لم تأخذ ميسون الادعاء القائل إن السجن يشحذ القريحة الأدبية والفنية، على محمل الجد، فميسون، وهي المسؤولة عن "مكتبة القسم" وصاحبة حسّ الدعابة، تعزو إقبال الأسيرات على مطالعة القصص والروايات إلى حاجتهن إلى الفرار وإلى شحّ الحكايا. فزمن الرواية ومكانها يسمحان للأحداث بأن تنمو وتتطور بوتيرة خلاّقة.
يتبادل السجن والنص دورَيهما، فالنص وثيقة تحنّط السجن، والسجن وثيقة يمزقها النص.
يحظى السجن ببعد إضافي يطغى عليه المعنى، إذ لا وجود لعالم موضوعي تماماً من الرمزيات والمعاني، ذلك بأن التعبيرات التي تختص بثنائية الأسر والحرية ليست حكراً أو ابتكاراً من شخص أو أمّة، وإن منحاها روحها، بل إن هذه التعبيرات تحيل إلى مخيال جماعي، دائم التجدد على أصالته، يرفده على الدوام صور أسيرات وأسرى جدد، أو أعوام جديدة للصور ذاتها، أو قصصهم وقصص عائلاتهم وأصدقائهم. وهذا المخيال هو من البراعة بما يكفي لإصابتنا بالحيرة، أيهما أوجد الآخر: أغنية "يا ظلام السجن"، أم تحدي ظلام السجان، بما يكفي لأن يقنعنا بأن "لا غرفة التوقيف باقية، ولا زرد السلاسل"، وهو من السذاجة الحلوة بما يكفي لأن نضحك ونحن نحترق من وطأة الحر، "إنها شمس الحرية". وعلى رأي خالدة، "غابت الحرية وظلت شمسها." وهو مجرد شعور رومنسي لا تصمد أشرعته الرهيفة أمام جليد الواقع، فها هما أمل وخالدة تشاركان الطيور الحرة طعامها، وتضعان رغيفاً على نافذة زنزانة المحكمة ليكون "زاد عصفور مهاجر"، وبعد ساعات طوال من الانتظار في البرد والجوع، تبحثان عن ذلك الرغيف.
وفي الأسر نستقي من الكثافة اللغوية ذاتها، رسائلنا وقصائدنا، فاللغة حقيبة الأمل، ونافذة الحزن الوحيدة، والكتابة هي مراوحتنا بين الواقع الضيق "من دون الانجرار إليه"، وبين الأفق الرحب من دون الانشداد إليه.
لذا نعيش السجن كنص لأنه يمنحنا حواراً مفتوحاً مع الناس والأشياء الذين من حولنا تارة، والذين يبعدون عنا تارة أُخرى. الكتابة في حضورها وفي غيابها ساحرة، فحين تجيء ترحل بنا على بساط الخيال لنرى ونحكي عن شخوص وأشجار، عن أزمات وعواصم، وحين تعيدنا نكون قد كسرنا اعتيادنا للسجن فنراه على حقيقته قبيحاً مثلما هو على الدوام، وحين تأتي تساعدنا على البوح برواسب اليومي و"الحزن العادي" وتجعلنا أشد نقاوة. وتهبنا الكتابة سلماً نُطلّ فيه من علو نستطيع منه تركيب أحداثنا الصغيرة والعشوائية في "بازل" (puzzle) أكبر وأعمق، فنكسر عزلتنا وتمثلاتها النفسية والاجتماعية والفكرية لنكون، ولو في أذهاننا، فاعلين ومفعولين في خضمّ الأحداث، ونعيش السجن كنص متجاوزين سرده كمعاناة أو بطولة، ومتجاوزين تعريف ذواتنا فقط كـ "أسرى وأسيرات"، ومرتحلين إلى منابع هويتنا وقضاياها.
إن صوغ السجن كنص هو أكثر الأفعال ذاتية، فالبوسطة بالنسبة إلى طالبات الجامعة المفعمات بالحب والحياة هي موعد مرتقب مع البحر تكتبانه شذا وربى كرحلة مليئة بالأغاني الوطنية وبالبحث عن الأزرق. لكن البوسطة لا تحمل المعنى نفسه للأسرى وهي تحملهم "إلى عيادة سجن الرملة."
