هوية أولى للتنين
أتناول في هذه الشهادة تجربة حياتية نضالية عشتها مع الاحتلال، وأعبّر فيها عن تجربة المطاردة بين الصياد والتنين، وهي تجربة متوارثة من الأجداد إلى الأحفاد في فلسطين.
ولدت في سنة 1976 لعائلة تنحدر من قرية وادي الحوارق بالقرب من قيسارية قضاء حيفا، والتي هُجّرت في سنة 1947، قبل النكبة. لقد عانى أجدادي النكبة بجميع تفصيلاتها أكثر من مرة: من وادي الحوارق إلى قيسارية أول مرة، ثم من قيسارية إلى مخيم جنزور بالقرب من جنين. وفي سنة 1984، وبسبب سيل جارف اضطرت العائلة إلى الهجرة مرة أُخرى إلى مخيم جنين حيث استقر جداي لأمي وأبي، (أ. ز.) و(م. ز.)، وهما أبناء عمومة، وكلاهما التحق بالكفاح المسلح.
سمعت من والدي أن جدي (أ. ز.) أصيب خلال المعارك مع العدو، بينما أُلقي القبض على جدي (م. ز.) وأُسر في سجن شطة قضاء بيسان المحتلة، حيث تمكن هو ومجموعة من الأسرى من الفرار من دون أن يأبهوا بملاحقة العدو، بل كل ما كان يشغل بالهم هو صعوبة العودة إلى بيوتهم في المخيم، فأيديهم فارغة من أي رزق لذويهم، أو أي شيء يُفرح أطفالهم. ولهذا اقترح جدي عليهم أن يقوموا بعملية فدائية، ويقتحموا مغتصبة كانت في طريق عودتهم اسمها "مشتحفوت"، وقد استطاع جدي استرداد بعض ما سُرق منه في سنة 1948: ثلاث بقرات عاد بها إلى المخيم.
خلال تلك الفترة اشتد العمل العسكري، وعمدت قوات الاحتلال إلى هدم منزل جدي (م. ز.)، وهو ما اضطره إلى الهجرة إلى الأردن مع أبنائه، حيث سكن في وادي اليابس، المعروف اليوم بـ "وادي الريّان"، على الحدود مع بيسان المحتلة. ومثلما حدّثتني أمي، فإن جدي قاد الكفاح المسلح في منطقة الأغوار، وفي أثناء المعارك، هدمت الطائرات الصهيونية منزله. وبعد أحداث أيلول الأسود في الأردن بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية في سنة 1970، حكم النظام الأردني عليه بالإعدام، فاضطر إلى الفرار إلى ألمانيا حيث طارده الموساد الإسرائيلي حتى استشهد، تاركاً عائلته في الأردن.
أمّا عائلة أبي فاستقرت في مخيم جنين، وقد أنهى دراسته الثانوية في مدينة جنين، ثم التحق بالجامعة الأردنية، فدرس الأدب الانجليزي، وتزوج من ابنة عمته (م. ز.)، وهو الزواج الذي أورثه هموماً إضافية تتعلق بلمّ الشمل الذي استغرق الحصول عليه تسعة أعوام تخللتها مساومة من طرف "الإدارة المدنية الإسرائيلية" لدفعه إلى التعاون معها في مقابل الحصول على لمّ الشمل. وقبل الحصول عليه، كانت والدتي تسافر إلى الأردن مرة كل ثلاثة أشهر، هي فترة "تصريح الزيارة". وقد أنجبت أمي ستة أبناء وابنتين، الأمر الذي زاد في معاناتها، إذ كانت أحياناً تأخذنا معها، وأحياناً أُخرى تتركنا في المخيم، وكانت خريطة ذلك الألم ترتسم على وجهها.
عشت في بيت لا حديث فيه سوى عن الثورة والغضب من الاحتلال، فالسياسة كانت محور كل شيء؛ كنت أسمعهم يتحدثون عن رجال الدين والماركسيين والقوميين العرب وحركات التحرر في العالم. كنت طفلاً أسمع ولا أفهم، لكن أحاول ربط ذلك بما يجري على الأرض من أحداث شكلت في مجملها ذاكرة غنية سمحت لي، حين كبرت وقرأت، بأن أُسقطها على واقعي. فمثلاً، عندما درست "القومية وسياسات الهوية"، عادت بي الذاكرة إلى سنة 1988، حين أقدم الاحتلال على هدم منزلنا في المخيم وكان معلقاً على أحد جدرانه ثلاث صور للقادة الراحلين أبو عمار وجمال عبد الناصر وأبو جهاد. وللمفارقة، فإنه جرّاء هدم المنزل، سقطت صورتا أبو عمار وصورة أبو جهاد، بينما لم تسقط صورة جمال عبد الناصر. سألت أبي: "ليش صورة هذا الزلمة ما سقطت؟" فأجاب: القوميون لا يسقطون. ثم أردف مبتسماً: هذا جمال عبد الناصر أبو القومية العربية الذي يسعى لوحدة الأمة.
