوقائع الاستعمارية، وأوصل الحالة الفلسطينية إلى العزلة والعجز، وعلى الرغم من ذلك، فإن الخطاب السياسي والإعلامي استمر على حاله، واستمرت أساليب العمل والتفكير وآليات اتخاذ القرار ومعايير الولاء والاستنفاع على حساب المصلحة العامة.  

التجارب السياسية الديمقراطية، بما في ذلك قوى في مرحلة التحرر، تشهد في الغالب صعود قوى وهبوط أُخرى ضمن مبدأ التبادل السلمي لمركز القرار؛ في هذا السياق، صعدت حركة "فتح" وتنظيمات الكفاح المسلح بعد هزيمة 67، وتراجعت القيادة التقليدية المرتبطة بالنظام العربي الذي هُزم في حرب 67، وكان الانتقال ظاهرة صحية عززت النهوض الوطني والوحدة الوطنية. لكن حركة "فتح" انبرت لتقليد نموذج الحزب الحاكم العربي الذي تمردت عليه، واعتمدت بنية تنظيمية وأساليب سيطرة ومؤسسات قائمة على الولاء ونظام الكوتا، وفي الوقت نفسه سعت لتتويج تجربتها بإنجاز الخلاص من الاحتلال عبر مساومة تاريخية، لكنها وقعت في المحظور عندما أسقطت من حسابها أهم ركيزة، وهي الشعب الفلسطيني، واندفعت عبر اتفاق أوسلو نحو مقامرة سياسية محفوفة بكل أنواع الخطر، فوصلت إلى طريق مسدود وفاشل وكارثي. ودخلت وأدخلت معها الشعب الفلسطيني في مأزق؛ فهي من جهة، لا تستطيع التكيف مع الحل الإسرائيلي، نموذج "صفقة القرن"، حكم ذاتي منزوع الصلاحيات وتابع لدولة الاحتلال يكرس تصفية الحقوق الفلسطينية المشروعة؛ ومن جهة أُخرى، لا تقبل إجراء التغيير الضروري لتصويب العلاقة بالسواد الأعظم من الناس، لجهة اعتماد الديمقراطية والاستقواء بالشعب وإعادة بناء المؤسسة الوطنية (المنظمة) ومؤسسات السلطة وأجهزتها وأدوارها، توطئة للتخلص من قيود أوسلو وعلاقات التبعية.

أمام الانسداد الخارجي والداخلي، يُفترض تراجُع معسكر (حركة "فتح") عن مركز القرار، وصعود المعارضة التي رفضت أوسلو، ممثلة بـ (معسكر حركة "حماس")، في صيغة تبادُل سلمي ديمقراطي لمركز القرار والسلطة، كما حدث عندما تراجع الشقيري عن قيادة منظمة التحرير وصعد ياسر عرفات وحركة "فتح". هذا الخيار الافتراضي بدأ منذ شرعت دولة الاحتلال في تقويض مقومات الحل السياسي، عبر مضاعفة الاستيطان وبناء جدار الفصل العنصري وفصل القدس والضفة والقطاع والجنوب والشمال والغرب (48) والداخل والخارج عن بعضها البعض. كانت البداية بانتخابات 2006، حين حصلت حركة "حماس" على أكثرية المجلس التشريعي. السؤال: لماذا لم تحدث النقلة على الرغم من استمرار وتصاعُد وتائر التدمير المنهجي الإسرائيلي لمقومات الحل يوماً بعد يوم، وعلى الرغم من إخفاق مركز القرار الفتحاوي، داخلياً وخارجياً. هناك مجموعة من السياسات والعوامل حالت دون تحقيق النقلة، والبقاء في حالة من العجز والمراوحة.

أولاً: مشروع حركة "حماس" ينتمي إلى مشروع حركة الإخوان المسلمين في عموم المنطقة، ذلك المشروع الذي لم يكن من أولوياته تحقيق وحدة وطنية ملتزمة بمشروع وطني تحرري كما فعلت حركة "فتح" في إبان صعودها. فضلاً عن أن مشروع الإخوان كان على الدوام جزءاً من علاقات التبعية والهيمنة. وقد عجزت حركة "حماس" عن الصعود إلى قيادة التحرر والالتزام بمشروع وطني مستقل عن مشروع الإخوان المسلمين الذي استخدمها لتعزيز نفوذه وبناء مركز وقاعدة فلسطينية له. ودرجت حركة "حماس" على تقديم إشارات قبول برنامج دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران/يونيو – برنامج المنظمة – وتعترف بحدود إسرائيل من دون الاعتراف، وتتحدث عن هدنة طويلة الأمد كشكل عملي للاعتراف، ويجري الحديث عن مشروع تهدئة يفصل الحل في قطاع غزة عن الحل في الأجزاء الأُخرى، وتستخدم الشعارات الكبيرة للتغطية على استعدادها لقبول حلول لا تختلف، جوهرياً، عن حل أوسلو، وربما أقل. بهذا المعنى افتقدت "حماس" المشروع البديل، وعملت على وراثة "فتح"، بما في ذلك وراثة سلطة أوسلو بكل قيودها الغليظة، فدخلت الانتخابات بمرجعية أوسلو وأطرها التنظيمية، المجلس التشريعي والحكومة والشرطة والعلاقات.

