اهتم كتاب "حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) بحث في الطرق والقيم والتأثير"، الصادر في بيروت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية سنة 2020، بتتبُّع نشوء حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، من خلال جذورها الفلسطينية بالتزامن مع اندلاع انتفاضة الأقصى سنة 2000، وبيّن أن هناك فواعل مجتمعية عابرة للحزبية والطبقية والمناطقية ساهمت في إنضاج حركة المقاطعة وخطابها الوطني الذي يعبّر عن المَظلمة التاريخية الفلسطينية لحظة النكبة. ربما ما غاب عن الكتاب النظرة الاستشرافية لمستقبل حركة المقاطعة وإمكاناتها ورهانات على المستوى المحلي والعالمي، إلى جانب انشغال الكتاب في معالجة سؤال طريق الشمال العالمي الذي سلكته حركة المقاطعة منذ انطلاقتها، ولم يقدم الكاتب مراجعة نقدية لتجربة الحركة في خياراتها نحو الشمال؛ مع أن الكاتب أظهر في أكثر من موقع أن فعالية حركة المقاطعة وحراكاتها تزداد عند تصاعُد الأحداث الانتفاضية في فلسطين؛ أي أن التأثير مقلوب، يبدأ من فلسطين ويؤثر في الشمال العالمي. ويُعتبر الكتاب من الكتب المهمة التي تؤصل لنشوء حركة المقاطعة ومساراتها المتشعبة شمالاً وجنوباً.
أنجز عمرو سعد الدين (دكتور في العلوم السياسية والاجتماعية من جامعة بروكسل الحرة) كتابه هذا، في 383 صفحة، موزعة على مقدمة وخمسة فصول؛ الفصل الأول: نشأة حركة مقاطعة إسرائيل في سياقها الفلسطيني؛ الفصل الثاني: طرق أوروبية وأسئلة حضور المقاطعة؛ الفصل الثالث: سجال الحضور الإسرائيلي في دعوات المقاطعة؛ الفصل الرابع: حراك المقاطعة العربية من الجذور الشعبية إلى التبني الرسمي؟ الفصل الخامس: حراك مقاطعة إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية؛ وفصل أخير جاء كـــ(استخلاصات).
ويعرض الكتاب انطلاق نداء حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) في سنة 2005، بالتزامن مع حالة الوهن السياسي الفلسطيني وحالة التشتت، فجاء النداء من المجتمع المدني الفلسطيني، وخصوصاً من الطبقة الوسطى التي تمتلك رساميل ثقافية ومدنية وسياسية وشبكية فاعلة في المجتمع الفلسطيني. وناشد البيان الأحرار وشعوب العالم مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها لتحقيق المطالب الثلاثة وهي: "إنهاء احتلالها واستعمارها لكل الأراضي العربية وتفكيك الجدار؛ الاعتراف بالحق الأساسي في المساواة الكاملة لمواطنيها العرب الفلسطينيين؛ احترام وحماية ودعم حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم واستعادة أملاكهم كما هو منصوص عليه في قرار اﻷمم المتحدة رقم 194". أي أن نداء المقاطعة حاول إعادة القضية الفلسطينية إلى حكايتها الأولى كقضية تحرُّر وطني، وقضية شعب يسعى لتقرير مصيره والعودة إلى دياره، وكان الانطلاق من رواية النكبة كنقطة للمَظلمة الفلسطينية لكل الفلسطينيين في فلسطين والشتات العربي والعالمي.