أمّا "حيطان السجن" التي تعتبرها أسيرة جديدة رمزاً لسلب حريتها، فهي ليست ذاتها لروان التي تحكي عن نقل قسري من سجن إلى آخر وتقول: "أحياناً نعتاد الحيطان"، لأن هذا النقل المتكرر يشبه الاغتراب الدائم، فأقسام السجن البائسة هي حلم لمَن يعيش في زنزانات التحقيق!! تقول ياسمين، مثلما نقل عنها محاميها، إن أسيراً يصف وصوله إلى أقسام الأسرى بعد التحقيق، بأنه كرحلة إلى فندق في أنطاليا.
والسجن ليس ذاته لمَن يملك صكاً بالخروج منه ولو بعد حين، ولمَن لا يملك إلّا إيمانه، والنص هو ضرورته التوثيقية، أي تحنيط المشهد الذي تتمنى فناءه، بينما "موت ضرورته" اكتشاف جمال عادي في هذا القبح الاستثنائي، وحضور البؤس المحاصر بعادية اليومي.
في 4 / 4 / 2021، سرب طيور يعبر سماء السجن كاسراً رتابة الظلال، فتسجل نورهان الزيارة في دفترها الذي خصصته للأحداث النادرة لتفاجأ بأنه في التاريخ نفسه من العام المنصرم مرت الطيور؛ نورهان لا تملك خريطة لمسار الطيور، ولا تستطيع مراقبتها أبعد ممّا ترصده عيناها في حال وقفت على رؤوس أصابعها واشرأبت برأسها إلى الأعلى، لكن نورهان توثق هجرة الطيور عاماً تلو عام. إنها البقعة نفسها، فمَن يوثّق تعاسة هذا العالم؟
وخارج النص جدال بين الأنسنة والبطولة. فأنسنة الأسرى لأنفسهم تُطرح كنهج يمكّنهم من سبر أغوار ذواتهم، والتعبير عن مكنوناتهم، وكطريقة تجعل الأسير / ة قابلاً للسير كما التعرقل، وللخطابة كما التلعثم، أو تحوّله من أسير إلى جار وصديق يعرفه الآخرون ويحبونه، ويتركون فيه انعكاساتهم، كما يترك لهم رسالته. والأنسنة مهمة أمام جلافة الشعارات، لكن هل تتحقق "الأنسنة" عبر النص؟
عندما تغيب الظروف الإنسانية التي تمنح الإنسان إنسانيته تأتي الحاجة إلى استدراج البطولة، وعندما يتم ابتذال البطولة بإسقاط قضاياها وملاحقتها باعتبارها تحريضاً، تأتي الحاجة أيضاً إلى استدراج البطولة، لكن من دون تواضع. والبطولة التي نحكيها هي أعلى مفردات النفسية وأحد تجلياتها غير المقصودة، فالبطولة، بكونها استرداداً للإنسانية، هي التي تجعل التحقيق والبوسطة والقمع والعزل مواجهة، وهي مشروعك الوحيد أمام تحويلك إلى شيء يجرجرونه كحقيبة ويكبلونه كوحش؛ هو قرارك الصلب أمام جميع قراراتهم، والمتمثل في: أين نجلس، ومتى نقف، ومتى يُسمح لك بالخروج من زنزانتك خمس ساعات لا غير. أمّا قراراتهم بساعات استحمامك، والقنوات العشر التي يتاح لك مشاهدتها، والكتب التي يمكنك قراءتها، وعدد الدقائق التي تشاهد فيها أمك، فهي رفضك بين "عدد" و"عدد" أن تكون عدداً، وهي الإجابة الوحيدة لأسئلة مثل: ما الذي يبرر للأسير بقاءه أعواماً تلو أعوام هنا، وما الذي يدفعه إلى الاستيقاظ في المكان ذاته مع الأشياء ذاتها والأشخاص ذاتهم، مع أن لديه برنامجاً مختلفاً لكل يوم؟ تهمس أمل لنفسها ونسمعها لضيق المكان: "اللي خلانا نصبر إنو فش غير نصبر"، وعلى الرغم من إقرارها المتواضع، فإنها تحوّر الوجود كل صباح إلى شيء ذي اسم ما. البطولة هي الجسر الذي يربط بين المطالب المعيشية للأسيرات: من تلفونات عمومية وإزالة الكاميرات ومعالجة الرطوبة، وبين رفض السجن بالمطلق، وهي التي تجسر بين حلم الأسير باسترداد الأرض وعجزه عن امتلاك الزنزانة التي يعيش فيها، أو حتى تغيير لون طلائها، ومن باب الدعابة الصيفية، هي التي تجسر بين رغبتك في تذوق البطيخ وتذوق الحرية.
