ماذا نكتب لليافعين؟
التاريخ: 
10/11/2021

قبل عدة أعوام كنت في معرض "جتنبرغ" في السويد، أشارك في ندوة ثقافية، فسألني أحدهم: "لماذا لا تكتبون عن مشكلاتكم السياسية في أدبكم الموجّه إلى الأطفال واليافعين"؟ وأعطى مثالاً مأساة اللاجئين السوريين، وذكر أنه أجرى دراسة أظهرت أن معظم الكتب الموجهة إليهم وتتحدث عن معاناتهم هي كتب أجنبية. وأردف: مع تدفُّق اللاجئين السوريين وغيرهم إلى البلاد الأوروبية شعر المربّون والمهتمون بالحاجة إلى تهيئة أطفالهم للوضع الجديد، وتعريفهم بمعاناة الأطفال اللاجئين الذين قد يزاملونهم في المدارس، وهذا ما نتج منه نشر عدد كبير من الكتب التي تعالج هذا الموضوع من منطلق تقبُّل الآخر المختلِف.

 

لوحة من كتاب " ما المانع" لتغريد النجار، ورسوم الفنان حسان مناصرة

 

فكرت في الأمر ملياً، وقد تراءت أمامي أحداث وكوارث اجتماعية وسياسية مرّت على بلادنا تباعاً، وتذكرت شعور الفرد منا بقلّة الحيلة، وهو يشاهد ما يحدث هنا وهناك من مصائب، وحاجته إلى حماية أطفاله من بشاعة الأحداث. قلت له إن الموضوع ما زال جرحاً ينزف، ومن الصعب الكتابة فيه وسط الحدث، وبالأخص لليافعين، وذكرت الحرب الأهلية في لبنان؛ إذ لم يتناول أي كاتب للأطفال أو اليافعين موضوع الحرب إلّا بعد انتهائها بمدة، فبدأت الكتابات تظهر، وكان أولها أو أشهرها كتاباً لليافعين للكاتب سماح إدريس عنوانه "الملجأ"، وفيه يتكلم عن تجربته الشخصية خلال الحرب الأهلية اللبنانية. بعده نُشر كثير من القصص التي عالجت موضوع الحرب الأهلية، وأهمية التعايش بين الأديان، وتقبُّل الاختلاف... إلخ.

شخصياً تأثرت- ككاتبة - كثيراً بالأحداث الأليمة في سورية، وأدركت أهمية أن يعرف الجيل الجديد ما يحدث عن طريق القصص أو الروايات، وهذا ما حثّني على كتابة رواية "ستشرق الشمس ولو بعد حين"، وهي قصة إنسانية تتحدث كيف قلبت الحرب حياة شادن - الفتاة اليافعة- وعائلتها رأساً على عقب.

يوصَف الأدب الموجّه إلى اليافعين في البلاد العربية بأنه أدب حديث نسبياً. ففي العقود القريبة السابقة كانت القصص المتوافرة لليافعين مترجمة، في معظمها، مثل مغامرات "أرسين لوبين" البوليسية، وسلسلة "المغامرون الخمسة"، التي أصدرتها دار المعارف لمؤلفها محمود سالم، الذي اقتبسها من سلسلة للكاتبة "اينيد بلايتن"، وكانت من أكثر السلاسل نجاحاً. أتبعها دار المعارف بسلاسل مشابهة لكتّاب آخرين، مثل: "المخبرون الأربعة" و"المغامرون الثلاثة".

وفي العقد السابق، أدرك المختصون أن هناك فجوة كبيرة في أدب الأطفال العربي بالنسبة إلى توفُّر أدب أصيل لليافعين يعالج مواضيع منوعة من صميم اهتماماتهم وظروفهم الخاصة في العالم العربي، فبدأ الاهتمام بجدية بهذا المجال، صدرت روايات عديدة موجهة إلى اليافعين، لكننا ما زلنا في أول الطريق، فالفجوة كبيرة وتحتاج إلى الكثير من الإصدارات في شتى المواضيع.