تنبع أهمية الكتاب من انشغاله في دراسة وتأطير حركة المقاطعة من بداياتها كنداء وتحوُّلها إلى حركة مقاطعة عابرة للحدود الوطنية، ومحاولاتها الربط بين الحالة الفلسطينية وتجربة جنوب أفريقيا ونضالها ضد الفصل العنصري، والنضال الإيرلندي وحركة السود والشعوب الأصلانية في الولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب ربط الحركة بجذور المقاطعة الفلسطينية للمشروع الصهيوني في فلسطين في الهبّات والانتفاضات في سنتيْ 1920 و1929 وثورة 1936- 1939. واعتمد الكتاب على نظريات ومفاهيم مركزية في علم الاجتماع السياسي لفهم الظاهرة وتتبُّعها عبر طرق الشمال العالمي وارتدادتها نحو الجنوب العالمي، وهو ما عُرف بنموذج الطبق المرتد "البومرنغ"، في محاولة للإجابة عن سؤال الكتاب الأساسي "كيف يمكن لحركة متخطية الحدود الوطنية، مثل حركة المقاطعة (BDS)، أن تتبع نمط البومرنغ... في وقت تظهر محدودية هذا النموذج فيما يتعلق بالعلاقات الأميركية - الإسرائيلية؟". واستند الكاتب إلى تأطير نظري يجمع ما بين الحقلين السياسي والاجتماعي مع تركيز على مفهوم "الهابتوس" والفعل الاجتماعي والرساميل الثقافية والاجتماعية، والفاعل- الشبكة؛ وهذه المفاهيم ساهمت في فهم تشكلات حركة المقاطعة وفاعليتها داخل فلسطين وخارجها، وقراءة شبكة الفاعلين والداعمين والمؤيدين لحراكات المقاطعة وخلفياتهم السوسيولوجية والثقافية.
أوضح الكتاب أن نشوء حركة المقاطعة أو جذورها تعود إلى مرحلة الوهن السياسي الفلسطيني بعد الانتفاضة الثانية، وجاء تشكُّل الحركة بالأساس من فواعل المجتمع المدني وأكاديميين؛ جزء منهم له علاقة بالحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية لإسرائيل (PACBI) 2003، وحملة أوقفوا الجدار، ومركز بديل- المركز الفلسطيني لحقوق المواطنة واللاجئين ضمن شبكة (مبادرة الدفاع عن فلسطين وهضبة الجولان المحتلتين- (OPGAI)، وائتلاف (اتجاه) للمنظمات غير الحكومية في أراضي فلسطين المحتلة سنة 1948، وشبكة المنظمات الفلسطينية غير الحكومية (PNGO)، كجمعيتيْ الإغاثة الطبية والإغاثة الزراعية، وهذه المنظمات ليست وحدها، بل كان لها دور رئيسي في تشكُّل الحركة. وفي دراسة تشكُّل الحركة فلسطينياً بيّن الكتاب كيف ساهمت الأحداث المتراكمة، مثل تظاهرة حاجز سردا التي قام بها طلبة بيرزيت وأساتذتها، وخبرات المنظمات وفواعلها وكوادرها، التي نشأ جزء منها في إبان الانتفاضة الشعبية الفلسطينية 1987، وكان لأشخاص يمتلكون رساميل ثقافية وسياسية وشبكة علاقات خارجية دور في العمل على تبنّي قيم المقاطعة، مثل: الراحل جابي برامكي، وأمير مخول، وليزا تراكي، وحنان عشراوي، وعمر البرغوثي. وما يمكن قوله إن حركة المقاطعة متنوعة ومتعدية للطبقات الاجتماعية وعابرة لها مع تمركز في الطبقة الوسطى المتنوعة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً وحزبياً.
انطلق التضامن الأوروبي قبل تشكُّل حركة المقاطعة بسبب عدم جدية إسرائيل في عملية السلام، ودفعت الانتفاضة الثانية الدول الأوروبية إلى المطالبة بالمقاطعة وفرض العقوبات على إسرائيل، ونشطت مجموعات المجتمع المدني في بريطانيا وبلجيكا وإسبانيا وإيرلندا واسكتلندا، وساهمت العلاقات بين أكاديميين فلسطينيين وبريطانيين في عقد مؤتمر المقاطعة في كلية (ساوث) في جامعة لندن سنة 2004، وربطت حراكات المقاطعة الأوروبية ما بين المقاطعة وتبنّي قيم حقوق الإنسان والقانون الدولي. لكن المواقف الرسمية لجزء من حكومات الدول الأوروبية مناهضة لحركة المقاطعة. وأظهر الكتاب أن التضامن الأوروبي يرتفع عند وقوع هبّات شعبية ومواجهات مع إسرائيل ووقف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وتعثُّرها.
