أدب الأطفال وفلسطين: تجربة شخصية
التاريخ: 
10/11/2021
المؤلف: 

هناك ما يقفز سريعاً إلى الذهن حين تنطق كلمة فلسطيني، على وجه الخصوص حين يكون هذا الفلسطيني طفلاً. فبعيداً عن الأدبيات التي تتحدث عن حقوق الأطفال، والتي يقبع معظمها في صفحات الكتب المنسية، إلا إن واقع الطفل الفلسطيني لا يشبه أي واقع آخر، وسأتحدث عن هذه الخصوصية فيما يخص أدب الطفل بالذات.

 

لوحة للفنانة لبنى طه من كتاب " مذكرات أطفال البحر"

 

في الخامسة من عمري، هدم الجنرال شارون بيتي ضمن مجموعة من البيوت في مخيم الشابورة في مدينة رفح، وبرر ذلك بأسباب أمنية، وطبعاً لا يمكن لولد في الخامسة لم يدخل إلى المدرسة بعد أن يفهم الأسباب الأمنية، كل ما يفهمه أن هناك أشخاصاً بلباس الجيش يهدمون بيته الذي نشأ فيه، وهذه الحادثة كان لها تأثير مباشر في نظرتي إلى العالم حين كبرت، فحتى اليوم، هناك حذر من تفاصيل البيت فيما أكتبه للأطفال، مخافة أن يهدمه شارون آخر حتى في القصة.

صديقي الأول الذي كان يحضر لي الحلوى ويأخذني إلى البحر عندما كنت طفلاً، قتله الجيش أيضاً لأنه كان فدائياً، ولم يفهم الطفل الذي كنته كيف يمكن أن يكون سعيداً بمئة رصاصة في جسده، "أمي قالت إنه في الجنة وهو الآن سعيد". هذه الحادثة التي لم تبعد كثيراً عن هدم البيت كان لها تأثير كبير أيضاً في منطق رؤيتي للعالم، فبسببها كانت علاقة الكبار بالصغار دائماً مرتبكة في القصص التي أكتبها.

في كثير من ورش العمل التي أقوم بها منذ ثلاثين عاماً مع الأطفال، هم يكتبون دائماً عن بيوت مهدمة، وعن عصافير ميتة، وعن جنود وحواجز، وشهداء، وأراض مستباحة، وهذا ناتج أساساً من إحساسهم بالوجود الثقيل للاحتلال في حياتهم، اقتصادياً وتعليمياً وحياة يومية، لذا، فلسطين دائماً جريحة في كتاباتهم، لكنها عنيدة وتقاوم.

وبما أن الأدب لا ينفصل عن الواقع، إنما هو انعكاس له وتعبير عنه، وليس نقلاً له، فإن الأدب الفلسطيني الخاص بالأطفال، سواء ما يكتبونه أو ما يُكتب لهم، مرتبط بقضية الاحتلال بشكل أو بآخر؛ ومع أن بعض الكتّاب خرج من هذا الإطار في محاولة لكتابة أدب غير نمطي، إلا أنك في النهاية تلمح الاحتلال في ظلال القصة، في خلفيتها، لأنك لا تستطيع رسم غابات ملونة في لوحة مليئة بالأشواك والضباع، إلا إذا كنت تكذب.

انتقالنا إلى حارة جديدة بعد هدم المنزل، جعل أولاد الحارة الجديدة يقفون موقفاً عدائياً من هؤلاء الذين "ليسوا أبناء الحارة"، وأنا من ضمنهم، فلجأت إلى الانعزال النسبي، والذي كنت أعبئ فراغه بالقراءة، وكانت مكتبة المدرسة هي المصدر الأساسي للكتب مع مكتبة البلدية التي تأسست لاحقاً. وأذكر أن مكتبة مدرستي الإعدادية حصلت على شهادة من اليونسكو لكونها أكبر مكتبة مدرسة في الضفة وغزة، وحين أنهيت الثالث الإعدادي كنت قد قرأت ما يقرب من نصف كتبها بسبب حادثة طريفة، إذ كنا نتلقى درسين في النجارة والحدادة في مدارس الأونروا، ومدتهما 6 ساعات أسبوعياً، وذات مرة، وبسبب كوني نجاراً فاشلاً، جرحت إصبعي بالمنشار، وهو ما أدى إلى عقد اتفاق مع إدارة المدرسة على أن لا أحضر دروس الحدادة والنجارة، لكن بشرط ألّا أذهب إلى البيت، فأصبحت أمضي الساعات في المكتبة، ست ساعات أسبوعياً لمدة عامين.

لم تكن الكتب وقتها متوفرة، ولا آلات التصوير أيضاً، فكنا نضطر إلى كتابة الفقرات التي تعجبنا من الكتب في دفتر خاص، وهذه كانت مرحلة تأسيسية مهمة بُنيَ عليها لاحقاً الكثير من المفاهيم.

الحياة في المخيم تعطي نوعاً معيناً من الثقافة الحياتية التي تتعلق بالخبرة المباشرة في الأشياء التي تجبرك الظروف على تعلُّمها، فحين يتعطل شيء في البيت، وبسبب الفقر، عليك أن تحاول إصلاحه لأنه لا يمكنك اللجوء إلى فني الإصلاح في كل مرة، فتخطئ وتصيب إلى أن تتعلم، وتدخل هذه الخبرة لاحقاً في تكوينك الثقافي والإبداعي، وهناك العديد من القصص التي دخلت تجربتي كطفل في المخيم فيها، مثل قصة "الوردة"، وقصة "قرية الحروف" من مجموعة "قرية الحروف"، وقصة "مذكرات تلميذ ابتدائية"، والعديد من القصص الأُخرى التي كُتبت استناداً إلى تجارب عشتها أو عايشتها، ولم تكن لتُكتَب لو لم يكن الظرف الفلسطيني كما هو عليه الآن.

عدا ما يزرعه الآباء في أرواحنا عن فلسطين، هناك المشاهدات اليومية التي لا يمكن أن تخطئ فيها عين، فالفلسطيني مغموس في الهم اليومي الذي يسببه الاحتلال، من كأس الشاي الذي يشربه إلى الإعدامات الميدانية؛ لذا، لا يمكن لأي أدب في فلسطين إلا أن يتأثر بتلك المشاهد، وخصوصاً ذلك الأدب المخصص للطفل، على الرغم من المحاولات الدائمة للحديث عن عالم مختلف في القصة، من حيث منطقية الحلول وسيادة القيم المثالية كالصدق والأمانة... إلخ.

في النهاية، تجربة الكتابة ارتباطاً بالقضية الفلسطينية ليست تجربة اختيارية، فلا يملك الكتّاب الفلسطينيون، وأنا شخصياً كذلك، ترف الحديث خارج الدائرة التي تحيط بهم يومياً، ليس بسبب رغبتهم فحسب، بل بسبب فرض تلك الظروف نفسها على الواقع، وبالتالي على الأدب، لكن مع ملاحظة أن هذا الأدب عليه أن يكون استثنائياً حين يتم توجيهه إلى الأطفال، وهذا الاستثناء يجعله يشمل الخلو من الشعارات والأفكار النمطية، حتى تلك التي تخص القضية الفلسطينية، ببساطة، لكن من دون سطحية.

عن المؤلف: 

خالد جمعة: شاعر فلسطيني وكاتب للأطفال من غزة.