والبطولة أمام الابتذال هي الحاجة إلى خلق نقيض لواقع اليوم، وخلق نماذج بديلة، ومخيلة تتجاوز الملموس، وهي الحاجة إلى لاصق يربط هذا الشتات الجغرافي والفكري والاجتماعي.. ويربط الإرث بالمستقبل.
يخشى الطاهر وطار عودة الشهداء خجلاً منهم، ويخشى الذين نعرفهم من صورهم، من الشهداء والأسرى، حين ينظرون بقلق إلى دموع الأمهات المرفقة بقائمة المحظورات التي تذيلها التوقيعات من دون خجل، "لأن اللي استحى مات من قلة المساعدات."
نص السجن
للسجن نصه ومغناته التي يمليها علينا كلما سنحت له فرصة، ونصه العنيد هو حضوره الطاغي، وهو غبي لصراحته الفجة، وذكي لأنه يقفز رويداً رويداً.
تنزلق مساحة السجن لتكون مساحة الفكر، فالسجن مرتع التفاصيل الصغيرة، ولو تُرك أشد الكتّاب أو الفنانين خيالاً أمام لوحة واحدة، لانشغل بتفصيلاتها، ولما استطاع أن ينتج سواها.
والسجن كذلك يفرض الوقت الذي يتعين عليك فيه البقاء جالساً في غرفتك، وهو وقت يساوي ساعات استيقاظك التعس، وحظك في المواصلات وساعات العمل والتعلم، ورفقة العائلة والأصدقاء، ومشكلات الحي والحياة. ولذا، فإن المطلوب من التفصيلات والأحداث هنا أن تُضخّم كي تغطي أكبر قدر من الزمن، وتنافس مجريات العالم الحقيقي.
كما يفرض السجن نفسه كحقيقة نرفضها في المجمل، لكن نعتاد على ملامحها ونألف سماعها، فمع الوقت تصبح الزنزانة "غرفتك" التي توليها اهتمامك ورعايتك. فالأسيرات جميعاً مثلاً، يصفن اشتياقهن إلى القسم كلما ارتحلن خارجه إلى المحكمة أو المستشفى، ويعتبرنه محطتهن الأخيرة، وتخيّلهن عن الراحة، فيستبدلن كلمة "ترويحة" للدلالة على رجوعهن إلى القسم لا إلى البيت.
ونحن نعيش السجن لأننا حوّرناه واخترقنا معانيه رفضاً "لأن يكون تابوتاً"، فنتأنق كل صباح، كأن الفورة رحلة، ونعتبر الجلوس على المصاطب الحجرية جلوساً على "بلكونة"، نُعدّ له الشاي والبذور، ونحول قارورات المياه إلى أثقال "للجيم" الذي افتتحناه، ونجعل من إحدى الغرف مسرحاً نحيي فيه أمسياتنا الجماعية، ومن بعض الكتب مكتبة.
السجن يريد عزلك عن شعبك وبلدك، كما يريد إبعادك عن حلمك بأن تعتبر "السجن" مآل الحالمين، ويريد عزلك عن سائر الأسرى والأسيرات وعن إرثهم بادعاء أن سحب أي امتياز "بين قوسين" هو نتاج استعمال الأسرى لأغراض أُخرى، لكنك تقف بكل امتنان مدركاً أنه لولا أعوام من النضال والتضحية لما كانت حياة السجن ممكنة لك.
نص عن الفقد
في اللحظة التي تُعتقل فيها تفقد تسلسل حياتك المفروض: نقاش لم تستكمله؛ كتاب تقرأه؛ صديق واعدته على كأس شاي في الغد؛ صلتك بأهلك ومشاريعك الصغيرة والكبيرة؛ وليس أمامك سوى التذكر كفعل مضاد للفقد. يقول الغريب، في رواية ألبير كامو: "بوسع إنسان لم يعش إلّا يوماً واحداً أن يقضي بلا مشقة مئة عام في السجن، إذ ستكون أمامه ذكريات كافية تُبعد عنه السأم."
