الثابت والمتحول في السياسة الاعتقالية الإسرائيلية
النص الكامل: 

لا تزال قضية الأسرى في سجون الاحتلال، تشكل واحدة من أبرز القضايا الكاشفة عن بنية العنف الاستعمارية، بما فيها التفصيلات الكثيفة، ومسارات التحولات التاريخية على صعيد القضية الفلسطينية، والتي ساهمت فعلياً لا في قراءة هذه البنية فحسب، بل في تعريتها أيضاً، وذلك فضلاً عن التحديات التي يواجهها المختصون في متابعة قضايا الأسرى. فمحاولة تفكيك السياسات الممنهجة التي تنفذها أجهزة الاحتلال بمستوياتها المتنوعة، في حقّ الأسرى، تتطلب كثيراً من التمعن والمتابعة، وخصوصاً في ظل منظومة السيطرة والمراقبة القائمة على الأسرى، إذ لم يعد الخطاب الراهن المتصل بـ "حقوق الإنسان" كافياً لتوصيف هذه السياسات، أو ما يطلَق عليه "الانتهاكات الممنهجة". ولعل هذا يفرض تساؤلات يومية بشأن العجز عن السيطرة على معطيات العنف القائم في سجون الاحتلال، كيف لا، ورواية كل أسير هي مسار لقراءة كثافة العنف الممتد من خارج السجن، ولا سيما في ظل أدوات السيطرة والرقابة الحديثة الراهنة.

ولذلك فإن المؤسسات المختصة بشؤون الأسرى تعتمد على المعطيات الرقمية بشكل أساسي في قراءة عمليات سياسات الاحتلال الممنهجة، أو على بعض التصنيفات التي فرضها واقع الحياة والتجربة الاعتقالية، واللذين يرتبطان بصورة رئيسية، بشكل العنف الاستعماري. وضمن هذا الإطار، سأتناول في هذا التحقيق النقدي جملة من المعطيات الرقمية بشأن الأسرى في سجون الاحتلال.

2021: بانوراما رقمية

بلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حتى نهاية حزيران / يونيو 2021، نحو 4850 أسير/ة، بينهم 43 أسيرة، ونحو 225 طفلاً تقلّ أعمارهم عن 18 عاماً. أمّا الأسرى الذين تجاوزت أعوام اعتقالهم أكثر من 20 عاماً بصورة متواصلة، فبلغ عددهم 82 أسيراً، وذلك حتى نهاية حزيران / يونيو 2021، بينهم 25 أسيراً ممّن تطلق عليهم المؤسسات اسم الأسرى القدامى، وهم من الذين اعتُقلوا قبل توقيع اتفاق أوسلو، وأقدمهم الأسيران: كريم يونس، وماهر يونس، المعتقلان منذ سنة 1938.[1]

ومنذ سنة 2014، ومع إعادة الاحتلال اعتقال نحو 70 أسيراً من محرري صفقة وفاء الأحرار/ "شاليط"، والتي تمت في سنة 2011، فإن 49 أسيراً منهم ما زالوا حتى اليوم رهن الاعتقال، ليتسع معهم مصطلح الأسرى القدامى، على الرغم من الحرية الموقتة التي عاشوها، والمتمثلة في 33 شهراً. كيف لا، والأغلبية العظمى منهم هي من الأسرى القدامى، وأقدمهم الأسير نائل البرغوثي الذي أمضى ما مجموعه نحو 41 عاماً في سجون الاحتلال.[2]

وفي هذه السنة (2021)، وصل عدد الأسرى الذين أصدر الاحتلال في حقّهم حكماً بالسجن المؤبد، إلى 544 أسيراً، ليكون أعلى هذه الأحكام هو الحكم الصادر في حقّ الأسير عبد الله البرغوثي، ومدته 67 مؤبداً، مع تأكيد أن الأسير الفلسطيني عادة ما يُحكم بعدد من المؤبدات، وبالتالي، يكون الحكم الحقيقي هو مدى الحياة، وربما يتجاوز الحياة إلى الموت في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي في احتجاز جثامين الشهداء من الأسرى حتى بعد استشهادهم، الأمر الذي ما زال سارياً مع احتجاز جثامين سبعة شهداء ارتقوا في سجون الاحتلال، هم: أنيس دولة المحتجز جثمانه منذ سنة 1980؛ عزيز عويسات منذ سنة 2018؛ فارس بارود، ونصار طقاطقة، وبسام السايح منذ سنة 2019؛ سعدي الغرابلي وكمال أبو وعر منذ سنة 2020. ولا يشكل هؤلاء سوى جزء من 226 أسيراً استشهدوا في سجون الاحتلال، منذ سنة 1967، فضلاً عن العشرات من المحررين الذين ارتقوا بعد فترات وجيزة من الإفراج عنهم جرّاء أمراض ورثوها خلال أعوام اعتقالهم.[3]