لكن عندما قرأت لسيد قطب، "معالم في الطريق"، استحضرت من الذاكرة صورة أُخرى لأحد جيراننا عند هدم منزله؛ فهذا الجار لم يَرُق له حديث أبي عن عبد الناصر، كما أن زوجة هذا الجار كانت تحمل بيدها "شوبك العجين" وتشير به إلى صورة عبد الناصر التي لم تسقط وتشتمه. لم أدرك حينها أن هناك تنظيمات وتيارات بينها اختلافات كبيرة، وإنما فهمت ذلك لاحقاً. وبفضل ما تكتنزه ذاكرتي، عرفت أن والدي كان من ثوار القوميين العرب، أمّا جارنا وزوجته، فكانا من المؤيدين لحركة الإخوان المسلمين.
زمان التنين ومكانه
بالعودة إلى مخيم جنين، أصل الحكاية، فقد انقسم شباب المخيم، بعد طردهم وتهجيرهم من أراضيهم في سنة 1948، إلى ثلاث فئات: فئة سلاحها في مواجهة الاحتلال هو العلم والكتاب، وأُخرى سلاحها ألعاب القوى وبناء العضلات في نادي المخيم، وثالثة من البسطاء والعمال الباحثين عن قوت يومهم. كان نصيب أبي من الفئة الثالثة، فشهادته في الأدب الإنجليزي لم تسعفه في العمل في مجاله العلمي، لأن وزارة المعارف الإسرائيلية آنذاك رفضت قبوله موظفاً في المدارس، كما دفعت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، إلى طرد مَن يعتبرهم الاحتلال أسرى أمنيين، وعدم توظيف مَن هو ضمن فئة الأسرى، فاضطر إلى العمل داخل أراضي 48، وفي المساء كان يعمل مدرساً للغة الإنجليزية، مع أنني لم أسمعه يتحدث بها مع طلابه بقدر ما يحدثهم عن الاحتلال وطرق مقاومته. سألت أمي ذات مرة، وباستغراب: هل يعلّم والدي الطلاب الإنجليزية، أم كيفية مقاتلة الاحتلال؟
لاحقاً أدركت أثر وطنية أبي، والتي انعكست عليّ شخصياً، إذ كانت علاماتي متدنية جداً في الإنجليزية التي كنت أنجح فيها بصعوبة من الابتدائية حتى الدراسات العليا!
لقد أعاد إليّ نقاش الهوية، ومعرفة حدود الذات والآخر، تفسير ذاكرتي. فقد بدأت أولى معاركي في ذاتي عندما اقتحم جنود الاحتلال منزلنا في الساعة الثالثة فجراً في سنة 1982، ولمست في حينه حجم غضب أبي وأعمامي وأصدقائهم لتزامن ذلك مع العدوان على لبنان واجتياح بيروت. رأيت وحشية جنود الاحتلال في أثناء اقتحامهم بيتنا، وعبثهم بأشيائنا، وعربدتهم واستقواءهم على الصغير والكبير، والفزع الذي زرعوه في نفوسنا وهم يعتقلون أبي، ويضعونه عاماً في السجن الاحترازي. كان هذا الامتحان هو البذرة التي تفتحت في ذهني لأعرف ذاتي، ومَن نحن، ومَن هم.
كانت أول مرة أرى فيها الدم وأنا طفل حين كنتُ مع إخوتي. كان أبي مع أصدقائه، وفجأة تلقينا خبر إصابة ابن عمتي برصاص الاحتلال. هرع والدي إلى المطبخ وتناول ما فيه من أدوات حادة، ولحق بأصدقائه جرياً إلى المستشفى. لحقت به، ورأيت الدم ينزف من جرح ابن عمتي في قدمه، وعندما اقتحمت قوات الاحتلال المستشفى لاعتقاله، احتفظ أصدقاء والدي بالسكاكين في حيازتهم، الأمر الذي أدخل الجميع في نوبة ضحك هستيرية، بعد انصراف جيش العدو!
