شنت حكومة الاحتلال الإسرائيلي في 22 تشرين الأول/الجاري هجمة قمعية قاسية على منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، وذلك عبر قيامها بتصنيف ست منظمات غير حكومية فلسطينية على أنها منظمات "إرهابية"، وهو ما يسمح لسلطات الاحتلال بإغلاق مكاتب هذه المنظمات، ومصادرة ممتلكاتها واعتقال موظفيها ومتطوعيها.
المنظمات الست المستهدفة
فقد أطلق بيان صادر عن مكتب وزير الأمن الإسرائيلي بني غانتس صفة "الإرهاب" على "مؤسسة الحق"، التي تعنى بحماية حقوق الإنسان وضمان سيادة القانون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتتمتع بوضع استشاري خاص لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة؛ و"مؤسسة الضمير" لرعاية الأسرى والدفاع عن حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب؛ و"مركز بيسان للبحوث والإنماء"، الذي يعمل على دعم صمود الشعب الفلسطيني من خلال "المساهمة في بناء مجتمع مدني نشط قائم على العدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية"؛ و"اتحاد لجان العمل الزراعي" الذي يعنى بالتنمية الزراعية والاهتمام بالمزارعين ومساعدتهم على حل المشكلات التي يواجهونها؛ والفرع الفلسطيني لـ "الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال"، الذي يهتم برعاية الأطفال الفلسطينيين وتأمين حقوقهم وضمان مستقبل آمن لهم؛ و"اتحاد لجان المرأة الفلسطينية"، الذي يناضل منذ سنة 1980 من أجل "الارتقاء بوضع المرأة الفلسطينية وتمكينها وضمان المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة وبناء مجتمع فلسطيني مدني ديمقراطي تقدمي خال من أشكال التمييز كافة".
يُذكر أن سلطات الاحتلال كانت قد صنّفت، في تشرين الأول/أكتوبر 2020، "القطب الديمقراطي التقدمي"، وهو الذراع الطلابي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الجامعات الفلسطينية، بأنه منظمة "إرهابية".
ما وراء هذه الهجمة القمعية؟
اعتبر بيان وزير الأمن الإسرائيلي أن هذه المنظمات الست "جزء من شبكة من المنظمات التي تستند إليها، تحت غطاء الأنشطة الدولية، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لدعم أهدافها وتعزيز أنشطتها"، واصفاً الجبهة الشعبية بأنها "تدعو إلى تدمير إسرائيل بأعمال إرهابية". وحث البيان المانحين الأوروبيين "على التوقف عن تمويل هذه المنظمات الست"، مضيفاً أن هذه المنظمات "تستفيد من مساعدات الدول الأوروبية والمنظمات الدولية التي يتم الحصول عليها عن طريق الاحتيال"، وأن المساعدات التي تحصل عليها "مكّنت الجبهة الشعبية من تمويل عائلات الأسرى [الفلسطينيين في إسرائيل]".
وقد استندت حكومة الاحتلال إلى تشريع "مكافحة الإرهاب" لسنة 2016 الغامض عمداً لـ "تجريم" نشاط هذه المنظمات الست، وطبّقت القانون الإسرائيلي الداخلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة في انتهاك صارخ للمادة 43 من اتفاقية لاهاي لسنة 1907، التي تفرض على قوة الاحتلال "احترام القوانين السارية في البلاد [المحتلة]". وقد أتت هذه الهجمة القمعية بعد سنوات من الحملات والهجمات المستمرة والمنهجية التي تطال منظمات المجتمع المدني الفلسطينية، والتي ترمي إلى إسكات الفلسطينيين والسيطرة عليهم بصورة دائمة، ووقف نشاط المنظمات التي تعمل على توثيق ورصد انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتسعى إلى مساءلة وملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في هذه الأراضي.