وهكذا، فإن المعطيات الرقمية في قضية الأسرى لا تصل إلى خواتيمها في واقع الأمر، وخصوصاً أن السياسات التي انتهجها الاحتلال بصفتها جزءاً من بنية العنف القائمة في السجون، فرضت على المختصين في قضية الأسرى اللجوء إلى تصنيفات أُخرى وفق هذه السياسات. فعلى سبيل المثال، عندما نتحدث عن سياسة الإهمال الطبي المتعمد (القتل البطيء)، فإننا نجد أن أحد أهم المعطيات الرقمية هو عدد الأسرى المرضى، والبالغ نحو 550 أسيراً، وعندما نشير إلى سياسة الاعتقال الإداري، نجد أن المعطى الرقمي هو أهم ما يمكن الاعتماد عليه لتبيان التصعيد في هذه السياسة، إذ يبلغ عددهم نحو 540 أسيراً.[4]

إن هذا الملخص المثقل بالأرقام والمعطيات يعكس، في واقع الأمر، كثافة العنف الموجودة في بنية السجن، غير أنه يبقى عاجزاً عن التوصيف، إذ لو تعمقنا أكثر في كل معطى، فإننا سنخرج بكثير من التفصيلات الهائلة. فالعنف، هنا، هو أشبه ما يكون بخلايا تتجدد وتبدأ من أصغر تفصيل في السجن إلى أكبر شكل من أشكاله، ويجعلنا، نحن المتابعين لقضية الأسرى، نواجه قصوراً في السيطرة والمتابعة لجميع ما يمر به الأسرى. كما أن حجم التحولات الكبيرة والمتتالية في قضية الأسرى، وخصوصاً في الأعوام القليلة الماضية، أدخل المؤسسات المختصة، الرسمية منها والأهلية، في تحديات كبيرة، عندما تعمل على توصيف هذا العنف ضمن الإطار المحدد (خطاب حقوق الإنسان)، وهو ما أشار إليه وطرحه المفكر وليد دقة،[5] في كتابه "صهر الوعي، أو إعادة تعريف التعذيب"، إذ يُشكل نقده مدخلاً مهماً لفهم بنية السجون الإسرائيلية الحديثة.

يتناول هذا التقرير، وبصورة مقتضبة، بعض المعطيات الخاصة بواقع الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، إذ لا يمكن التطرق إلى جميع ما يتصل بهذا "الواقع" لكثافة مساراته: بين واقع يرتبط بسياسات عنف الاحتلال، وواقع هذه التجربة على الصعيد الفلسطيني، مع التشديد على أنهما مرتبطان ارتباطاً كلياً. وسأركز، هنا، على المواجهة الأخيرة الممتدة من باب العمود حتى عكا في شمال فلسطين والنقب في جنوبها، كونها عكست كثيراً من الوقائع الخاصة عبر الاعتقالات الممنهجة، ومحاولات الاحتلال وأد هذه المواجهة، علاوة على التحديات وجملة التساؤلات التي واجهتها المؤسسات المختصة، وتحديداً فيما يتعلق بالخطاب بشأن عمليات الاعتقال في أراضي 48، ذلك بأن عمليات الاعتقال الممنهجة والمنظمة تشكل أبرز أدوات العنف المركزية التي يستند إليها الاحتلال الإسرائيلي في ممارساته في حقّ الفلسطينيين. كيف لا، والمؤسسات المختصة بشؤون الأسرى تقدّر أن أكثر من مليون فلسطيني خاضوا تجربة الاعتقال منذ بداية الاحتلال في سنة 1948.