ثانياً: لم تقدم حركة "حماس" نموذجاً ديمقراطياً وتصرفت كحزب حاكم يستخدم علاقاته مع الفصائل الأُخرى لتثبيت سيطرته، ولم تلجأ إلى الانتخابات في المجالس البلدية والمحلية، ولا في الجامعات داخل قطاع غزة، وحسمت السيطرة على قطاع غزة بالقوة، ومارست أشكالاً من التنكيل بحركة "فتح"، وبأي معارضين، بما في ذلك قمع حراكات شعبية سلمية، وقيدت الحريات العامة والخاصة، ولا سيما حرية التعبير والنقد، ووضعت كل مَن يمارسها تحت طائلة القمع، وكرست مقولة استبدال شرطي بشرطي وقامع بقامع. 

ثالثاً: تنتمي حركة "حماس" إلى المدرسة الدينية المتزمتة، التي تمارس التكفير والتحريم كأداة سيطرة على المجتمع، وعرّفت نفسها بأنها حكومة ربانية، وأن انتصاراتها ربانية، وتتبنى القوانين التي تميز ضد النساء، وتفرض الفصل بين الجنسين في الجامعات والمدارس، وفي الحيز العام والأنشطة الفنية، بما في ذلك المسرح والفولكلور، واستخدمت الدين كأداة سيطرة على المجتمع، وعلى السلطة.

رابعاً: السلاح الأهم الذي تملكه حركة "حماس"، والمؤثر في كل شيء، هو سلاح المقاومة. وهي تستخدم المقاومة في استقطاب التأييد الشعبي الفلسطيني، وفي عزل وإضعاف حركة "فتح" التي استبدلت المقاومة بالتفاوض والاحتجاج السلمي.. ثمة شك في وظيفة سلاح "حماس" الفعلية، فيما إذا كان أداة أساسية في استراتيجية التحرر والاستقلال، وفي هذه الحال من المفترض أن ينسجم مع منطق حرب شعبية طويلة الأمد تشارك فيها قطاعات واسعة من الشعب في مجالات مختلفة، ولا تقتصر المقاومة على النخبة العسكرية فقط، ولا يكون شكلها في المواجهة العسكرية الموسمية مع غطرسة القوة المتفوقة المعروفة النتائج. لم تعرّف حركة "حماس" الشكل الرئيسي للنضال وكيف يكون رئيسياً، وما هو دور الشعب. فإذا كانت المقاومة المسلحة شكلاً رئيسياً فإن دور الجماهير لا يكون مشجعاً ومؤيداً ومتفرجاً فقط، وأن الاشتباك مع المحتلين يكون يومياً، وليس مرة كل أربعة أعوام. بخلاف ذلك، تستخدم حركة "حماس" سلاح المقاومة كأداة سيطرة على السلطة والمجتمع، ولتعزيز نفوذ حركة الإخوان المسلمين عبر البوابة الفلسطينية، وأداة لتعزيز الدور الإقليمي لإيران في مقابل دعم المقاومة، وكل هذا لا يتم في سياق استراتيجية التحرر من الاحتلال. وإذا كانت المقاومة أداة أساسية في استراتيجية التحرر، فلماذا تتحدث الدوائر الإسرائيلية بصراحة عن تعزيز حكم "حماس" أو قبوله عبر هدنة طويلة الأمد يجري التفاوض عليها. لماذا تقبل سلطة مقاومة تهدد الأمن الإسرائيلي، وبصورة خاصة أمن المستوطنين المقيمين بغلاف قطاع غزة؟

خلاصة القول، لم تبنِ حركة "حماس" مساراً جديداً يؤهلها لقيادة المرحلة والخروج من مسار أوسلو الذي قادته حركة "فتح". ولا يوجد قطب ثالث، كاليسار مثلاً، استطاع أن يقدم مخرجاً، أو حاول أن يبني مساراً جديداً للاستقطاب. بقيت المفاضلة بين حركتيْ "حماس" و"فتح"، وباتت الكفة الراجحة لمصلحة حركة "حماس"، وبصورة خاصة في أثناء مقاومتها الاحتلال. المطروح استبدال حزب حاكم بحزب حاكم، وسلطة بسلطة بمعزل عن مضمون الاستبدال. ولم يكن من باب الصدفة وجود مسعى إسرائيلي إقليمي دولي لإنقاذ وترميم سلطة "فتح" في الضفة (مؤتمر المانحين)، وإنقاذ وترميم سلطة "حماس" في القطاع (البحث في اتفاق تهدئة طويل الأمد). هذا يؤكد انسداد الخيارين وطنياً. لكن المزاج العام ينحاز إلى المقاومة، وبعض النخب السياسية تقفز عن مقومات التغيير المطلوب وطنياً، وهي مع تغيير يحقق لها مصالح ضيقة، حتى ولو من خلال استبدال حزب حاكم بآخر، وسلطة غير ديمقراطية بمثيلة لها.

بدلاً من وضع الازمة على رأسها، المطلوب وضعها على قدميها كي تنفرج، والطريق إلى ذلك تكون ببناء العامل الفلسطيني المعافى والمبادر والنشط الذي يفتح الأبواب أمام مسار تحرُّري يشارك فيه الشعب الفلسطيني وحلفاؤه الحقيقيون. التحدي هو كيف يتم البناء على هبّة القدس وإضراب 18 أيار/مايو التاريخي وبيتا ومعارك جبل الخليل ضد المستوطنين وتجربة مقاتلي غزة، وكل ما هو مُجدٍ ومتوفر وحقيقي في عشرات المواقع. كيف يستمر نقد مسار أوسلو ومسار وراثة أوسلو، وكيف تكون الانتخابات محطة للتقييم ونقد التجربة وإعادة البناء على قواعد ومعايير المصلحة الوطنية العليا.

عن المؤلف: 

مهند عبد الحميد: كاتب وصحافي فلسطيني، رام الله.