ومع أن أدب اليافعين لا يختلف في مضمونه كثيراً عن الأدب الموجه إلى الكبار، لكن له بعض الخصائص التي تميزه، وأهمها:

  • من الأفضل أن يكون البطل أو البطلة من عمر المرحلة الموجهة إليها، أي من عمر اليافعين أنفسهم.
  • أن يتطرق الأدب الموجه إلى اليافعين إلى موضوعات تهمهم، وهي كثيرة.
  • أن تركّز الموضوعات المطروحة تركيزاً شديداً على التحديات التي قد يواجهها الشباب. وهذه التحديات قد تكون شخصية أو عائلية أو اقتصادية أو وطنية.
  • إن أدب اليافعين يتميز عن غيره بكثرة عرض الصراعات؛ وهو ما يزيد الإثارة في الرواية، ويساعد على التعاطف والتماهي مع شخصيات الرواية. وقد يكون الصراع بين الشخصية وذاتها، أو بين شخصيات الرواية.
  • أن يتناسب الأسلوب الكتابي مع حاجات هذه الفئة العمرية، فيقلّل الكاتب من الإطالة في السرد، ويعتمد على التشويق، ويُكثر من الأحداث، ويستخدم لغة قريبة من لغة اليافعين ومفاهيمهم.
  • من حق اليافع أن يحصل على وجبة منوعة من صنوف الأدب، من خيال علمي، ومغامرات، وسيَر، واكتشافات، وقصص تاريخية واقعية، وقصص فيها مضامين سياسية أيضاً.

ولا يقتصر عرض المضامين السياسية، مثل الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية، على اليافعين، بل يُوجَّه أيضاً إلى الأطفال، ابتداء من مرحلة الطفولة المبكرة، شريطة أن يكون إبداعياً، فتُعرض الفكرة عن طريق قصة تثير اهتمام الطفل، وأن تكون لدى الكاتب المقدرة على التعبير عن هذه المفاهيم بطرق إبداعية مختلفة، وغير مباشرة.

أفضل مثال لهذا كتاب "النقطة السوداء" للكاتب والرسام وليد طاهر. وهي قصة عن التفكير الإبداعي والإيجابية وأهمية المثابرة وروح الفريق.
"اعتاد الأطفال اللعب في أرضهم الواسعة، لكن ذات يوم ظهرت نقطة سوداء ضخمة غيرت كل شيء. حاولوا أن يفهموا ما هي، ولما فشلوا استسلموا وقرروا التعايش معها.. إلا مروان...."

النبذة على الغلاف الخلفي تلخص فلسفة الكتاب:

"لا يهم إذا كان الحل سهلاً أو صعباً، المهم أن يكون حلاً.".

ويقول وليد طاهر إنه بدأ بكتابة القصة في أعقاب أحداث غزة 2008، وكان متأثراً بما يحدث، فانعكست مشاعره على مضمونها، وظهر فيها مضمون سياسي، وككل القصص الرائعة كان لها أكثر من تفسير، ضمنياً وظاهرياً..

وينطبق الشيء نفسه على الكتابة لليافعين. فمن خلال رواية مثيرة يمكن أن نناقش بعض المفاهيم أو الأحداث السياسية في سياق قصصي من دون حشو أو إطالة، فإذا نجح الكاتب في استحواذ انتباه اليافع إلى موضوع معين من خلال الأدب، فسيشجعه ذلك على البحث والمناقشة أكثر في ذلك الموضوع.

فعلى سبيل المثال كُتبت آلاف القصص عن "الهولوكوست"، أو ما يُعرف بالمحرقة اليهودية، حتى لا تكاد تحضر فيلماً، أو تقرأ كتاباً، إلا وتجد ذكراً للهولوكوست، أو لموضوعات أُخرى لها علاقة؛ لأنهم أدركوا أن أفضل طريقة لإيصال أفكارهم ورسالتهم هي من خلال الأدب القصصي والفن.

ومثالاً لذلك مذكرات الفتاة "آن فرانك"، التي تُرجمَت إلى أكثر من 25 لغة، وطُبِعت منها ملايين النسخ، وهي تدرَّس في كثير من المدارس في أرجاء العالم، وتعاطف الناس معها، ومع ما حدث لها ولعائلتها خلال الحرب العالمية الثانية والهولوكوست.