ردود الأفعال الفلسطينية على هذه الهجمة القمعية
إدراكاً منهما لمخاطر هذه الهجمة القمعية التي استهدفت المنظمات الست، أصدر كلٌ من "شبكة المنظمات غير الحكومية الفلسطينية" و"المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان" بياناً مشتركاً دعا منظمات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان في العالم وهيئة الأمم المتحدة إلى "مطالبة إسرائيل بإلغاء تصنيفها لمنظمات المجتمع المدني الفلسطينية الست على أنها "منظمات إرهابية""، و"إدانة هذه التصنيفات باعتبارها تطبيقاً غير قانوني للقانون المحلي الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية المحتلة"، و"التأكيد علناً على دعمهم منظمات المجتمع المدني الفلسطيني".
أما "مؤسسة الحق"، وهي إحدى المنظمات الست المستهدفة، فقد أصدرت بياناً أشارت فيه إلى أن تصنيفها من قبل حكومة الاحتلال، مع خمس منظمات فلسطينية أخرى، على أنها "منظمات إرهابية"، يمثّل "استمراراً للهجمات التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في نضالهم من أجل الحرية والعدالة والحق في تقرير المصير، إذ تهدف هذه المحاولات الواسعة والمنظّمة لتشويه صورة مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية والمدافعين عن حقوق الإنسان في فلسطين ونزع الشرعية عنهم وقمعهم وإسكات صوتهم وكذلك تصفية عملهم ومواردهم. كما أن تطبيق القانون الداخلي الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية المحتلة يساهم في ترسيخ نظام الاستعمار الاستيطاني ونظام الفصل العنصري والسيطرة على الشعب الفلسطيني ككل".
ودعت المؤسسة في بيانها "إلى وضع حد لحصانة دولة الاحتلال من المساءلة لارتكابها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية"، معتبرة أنه "ليس من قبيل المصادفة أن التصعيد الإسرائيلي المتضمن اتخاذ إجراءات عقابية ضد مؤسسة الحق وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني مؤخراً قد تزامن مع فتح محكمة الجنايات الدولية تحقيقاً في جرائم الاحتلال الإسرائيلي والوضع السائد في فلسطين"، لتخلص إلى أن جهود المناصرة والدفاع عن حقوق الإنسان سواء في أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو غيرها من أرجاء المعمورة، قد أثبتت "أن الاحتلال الظالم يمكن أن يستخدم شتى الطرق والوسائل لتحقيق أهدافه"، لكنه لن يسكت صوت المدافعين الفلسطينيين عن حقوق الإنسان ولن يردع عملهم، خصوصاً وأنهم على "أتمّ الثقة بتضامن أصدقائهم وشركائهم معهم من جميع أنحاء العالم للوقوف في وجه العقبات المغرضة التي يواجهونها".
من جهتها، أصدرت الحكومة الفلسطينية بياناً صحفياً أكدت فيه "أن هذا التصنيف مس خطير بالقانون الدولي باعتبار أن المؤسسات المستهدفة تعمل وفق القانون الفلسطيني، وأنها ترتبط بشراكات مع مؤسسات دولية ما يستدعي تدخلاً من تلك المؤسسات لإدانة الإجراء الإسرائيلي والعمل على منع تنفيذه". كما أصدرت وزارة الخارجية الفلسطينية بياناً بالمضمون ذاته، أثنت عليه مديرة "مؤسسة الضمير" سحر فرنسيس، موضحةً "أن ما يتوقع من السلطة الوطنية ودورها أكبر من إصدار بيان"، خصوصاً وأن ملاحقة المؤسسات "أصبحت اضطهاداً للمجتمع المدني الفلسطيني، وهذه ليست المرة الأولى التي يعلن فيها الاحتلال عن عدم قانونية أو وصم مؤسسة مدنية فلسطينية تعنى بقضايا حقوق الإنسان أو قضايا مجتمعية أخرى، كمنظمة إرهابية، فهذه سياسة منذ بداية الاحتلال"، راحت تأخذ أبعاداً خطيرة جراء "نجاح هذه المؤسسات والمجتمع المدني في تغيير الحوار والسياق، واستخدام المصطلحات، عبر وصم الاحتلال بالأبرتهايد، والتوجه إلى محكمة الجنايات الدولية، وحملة المقاطعة التي تحقق نجاحات".