كيف نقرأ الأرقام سياسياً؟

لقد بات معلوماً للجميع أن قوات الاحتلال الصهيوني تكثّف عمليات الاعتقال مع تصاعد أي مواجهة يفرضها الفلسطيني، وتتخذ في كل مرة مسارين: الأول ثابت ويتمثل في جملة أدوات العنف المستخدمة في حقّ الأسرى والمعتقلين وعائلاتهم، بينما الثاني متحول ويمكن قراءته من خلال السياق الحالي المرتبط بعمليات الاعتقال، ورواية الأسرى عن رحلة اعتقالهم، والتي تُشكّل عموداً في بناء هذا المسار ومحاولة فهمه. وسنتناول هنا، المواجهة الأخيرة التي بدأت في نيسان / أبريل 2021، وما عكسته من تفصيلات راهنة مهمة، لها أبعادها على سياق واقع المعتقلين، من جهة، ومواجهة عمليات الاعتقال الممنهجة ومقاومتها، من جهة أُخرى.

في النصف الأول من هذه السنة (2021)، بلغت حالات الاعتقال أكثر من 5400 حالة، بينها 107 حالات من النساء، و845 حالة كانت من نصيب الأطفال. وتصدّر أيار / مايو 2021، النسبة الأعلى من حيث حالات الاعتقال التي بلغت 3100 حالة، بينها 42 حالة من النساء، و471 حالة من الأطفال والفتية، وهذه النسبة ارتبطت فعلياً، بواقع المواجهة التي بدأت في 13 نيسان / أبريل 2021 في ساحة باب العمود، وحي الشيخ جرّاح في القدس، وانتقلت لتشمل فلسطين كلها، بما فيها أراضي 48 التي حملت تفصيلات ذات أبعاد وآثار مهمة تتعلق بمستوى العنف الجاري فيها. كيف لا، وقد سُجلت 2000 حالة اعتقال في أراضي 48، ما بين 9 أيار / مايو و31 أيار / مايو. أمّا فيما يتعلق بالقدس، فسُجلت منذ نيسان / أبريل حتى أيار / مايو، 845 حالة اعتقال، انتهت أغلبيتها العظمى بإفراج مشروط، أو غرامات مالية، أو كفالات، أو حبس منزلي، أو إبعاد عن محيط المسجد الأقصى وباب العمود أو بعض مناطق المواجهة.[6]

واللافت للانتباه، أن الاحتلال في هذه المواجهة، كان يصدر تقارير للرأي العام بشأن حجم الاعتقالات في أراضي 48، محاولاً بجهد كبير منذ تاريخ 9 أيار / مايو، أن يشمل القدس معها، مع أن المواجهة فيها بدأت في نيسان / أبريل، الأمر الذي يجعلنا ندرك تماماً الغايات التي كانت تحملها هذه التقارير، والتي باتت تمثل جزءاً من التحدي الذي واجهته المؤسسات الحقوقية المختصة في جميع أنحاء فلسطين، والتي اضطرّ بعضها إلى التعامل فعلياً مع هذا التحدي لأسباب تتصل بصعوبة السيطرة على مجريات عمليات الاعتقال كلها، وخصوصاً في أيار / مايو.

لقد وظّفت قوات الاحتلال العنف الجسدي بمختلف أنواعه، وكان مستواه عالياً، إذ سُجلت، وبدرجات متفاوتة، مئات الإصابات بين صفوف المعتقلين، في ظل استخدام جميع أنواع الأسلحة، بما فيها الرصاص الحي. وبحسب عشرات الشهادات التي تمكنت المؤسسات من رصدها ومتابعتها، يمكن القول إن هذا العنف المنظم الذي اتبعته قوات الاحتلال، لم يكن جديداً من حيث الأدوات والأسلحة، إلّا إن هذه الشهادات يمكن قراءتها من زاوية "الاستعادة" للعنف والتنكيل، وخصوصاً التعذيب الجسدي الذي ارتبط فعلياً بمحطات مواجهة عالية تاريخياً، لتصبح بذلك رواية المعتقلين عن التعذيب "استعادة" لرواية التجربة الاعتقالية في أواخر ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، فضلاً عن العنف الذي برز في محطات ذروة المواجهة العالية، كما في انتفاضة سنة 1987، وانتفاضة الأقصى في سنة 2000، والهبّة الشعبية في سنة 2015. وهنا، سأكتفي بعقد مقارنة بين معطيات هذه المواجهة والهبّة الشعبية في سنة 2015، كونها الأقرب من حيث المشتركات، مع تأكيد أن تفصيلات المواجهة الراهنة، بما فيها من معطيات، إنما تشكل امتداداً واضحاً للهبّة الشعبية في سنة 2015، على الرغم من حالة الصعود والهبوط في مستوى المواجهة، وما رافقه من صعود وهبوط في مستوى عمليات الاعتقال التي نفذتها قوات الاحتلال.