وينبغي لنا أن نعيَ أن عالمنا اليوم يختلف اختلافاً تاماً عن عالم آبائنا، فوسائل التواصل الكثيرة تستحوذ على اهتمام الشباب، وتأخذ نسبة كبيرة من وقتهم واهتمامهم. ومناهج الدراسة لم تعد تعالج من قريب أو من بعيد القضايا المصيرية التي يمرّ بها العالم العربي؛ فمنذ أعوام اختفت القضية الفلسطينية من المناهج التربوية، ولم تعد تدرَّس، مع الأسف. ولو سألت أي طالب عن القضية الفلسطينية، وهي قضيتنا المركزية، فستجد أنه يفتقر إلى معلومات أساسية عنها؛ لذا، حتى لا نفقد جيلاً بأكمله فإن الأدب هو أفضل طريق لتقديم الموضوع إليه.

ولكي ينجح الكاتب في الوصول إلى قلوب اليافعين وعقولهم عليه أن يكتب عن موضوع يهمّه ويتفاعل معه هو نفسه، حتى تصل مشاعره إلى القارئ صادقةً. لقد شعرتُ أنا نفسي بأهمية هذا الموضوع؛ لأنني فلسطينية الأصل، وموضوع فلسطين يرافقني منذ نعومة أظفاري، فكتبت ثلاث روايات. أول رواية كتبتها عن فلسطين لليافعين هي "ست الكل"، التي تتحدث عن فتاة في غزة تمارس الصيد لتصبح "صيادة"؛ فتواجه مشكلات مع مجتمعها المحافظ، ومع الاحتلال الإسرائيلي، مثل باقي الصيادين. والرواية مستوحاة من قصة حقيقية لفتاة في غزة اسمها "مادلين كلّاب".

تعكس الرواية الواقع الأليم لقطاع غزة، فمن خلال سرد الأحداث يتعرف اليافع – ربما لأول مرة - على مفهوم الأنفاق، والغارات الروتينية على غزة، وتحكُّم إسرائيل بمناطق الصيد لأهل غزة، ومعاملتها للصيادين، وسفن الناشطين الدوليين، مثل "سفينة مرمرة"، وحياة الشباب في غزة واهتماماتهم التي تشبه اهتمامات الشباب في أي مكان آخر، مثل اهتمامهم بالموسيقى، وأحلامهم، وطموحاتهم... إلخ، لكن كل ذلك في سياق أحداث الرواية، وفي قالب قصصي مشوّق.

أما رواية "لغز عين الصقر" فبطلها زياد الذي يعيش في مخيم قلنديا، ويعمل على حاجز قلنديا ليعيل عائلته، لأن والده سجين إداري. يكتشف بعد موت جدته أن الذهب الذي كانت تتكلم عنه موجود حقاً ومخبّأ في مكان ما في قريتهم المهجّرة (لفتا)، فيقرّر التسلّل إليها ليبحث عن ذهب العائلة المفقود، لكن عليه أن يحلّ أولاً لغزاً كتبه جده ليدلّ عائلته على موقع الذهب. ويتبع ذلك مغامرة مثيرة في البحث عن الذهب والجذور.

الرواية في ظاهرها يمكن أن تُقرأ كمغامرة (البحث عن كنز مفقود)، لكن الخلفية السياسية للرواية تكشف عمّا يحدث في الضفة الغربية وفي فلسطين المحتلة سنة 1948م، فيتفاعل اليافع مع الفلسطينيين الذين ينتظرون ساعات على المعابر، وربما سمع بالمعبر لأول مرة. وهناك أيضاً الجدار الفاصل، فكثير من الأطفال في الأردن وفي بلاد عربية أُخرى لم يسمعوا عنه، ولا يعرفون كيف يؤثر في حياة الناس.