في سنة 1988، اقتحم جيش الاحتلال المخيم وهدم منزلنا، لكن والدي قرر ألّا نترك المكان، فالمكان لا يمكن هدمه، أمّا المنزل فيمكن بناؤه من جديد. كانت انتفاضة الحجارة قد بدأت، وكنت في الثالثة عشرة، وفي 24 أيار / مايو 1988، انطلقت تظاهرة من أمام مدرستي التابعة لوكالة الأونروا، وأُصبت خلالها بعيار ناري في قدمي. من هناك، بدأت حكايتي مع العمل المقاوم، إذ أكسبتني إصابتي اهتماماً بالغاً من التنظيمات الفلسطينية، وشعرت بأن ثمة محاولة استقطاب لي إلى حركة "فتح" من جهة أبي، وإلى الجبهة الشعبية من جهة عمي، لكنها حُسمت في نهاية المطاف بانتمائي إلى "فتح".
في نهاية سنة 1989 اعتُقلت لستة أشهر أتاحت لي التعرف بصورة أفضل إلى القضية الفلسطينية والثورة. وبعد أن أُفرج عني، اندمجت في العمل المقاوم، وسرعان ما دخلت في مرحلة المطاردة الأولى، وكانت القرية هي الحاضنة الدينامية في مجتمع المطاردين. فالقرى ومناطق الريف بصورة عامة هي الأكثر أمناً، إذ تسهّل رصد دخول قوات العدو، كما أن النسيج الاجتماعي فيها أكثر ترابطاً، بينما المدينة والمخيم أكثر ملاءمة للعمل العسكري، لأن مواقع الاحتلال ومعسكراته موجودة فيهما.
وعلى الرغم من صعوبة المطاردة في المدينة لأننا عرضة للانكشاف فيها بصورة أسرع، فإننا اضطررنا إلى اللجوء إليها أحياناً، مستخدمين كثيراً من الوسائل البدائية لكشف تحركات قوات الاحتلال، ومنها التواصل بين المطاردين بطريقة مضحكة ربما، وهي الدّق على أعمدة الكهرباء عند دخول قوات العدو! أمّا في القرية، فكان أبناؤها يسهرون على أمن المطاردين وسلامتهم، وإغلاق المداخل بالمتاريس، وقد امتازت المقاومة في الانتفاضة الأولى، ببعدها عن أدوات التكنولوجيا الحديثة.
في سنة 1988، اعتُقل والدي بعد هدم بيتنا، وفي بداية سنة 1990، اعتُقل أخي الأكبر (أ. ز.) وحُكم بستة أعوام. وفي 24 شباط / فبراير 1990 اعتُقلت وحُكم عليّ بالسجن أربعة أعوام ونصف عام تنقلت خلالها بين عدة سجون أذكر منها سجون: طبرية، وتلموند، وعسقلان، وبئر السبع، والفارعة، ومجدو، وعتليت، وعناتا، ثم انتهى بي المطاف في سجن جنين المركزي. خلال تلك الأعوام، كانت والدتي تزورنا جميعاً، وفي سنة 1992 اعتقلت قوات الاحتلال مَن تبقّى من أشقائي (ط. ز.؛ ي. ز.؛ ع. ز.)، الأمر الذي زاد في معاناة والدتي سواء على مستوى الزيارات، أو لمتابعة شؤون أبنائها في السجون المتعددة.
أُفرج عن والدي بتاريخ 4 حزيران / يونيو 1992، وكان مريضاً بسرطان الدماغ، وكنت في ذلك الوقت أعيش حالة توجس دائم في سجن جنين، وأتخوف من خبر سيىء سيأتيني عنه لمعرفتي بحالته الصحية الصعبة. وذات يوم، بينما كنت متوجهاً إلى عملي في المغسلة داخل السجن، سمعت مكبر الصوت من المسجد الذي لم يكن يبعد عن السجن سوى بضعة أمتار، يعلن وفاة والدي (م. ز.). لم أصدق أن والدي مات، فكذبت أذني، لكن المنادي كرر الخبر مرتين أُخريين. كل شيء يمكن أن أكذّبه إلّا الموت، ومع أنني استوعبت الخبر، إلّا إنه نزل عليّ كالصاعقة، وكان وسيبقى غصة في القلب.