وممّا تجدر الإشارة إليه، أنه مع اندلاع الهبّة الشعبية في تشرين الأول / أكتوبر 2015، تصاعدت عمليات الاعتقال بشكل ملحوظ مقارنة بالأعوام القليلة التي سبقتها، فقد بلغ عدد حالات الاعتقال خلال سنة 2015، أكثر من 6800 حالة، بينها نحو 2000 حالة من الأطفال، و200 حالة من النساء، كما تكثّفت الاعتقالات في الأشهر الثلاثة الأخيرة من سنة 2015، مع انطلاق ما عُرف آنذاك بـ "الهبّة الشعبية" أو "انتفاضة السكاكين"، إذ بلغ عدد المعتقلين في تلك الفترة نحو 3000. واللافت للانتباه، أن القدس تصدرت النسبة الأعلى من عمليات الاعتقال، مثلما تصدرت أعلى نسبة مع بداية المواجهة الراهنة. وهكذا، فإن القدس شكلت فعلياً في كلتا المواجهتين المحطة الأبرز، الأمر الذي يفرض تساؤلات عديدة مرتبطة بالواقع المركب الجاري في القدس، وبالمواجهة اليومية الكثيفة، بما فيها عمليات اعتقال لا تتوقف، فرضت أدوات جديدة في مواجهة عمليات الاعتقال، واعتبارها جزءاً من "الحياة" اليومية. كيف لا، ونحن نجد بعض فتية القدس وقد اعتُقلوا 40 مرة بشكل متكرر، بحيث بدأت مواجهتهم لهذا الاعتقال منذ طفولتهم، وها هم اليوم مستمرون، ويعيشون في مواجهة دائمة لعمليات الاعتقال، حتى بعد تجاوزهم مرحلة الطفولة. وفضلاً عن ذلك، فإن بعض أسماء المعتقلين التي تتابعها المؤسسات المختصة، يوثق أسماء لمعتقلين يواجهون الاعتقال المتكرر شهرياً، إن لم يكن أسبوعياً، وهو ما يجعل الفتية والشبان المقدسيين يقضون أوقاتهم ما بين اعتقال، وحبس منزلي، واستدعاءات.

ولعل جزءاً من التحولات ساهم في تغيير أدوات المواجهة الراهنة لعمليات الاعتقال، فالمقدسي هو "المبتكر" في الوقت الراهن، الأمر الذي يفرض تساؤلات بحاجة إلى قراءة متعمقة عن أدوات المواجهة وتحولاتها، ما بين "انتفاضة السكاكين"،[7] والمواجهة الراهنة، وخصوصاً في ظلّ ما ابتكره المقدسي، وعكسته المشاهد الحاضرة يومياً من ميدان المواجهة في باب العمود وحي الشيخ جرّاح، وبلدات القدس كافة. ومن جهة أُخرى، فإنه لا يمكن تجاوز التصنيفات التي يفرضها الاحتلال عبر جملة القوانين، أو المرور عنها، لا فرق في ذلك بين "القانون المدني الإسرائيلي" المفروض على الفلسطينيين في أراضي 48 والقدس، و"القانون العسكري" المفروض على الفلسطينيين في مناطق 67، والذي يحاكَم بموجبه أيضاً أسرى قطاع غزة. ولعل القدس كانت دوماً، ولا تزال، تمثل النقطة الكاشفة بصورة صارخة لتجليات هذا النوع من التصنيف بما شهدته من اعتقالات كثيرة، فكلما تصاعدت المواجهة، تعرضت تلك التصنيفات للتعرية أكثر، كاشفة، عند التوصيف "القانوني" لأي قضية أسير، كثيراً من التصدعات الواسعة في الخطاب القائم فلسطينياً.