يجادل الكتاب في أن الحضور اليهودي الإسرائيلي في المقاطعة غير هامشي، ويرفض ادعاء أن الإسرائيليين اليهود غير الصهيونيين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، بل إنهم أدوا دوراً تأسيسياً في حركة المقاطعة ومبادرات المقاطعة العالمية، وكان لهم دور في جبهة الشمال العالمي لحركة المقاطعة، وخصوصاً ضد تهمة إلصاق معاداة السامية بالرواية الفلسطينية التاريخية وبحركة المقاطعة. وكان لبعضهم دور مهم في مؤتمر ديربان المناهض للعنصرية في جنوب أفريقيا سنة 2001، ومنهم أوري ديفيس، وبينهم مَن ساهم في دعم وإطلاق حملات المقاطعة في الجامعات البريطانية والأميركية. ويجدر التنويه بأن حركة المقاطعة لا تعتبر المسار الإسرائيلي أولوية لحركة المقاطعة على الرغم من الاهتمام بالمبادرات من إسرائيليين للمقاطعة، وما زال هناك تحسُّس في المجتمع الفلسطيني تجاه علاقة الإسرائيليين المناهضين للصهيونية بحركة المقاطعة.
أوْلى مؤتمر حركة المقاطعة سنة 2007 الطريق العربية أهمية بعد الاهتمام سابقاً بطريق الشمال العالمي، لكن حركة المقاطعة لم يشدها الحقل العربي إلا بعد الثورات العربية، كما استلهمت حركة المقاطعة قيمة "مناهضة التطبيع" من المسار العربي، وتواجه الحركة أسئلة صعبة في هذا الحقل وهي أمام مفترق طرق؛ إما تشجيع القيام بحملات المقاطعة ومناهضة التطبيع من دون تدخُّل في الشؤون العربية الأُخرى، وإما الانخراط في مشروع التغيير العربي ومناصرة قضايا الحرية والعدالة في المجتمعات العربية كما تناصر قضايا عالمية، مثل حركة حقوق السود والسكان الأصليين في الولايات المتحدة الأميركية؛ وهذا ربما يوقعها في أزمة مع الأنظمة العربية. ونشطت حراكات المقاطعة في الدول العربية، مثل رفض التطبيع والمطالبة بإلغاء اتفاقيات الغاز مع إسرائيل، ويبدو أن حراكات المقاطعة في المجتمعات العربية تزداد صلابة كلما وقعت أحداث في فلسطين كالهبّات الشعبية والانتفاضات، أو العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
أما بخصوص حركة المقاطعة في الولايات المتحدة الأميركية، يُشار إلى أن هناك تراثاً من المقاطعة لمرحلة ما قبل تشكُّل حركة المقاطعة المرتبطة بالانتفاضة الثانية والعولمة البديلة وغيرها من العوامل، فقد بدأ الراحل إدوارد سعيد في أواسط ثمانينيات القرن الماضي اقتراح إجراء مماثلة فلسطينية مع تجربة جنوب أفريقيا، وإشارة إلى أهمية التواصل مع الحركات المدنية في الولايات المتحدة الأميركية بدلاً من التركيز على اللوبي السياسي الأميركي الذي كانت تركز عليه منظمة التحرير الفلسطينية وعولت عليه السلطة الفلسطينية لاحقاً. وبيّن الكتاب أن جيل الشباب هو الأكثر تقبّلاً لفكرة الحقوق الفلسطينية المتنوعة، وبالتالي الضغط لتبنّي قيم حركة المقاطعة الثلاث. وعلى الرغم من الحراك المدني والأكاديمي في الولايات المتحدة الأميركية المساند لحركة المقاطعة، إلا إن الحراك الرسمي الأميركي ينطلق من عقلية "مقاطعة حركة المقاطعة".