ردود الأفعال الدولية
كانت مقررة هيئة الأمم المتحدة المعنية بحالة المدافعين عن حقوق الإنسان، ماري لولور، قد أصدرت بياناً، في 19 آب/أغسطس 2021، استنكرت فيه الاعتقالات التعسفية والمضايقات والتجريم والتهديدات التي يتعرض لها المدافعون عن حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبعد صدور قرار وزير الأمن الإسرائيلي الذي استهدف المنظمات الفلسطينية الست، صدر بيان مشترك عن "منظمة العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش" شجب هذا القرار "المقلق" الذي يمثّل "علامة على تصعيد خطير يهدد بعرقلة عمل أهم منظمات المجتمع المدني في فلسطين". وبعد أن أشار البيان إلى أن السلطات الإسرائيلية "حاولت بشكل منهجي القضاء على مراقبة حقوق الإنسان ومعاقبة أولئك الذين ينتقدون سلطتها القمعية على الفلسطينيين، في حين واجه نشطاءنا ومنظماتنا عمليات الترحيل وحظر السفر"، قدّر أن "فشل المجتمع الدولي الطويل الأمد في التعامل مع الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان من قبل إسرائيل يشجع السلطات الإسرائيلية على التصرف بوقاحة"، مؤكداً أن رد فعل المجتمع الدولي على هذا القرار الإسرائيلي "سيكون اختباراً حقيقياً لرغبته في حماية المدافعين عن حقوق الإنسان".
وعبّر مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية في بيان أصدره عن "قلقه" من القرار الإسرائيلي، ووصف المنظمات المحظورة بأنها "شركاء رئيسيون" في الأراضي الفلسطينية، مشيراً إلى أن قرارات التصنيف التي نشرها "المكتب الوطني لمكافحة تمويل الإرهاب" في دولة الاحتلال الإسرائيلي "تدرج أسباباً شديدة الغموض وغير ذات صلة، بما فيها أنشطة سلمية ومشروعة مثل تقديم المساعدة القانونية والترويج لخطوات ضد إسرائيل على الساحة الدولية، حيث تعتبر هذه التصنيفات أحدث تطور في حملة طويلة ضد هذه المنظمات وغيرها، الأمر الذي يضر بقدرتها على أداء عملها"، ومشدّداً على أن "تشريعات مكافحة الإرهاب يجب أن لا تستخدم لتقييد حقوق الإنسان المشروعة والعمل الإنساني".
الرياء الأميركي
على عكس سلفه دونالد ترامب، كان الوعد بالاستماع إلى أصوات منظمات حقوق الإنسان الدولية أحد الوعود المركزية لحملة جون بايدن الانتخابية، الذي أكد "عودة أميركا" لتكون "زعيماً أخلاقياً ومدافعاً عن حقوق الإنسان في العالم"؛ وعليه، فقد بدا وكأن الهجمة القمعية الإسرائيلية التي طالت منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، والتي رأت فيها منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية غير الحكومية المناهضة للاحتلال هجمة "جديرة بالأنظمة الشمولية"، قد أحرجت الإدراة الأميركية الحالية، ودفعت المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، إلى التنصل من بيان وزير الأمن الإسرائيلي والتصريح أمام الصحافيين بأن إسرائيل "لم تخطر الولايات المتحدة مسبقاً" بنيتها إعلان منظمات غير حكومية فلسطينية "منظمات إرهابية"، وأن إدارته "ستطلب توضيحاً من شركائها الإسرائيليين"، مضيفاً أن "احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية ووجود مجتمع مدني قوي يمثّل أموراً حاسمة".بيد أن مسؤولاً في وزارة الأمن الإسرائيلية رفض الكشف عن اسمه، كشف هذا الرياء الأميركي، وذلك عندما عارض يوم السبت، في 23 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، المزاعم الأمريكية بأن الولايات المتحدة لم يتم إطلاعها على القرار المثير للجدل، وأصر على حقيقة أن واشنطن تم إخطارها بالقرار، وأضاف: "تم إبلاغ مسؤولي الإدارة الأمريكية مسبقاً بهذا البيان [الصادر عن بني غانتس] وتلقوا معلومات عنه".
المراجع:
1- https://www.alhaq.org/ar/advocacy/19009.html
4- https://fr.detv.us/2021/10/23/onu-alarme-israel-classe-six-ong-parmi-les-organisations-terroristes/