ففي السجن نستطيع استحضار أي مشهد وتفكيكه، وستعجب من قدرتك على تذكّر أمور لم تكن تسترعي انتباهك، لكن بعد فترة تفقد قدرتك على التذكر والتناسي، وهي تقنية تظن في البداية أنك قادر على تشغيلها وإيقافها كيفما شئت، لكنها تباغتك مبعِثرة ملامح بيتك ووالديك. تحكي شروق ونورهان عن تحايلهما على الأحلام بمشاهدة صور عائلاتهن قبل التوجه إلى النوم وذلك لاستدخال الصور إلى المنام. أمّا التقنية الأُخرى لمهاجمة الفقد فتكمن في تحجيمه زمنياً، والنظر إليه كذكرى - بكرا كلشي بصير ذكرى - فتخوض السجن كحوار وقصص وحكايا تحكيها لمَن تحب وتفتقد.
والفقدان ليس محصوراً بفقداننا مَن نحب، بل إننا نفقد تحكّمنا الجزئي في حيواتنا. ففي السجن تفتقد قدرتك على الغضب، ذلك الغضب الذي لا يستدعيه إلّا إيمانك بعدم قدرة أي شيء آنيّ على تغيير مسار الأشياء. تفقد قدرتك على الوصول السريع إلى المعلومات (غوغل)، فالتأكد من معلومة بسيطة يحدث بشق الأنفس. فمن جهة تشعر بجديّة المعرفة وصعوبتها كما التغيير، وهي جدية أكبر بمئات المرات من جديتك في مواقفك وهبّاتك، ومن جهة أُخرى تشعر باغتراب الكون كله حين "تعنّ" على بالك أغنية ولا تستطيع تشغيلها. أنت لا تفتقد تحكمك في حياتك فقط، بل تفتقد حتى ردّات فعلك وانفعالاتك على هذه الحياة، فيصعب بكاؤك أو انزواؤك في هذه المساحة.
الفقد في السجن لا ينتهي، فأنت تفقد أهلك كلما انتهيت من كتابة رسالة إليهم، بل إنك ستستمر في تحويل كل شيء حولك إلى حوار معهم أو رسالة إليهم.
تفقد كلما وضعت السماعة في قاعة الزيارة بعد أن قلتَ أنت، أو قال أهلك أكثر الجمل سذاجة: "ما تروحوا، أو ما تروحي"، ونفقد كلما أُفرج عن أسيرة أحببناها، وحين نخرج من آخر باب في السجن. تفقد صديقات يستحيل أن تراهن أو تسمع أصواتهن لأعوام، ويستحيل أن ترى صوراً لهن وهن يكبرن داخل الأسوار، ويستحيل أن تبتدع لغة تحفظ الصداقة والصورة من آفة المسافات، ويستحيل أن تفهم غرابة ما يحدث، كأن تسأل إحداهن اليوم: "تشربي شاي؟" وغداً لن تراها لعشرة أعوام مقبلة.
الفقد هو خوفنا الدائم من موت أحبتنا ونحن في الأسر، ولذا فإن تحليلنا الدائم هو لإيقاع أصوات الأحبة عبر الإذاعة وكلماتهم التي نَعدّها ألغازاً. والفقد الحقيقي هو أعز أحبائك: أمك؛ أبيك؛ أختك؛ أخيك؛ ابنك؛ ابنتك الشابة التي ستفجع الدنيا والوطن برحيلها المفاجئ.. "وستودعها بوردة".
وبينما تعيش فقد العالم، يعيش الآخرون غيابك، فتشعر بأمك تقبّل صورتك، وبأبيك يتأكد من مقعدك وهو يُعدّ المائدة، فتحمّل نفسك مسؤولية الغياب في الوقت الذي يحمّلون هم غيابك أكثر ممّا يحتمل. وأنت كذلك تغالي وتختلط الأمور عليك، فاللحظات يجب عدم تعميمها أو إسقاطها على التجربة ككل، فأنت لا تدري هل أنت الذي غبت عن مجريات العالم؟ أم إن العالم هو الذي اختفى لأنك ما عدت تراه؟ وفي هذا كله، لا تعرف أهو من باب الهذيان أم الغرور، ذلك بأن الفترات الزمنية تقف عند تاريخ اعتقالك، فتشعر بقصر الأحداث أو طولها استناداً إلى ذلك، كما تحسب أعمار الآخرين هكذا.
أسيرات كثيرات كن يصدمن عندما يشاهدن سحنات إخوتهن وأبنائهن، لأنهم "كبروا لهذه الدرجة".