استعادة في مواجهة "استعادة"

شكّلت استعادة المواجهة في أراضي 48 تحولاً كبيراً على صعيد التجربة الاعتقالية وواقعها، إذ بلغ عدد حالات الاعتقال نحو 2000 حالة[8] انتهت جلّها بإفراج مشروط عن المعتقلين. ورافق هذه العمليات مستوى عالٍ من الروايات عن عمليات التعذيب والترهيب التي نفذتها أجهزة الاحتلال من خلال عمليات منظمة، وبذلك، لم يقتصر التحول في هذه الاستعادة على إسقاط سياسات التصنيف التي فرضها الاحتلال على الجغرافيا والإنسان الفلسطيني، بل أحدث اختراقاً كبيراً في خطاب المؤسسات المختصة بشؤون الأسرى. ومع أن الاحتلال حاول تصوير ما يجري على أنه "شأن داخلي إسرائيلي"، إلّا إن المشهد الفلسطيني، وخصوصاً في ظل روايات المعتقلين، تجاوز رواية المحتل، الأمر الذي وضع المؤسسات المتابعة أمام تحدٍّ كبير في تبنّي خطاب الكل الفلسطيني، بما فيه أراضي 48، وفي كسر التصنيف التاريخي الذي فرضه الاستعمار. وعلى الرغم من محاولة إدارة سجون الاحتلال فرض هذا التصنيف، عبر إلباس المعتقلين لباساً معيناً، على سبيل المثال، أو احتجازهم في سجون معينة، فإن هذا السلوك لم يكن كافياً في مواجهة هذه الاستعادة. ولعل إضراب 18 أيار / مايو في جميع أنحاء فلسطين، خير دليل على ذلك، فقد كان يوماً تاريخياً جسّد معنى هذه "الاستعادة" وجوهرها.

هنا، يمكن تأكيد أن هذه "الاستعادة" تجاوزت أيضاً خطاب المؤسسات المختصة التي اضطرت، بصورة أو بأُخرى، إلى الانخراط في خطاب المواجهة الراهنة، وإلى تبنّي خطاب الكل الفلسطيني، ليتحول ذلك إلى نقاش حقيقي بشأن هذا التبنّي وتبعاته. وكان لهذا التبنّي، وفقاً للبعض، تبعات خطية، وخصوصاً أن الاعتراف بأسير في سجون الاحتلال يترتب عليه اعتراف ببعض الحقوق، كالاستحقاقات المالية مثلاً. ومع أن هذا النقاش أخذ حيزاً محدوداً، إلّا إنه فتح المجال أمام كثير من التساؤلات عن إشكاليات المنظومة القائمة، وخصوصاً في ظل التحولات الهائلة التي شهدتها قضية الأسرى في الأعوام القليلة الماضية، ومؤخراً فيما يتعلق بخضوع تلك المنظومة لخيارات الخروج من "مأزق" مخصصات عائلات الأسرى والشهداء.

هذا، وتستمر أشكال الاستعادة بالتدفق، ومن أبرزها الإضرابات الفردية التي تصاعدت مؤخراً، وخصوصاً في مواجهة سياسة الاعتقال الإداري. فمنذ بداية المواجهة الراهنة، بلغ عدد أوامر الاعتقال الإداري نحو 300 أمر، وهو جزء يسير من 680 أمر اعتقال إداري، أصدرتها استخبارات الاحتلال في النصف الأول من السنة الحالية (2021)،[9] وطالت أسرى سابقين من أراضي 48، وهذا أمر لم يحدث منذ أعوام. والأمر نفسه يمكن أن يقال عن القدس، إذ وصل عدد الأسرى الذين أصدر الاحتلال في حقّهم أوامر إدارية 17 مقدسياً.

أمّا اليوم، فنشهد نقاشاً جدياً في استعادة إضراب جماعي للأسرى الإداريين، على غرار إضراب سنة 2014، والذي استمر 62 يوماً. ولعل هذا يعيدنا إلى أهمية المحاولة والاستمرارية[10] اللتين تبرزان عبر استعادة المواجهة وأثرها في مسارات متعددة، ومنها استعادة تجربة الإضراب عن الطعام، بصفتها أحد أهم أنواع المواجهة التي فرضها الأسير الفلسطيني تاريخياً، والتي لا تزال قائمة حتى الآن، فها هم 11 أسيراً ما زالوا منذ تموز / يوليو – آب / أغسطس 2021، يواصلون إضرابهم عن الطعام رفضاً لسياسة الاعتقال الإداري.