يقول مجد من الصف الخامس (الأردن)، بعد قراءته رواية "لغز عين الصقر": "تعرفت على أشياء لم أكن أعرف بوجودها، لم أكن أعرف بوجود الجدار الفاصل، وكيفية تأثيره على حياة الناس... كنت أعتقد أن السلام يسود كل مكان، وأن الناس يعيشون كما نعيش نحن". وهناك أيضاً القرى المهجّرة والصبّار العنيد حارس ذكرى القرى، وما يعني أن يكون الإنسان سجيناً إدارياً... إلخ.

وتذكر ماريا نوارسة (14سنة- فلسطين) باعتزاز: "لغز عين الصقر" روايتي المفضلة، تجعلك تقلب الصفحة تلو الأُخرى، لتحلّ اللغز، الكلمات تجعلك ترى الأمل، بأن تُرْجِع شيئاً من إرث أجدادك... مغامرة جميلة، ومعلومات بين صفحاتها... عن قرية لفتا، وتاريخها.

أمّا الرواية الثالثة وعنوانها: "لمن هذه الدمية؟" فهي تسجّل حياة عائلة فلسطينية انتهى بها المطاف في شيكاغو في الولايات المتحدة، تتابع فيها الجدة الناشطة "ليلى"، الأستاذة الجامعية، ذكرياتها في يافا، ثم في بيروت قبل سفرها للدراسة في الولايات المتحدة وبقائها فيها. وتتداخل ذكرياتها مع حفيدتها "أروى"، التي تستعد لدخول الجامعة، ومحاولتها الموازنة بين جذورها العربية ونشأتها الأميركية، وحاجتها إلى العودة إلى جذورها، للبحث عن ذكرى والدها الذي اختفى في ظروف غامضة قبل أن تولد.

تقول السيدة أحلام ضراغمة، وهي أم ليافعَيْن، وتعيش في الولايات المتحدة: "قصة (لمن هذه الدمية؟) تجسّد معاناة شعب في أحداث يومية واقعية، يعيشها القارئ مع الشخصيات. من خلال هذه الرواية أتيحت لبناتي في المهجر فرصة فريدة لفهم تاريخ عجزت الكتب عن إيصاله لجيل جديد مفعَم بالأحاسيس، ولكن يفتقِر للحقائق التاريخية المبسّطة".

ويسعدني أن أقول إن عدداً من المدارس اعتمد هذه الروايات كقراءات إثرائية من خارج المنهاج. تقول نائب المرحلة الابتدائية لبرنامج اللغة العربية في مدرسة البكالوريا: "بعد اطّلاعي أنا وفريق عمل الصف السادس على رواية "ست الكل" وإعجابنا بمضمونها وطريقة تعامُل الكاتبة مع الأفكار السياسية بطريقة أدبية راقية جداً، تناسب المرحلة العمرية بكل المقاييس، من مفردة وفكرة وحبكة ورمزية وأدبية؛ فقد اتخذنا القرار باعتمادها في منهاج برنامج اللغة العربية وتدريسها لطلبة الصف السادس". وتكمن أهمية هذا التوجه في أن الطلاب سيناقشون هذا الموضوعات المصيرية ويتوسعون فيها.

وأود أن أؤكد أنه لا يجب أن تقتصر الكتابة لليافعين على الموضوعات السياسية الجادة، على الرغم من أهميتها، بل علينا، نحن كتّاب اليافعين، أن نتطرق إلى موضوعات تهمّهم، مثل: الصداقة، والتواصل مع الآخرين، والبحث عن الذات، وقبول الآخر، واستلطاف الجنس الآخر(مفهوم الحب)، والحياة، والدين، والموت، والعائلة، والحلم بالمستقبل، والهوايات، والموسيقى، والفن، والسينما، والاهتمام بالفنانين والمشاهير، والرياضة، والسياسة، وفرص العمل، والسفر، والبيئة، والجندر، والمساواة، وأحلام اليقظة، والاستقلالية، والخيال العلمي، والألعاب الإلكترونية، وغيرها الكثير الكثير.

عن المؤلف: 

تغريد النجار: كاتبة قصص أطفال وروايات لليافعين، ومؤسِّسة دار السلوى للنشر التوزيع – الأردن.