أنت مفقود من أشد لحظات العائلة حميمية، فالأسيرات لا يميزن مَن هم هؤلاء الأطفال الموجودون في الصور العائلية. وأنت مفقود من اللحظات العامة التي ترقبها بحرارة، عدا الحرب التي ستبقى تشعر بأنك ضعيف وعاجز أمامها، فوجودك في الأسر، وكونك "تدفع حريتك ثمناً"، لن يخففا على الإطلاق من شعورك بقلة حيلتك، كحالة نسرين التي يعيش أبناؤها تحت القصف، بينما هي ترقب الحرب خوفاً من غارة محتملة تغيّر هذه الحياة غير المحتملة.
لست غائباً عن نسيج العائلة والبلد فقط، بل إن السجن ككل منتزع ومنفي عن نسيج الكوكب وامتداده البيني والجغرافي أيضاً. فأكبر الأكاذيب هو امتلاك السجن عنواناً، فنحن في حيفا لكننا لا نراها، ونحن على هذه اليابسة التي تنمو فيها أشجار وزهور ولا نلحظها، وتعيش فيها حيوانات لا نبصرها. وكانت تزورنا قطة بين فينة وأُخرى، حبها في نفوسنا جدلي ومختلَف عليه على الرغم من جهد ياسمين المستميت في جعلها محبوبة، إلّا إننا كنا سعداء بأن كائناً يخترق الجدران لنراه ويرانا، لكن القطة المسكينة كشفت عن غير وعي ثغرات السياج فجرى "إصلاحها" وما عادت تزورنا. ومع ذلك ستظل آخر إثباتاتنا أننا على الكوكب نفسه، وإن كانت تُطل علينا أحياناً من فوق السياج من دون عبوره.
ما يردم هوة الفقد هو الرسائل التي نكتبها والتي علينا مراعاة كيف تُفهم، ففرحنا بصغائر الأمور ونوادرها لا يُكتب، لأنه يكشف شحّ حياتك، وطبعاً هناك صوت الأهل في الإذاعة: "لا شيء ينقصنا إلّا أنت"، فهذه إجابة استثنائية لسؤال كيفكم؟ والذي يكون دوماً: "إحنا مناح ما زال إنتم مناح"، فهو العزاء بأن "السجن ما بسكر على حدا". وما يحارب الفقد أيضاً، هو قول والد نورهان لها، بأنه استلم ورقة الحكم وتاريخ الإفراج عنها الذي سيكون بعد أعوام من لقائهما ذاك، ليحكي لها في صدق وتفانٍ غير مفهومين أن هناك أسرى تسلموا أوراقاً خانة تاريخ الافراج فيها لا تضم إلّا أصفاراً: 0-0-0000.
أسوأ ما في الفقد وما لا تستطيع اللغة محوه، هو أن تختفي مادة الحديث، وأن تتضاءل قدرتنا على مواكبة المجريات في الخارج وسرد ما يحدث هنا على قلّته، وألّا تعرف متى سينتهي هذا الفقد، بل أن تصل إلى مرحلة تخاف فيها من انتهائه ومن مواجهة الحياة التي نسيناها ونسيتنا كأننا لم نكن "لا أنت أنت ولا الديار ديار".
نص أخير عن الفقدان
أنا الآن في السجن.
نورهان تضع كرسياً في منتصف الغرفة لتمشّط شعر ياسمين التي تصف لنورهان، وبشغف، التغيرات في القدس؛ عائشة وإسراء تجلسان على عتبة الغرفة تحيّيان مَن في الساحة وتشربان القهوة؛ ملك تدور بفستانها الجديد بعد عودتها من زيارة أمها؛ ملك التي لم تلفح وجهها رياح الحياة، بقي وجهها على طفولته؛ روان تصف أي شيء أمامها فيتحول إلى شعر من دون أن تدري؛ أنهار تعدو الساحة جيئة وإياباً واضعة يدها على بطنها ووليدها المنتظر؛ شروق تحتفل بعيدها الرابع والعشرين بكتابة رسالة إلى أمها؛ ختام تعلّم الصبايا رتق ملابسهن وهي تصغي إلى همومهن.
الآن، أودع السجن والنص؛ السجن الذي امتلك بالنسبة إليّ ملامح وسمات، وارتبط بشخوص وسرديات. ليس المحزن أنني أغادره، بل التعاسة هي بقاؤهن هنا، بغضّ النظر إن عرفتهن أو لا. التعاسة هي بقاء السجن حتى إن غادرنه جميعاً.
كما أودع هذا النص الذي ظل وفياً على الرغم من عجزه.
أوائل آب / أغسطس 2021.