ولعل الأمر اللافت للانتباه، أنه في مقابل استعادة المواجهة، فإن العشرات من شهادات المعتقلين في المواجهة الراهنة – والتي تمكنت المؤسسات عبر المتابعة القانونية من الحصول عليها، ونشر جزء منها - احتوت على عنف جسدي عالٍ فيه "استعادة" واضحة لشهادات الأسرى ورواياتهم في مراحل سابقة.[11] ومع أن الرواية عن التجربة الاعتقالية، وخصوصاً بعد انتفاضة الأقصى، ركزت بصورة أساسية على العنف في شكل "التعذيب النفسي"، وانخفاض مستوى التعذيب الجسدي، إلّا إن ما نشهده اليوم هو "استعادة" كاملة لتلك الرواية، مع الإشارة إلى أن هذه "الاستعادة" لها ارتباط فعلي بالشهادات التي قدمها نحو 50 معتقلاً تعرضوا للتعذيب بعد آب / أغسطس 2019،[12] كما أنها شكلت في الوقت نفسه، فارقاً في الرواية عن التعذيب في مركز تحقيق "المسكوبية" في القدس، والذي عاد إلى المشهد في المواجهة الراهنة بقوة، مشكّلاً بذلك وجهاً آخر من "الاستعادة". كيف لا، وأغلبية الشهادات التي كان مستوى التعذيب الجسدي فيها عالياً تمحورت في معتقل المسكوبية؟ ولعل ذلك وثيق الصلة بالدور الذي مارسه هذا المعتقل تاريخياً في عمليات التعذيب التي لا تستثني النساء والأطفال.

ختاماً، فإنه، وفي أي مواجهة متجددة، يعود التساؤل عن العنف وجدواه المادية. فعمليات الاعتقال اليومية تشكل مصدراً مربحاً للاحتلال، وخصوصاً فيما يتعلق بالغرامات المالية التي تُقدّر سنوياً بالملايين، أو بـ "الكانتينا" (دكّانة السجن)، الأمر الذي يجعل هذه القضية تحتاج إلى معالجة خاصة بشأن الاستغلال الاقتصادي للمعتقلين والأسرى بصفته أبرز أدوات السيطرة التي تعتمدها السلطات الاستعمارية.[13] هذا، ونجد أن هذه الاستعادة وما يقابلها من "استعادة" العنف، قد فرضتهما المواجهة في أراضي 48 بصورة خاصة، وهذا أهم ما يمكن تأكيده في الوقت الراهن. ولعل هذه المواجهة، بما فيها من مسارات متعددة، تصبّ في محاولة فهم وضرورة التقاط هذه الاستعادة، والبناء عليها، لأن مَن فرض الاستعادة يدرك معناها من جهة، ويستطيع التحكم فيها لاحقاً، من جهة أُخرى، فضلاً عن الأثر البالغ لهذه الاستعادة في تجربة الأسرى الفلسطينيين الاعتقالية.

 

المصادر:

[1] توثيق جمعية نادي الأسير الفلسطيني حتى نهاية حزيران / يونيو 2021.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه.

[4] تقرير مؤسسات الأسرى في النصف الأول من سنة 2021، موقع "مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان"، 17 / 7 / 2021، في الرابط الإلكتروني. 

[5] وليد نمر دقة، "صهر الوعي، أو في إعادة تعريف التعذيب"، تقديم عزمي بشارة (الدوحة؛ بيروت: مركز الجزيرة للدراسات، والدار العربية للعلوم – ناشرون، 2010).

[6] تقرير مؤسسات الأسرى خلال أيار/ مايو 2021، موقع "مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان"، 13 / 6 / 2021، في الرابط الإلكتروني.

[7] "الفعل والفاعلية في الهبّة الشعبية"، دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية، موقع "باب الواد"، 25 / 10 / 2015، في الرابط الإلكتروني.

[8] تقرير مؤسسات الأسرى خلال أيار/ مايو 2021، مصدر سبق ذكره.

[9] تقرير مؤسسات الأسرى في النصف الأول من سنة 2021، مصدر سبق ذكره.

[10] أماني سراحنة، "الأسرى الفلسطينيون وجيل الغضب: قراءة أصلانية في السيادة وتقرير المصير"، رسالة ماجستير (بيرزيت: جامعة بيرزيت، 2020).

[11] تقرير مؤسسات الأسرى خلال أيار/ مايو 2021، مصدر سبق ذكره.

[12] "التعذيب الممنهج في مراكز التحقيق الإسرائيلية.. حالات التعذيب في مركز تحقيق المسكوبية"، موقع "مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان"، 23 / 1 / 2020، في الرابط الإلكتروني.

[13] انظر: "الاستغلال الاقتصادي للأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي"، موقع "مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان"، 10 / 12 / 2017، في الرابط الإلكتروني.

السيرة الشخصية: 

أماني سراحنة: مسؤولة الإعلام في نادي الأسير الفلسطيني.