كانت حياة السجن كثيفة، تعليمياً ونضالياً، فدور التثقف الحزبي كان أساسياً في الحديث عن نشأة حركة "فتح"، ومبادئها، وأساليبها، وخصوصاً الكفاح المسلح الذي كان ينفّذ استراتيجيا الحركة للعمل الثوري. من هنا، بدأت أفهم معنى الانتماء التنظيمي والسياسي إلى حركة "فتح" التي جعلت تناقضها الرئيسي مع الصهيونية. لكن في تلك المرحلة، بدأت تظهر معالم سياسة جديدة نحو "السلام"، أو بمعنى أدق "الاستسلام". شعرت بتناقض بين عقلية الثائر الذي يدرس الثقافة الثورية القائمة على أن الكفاح المسلح هو استراتيجيا وليس تكتيكاً، وبين ما يصلنا من أخبار عن طبيعة المرحلة المقبلة التي ستقضي على التعبئة الثورية، وحتى على إمكان الثورة.
لم نكن في حينه نملك إجابات، وإنما كنا نعيش فوضى فكرية، وكنا متلهفين إلى الحرية التي هي شغلنا الشاغل. كنا نتحلّق حول الراديو منتظرين سماع خبر له علاقة بصفقة إفراج عن الأسرى، أمّا الكراسات والكتب وأدبيات الثورة، فجمعناها في صناديق بلاستيكية ووضعناها على سدّة الحمام! بقينا نتلمّس الأخبار يوماً بعد يوم حتى 24 أيار / مايو 1994، حين أُفرج عني مع مجموعة كبيرة من الأسرى من سجن جنين إلى مناطق السلطة الفلسطينية في أريحا، وفق اتفاق أوسلو. وفي أثناء وجودي في أريحا شعرت بأنني لاجىء من جديد داخل الوطن، فقد كان من شروط الإفراج عدم مغادرة أريحا، إذ كُتب على ورقة الإفراج باللغة العبرية: "متساب قروش لشتحيي إيتوينوميا فلسطينيت"، أي "وضعية الطرد إلى مناطق الحكم الذاتي الفلسطينية."
بعد ذلك، انخرطتُ في الأجهزة الأمنية على غرار جميع الأسرى المحررين، وللمفارقة أسكنونا جميعاً في "كارافانات" وضعوها في ساحة كبيرة تابعة لمنظمة الأمم المتحدة في أريحا، تماماً مثل الخيم، كأن حياة اللجوء قدر مكتوب على جباهنا. ولأن الطبع يغلب التطبع، وطبع الثائر هو التمرد، فقد هربت من مخيم الـ "كارفانات" متجاوزاً جميع الحواجز الإسرائيلية التي كانت على مداخل أريحا، واتجهت متسللاً إلى بيتي في مخيم جنين، فمدينة جنين كانت لا تزال تحت سلطة قوات الاحتلال التي غادرَتْها فيما بعد. ولذا، فقد اضطررت إلى أن أتخفى إذ كنت عرضة للمطاردة طوال فترة إقامتي في جنين، لأنه إذا قُبض عليّ هناك، فسيُحكم عليّ بمدة الحكم السابقة نفسها التي تبلغ أربعة أعوام ونصف عام، والتي لم يكن قد تبقّى منها سوى خمسة أشهر عندما أُفرج عني، وقد وقع كثيرون من المحررين في هذه المصيدة، وأعيدت محاكمتهم.
التنين والصياد
استمر عملي في السلطة الفلسطينية حتى أيلول / سبتمبر 2000، لكن، قبل ذلك، وقعت أحداث النفق بتاريخ 21 أيلول / سبتمبر 1996، فكأن الروح في هذه الأحداث عادت إلى جسدي، وكأن أدبيات الثورة التي كنا وضعناها في صناديق الذاكرة في سجن جنين ورميناها على سدّة الحمام، عادت كلها إلى الذاكرة، إذ بدأت التعبئة الفورية، واستنهاض الهمم، والتحضير للعمل المسلح، رداً على المجازر والقتل اليومي الذي يمارسه الاحتلال في حقّ أبناء شعبنا. ورأيت الفكرة الثورية تتبلور في عيون الشهيد زياد العامر، قائد كتائب شهداء الأقصى، الذي سرعان ما انخرط في العمل العسكري في انتفاضة الأقصى عبر تشكيل خلايا سرية لتنفيذ عمليات عسكرية ضد قطعان المستوطنين في المغتصبات الجاثمة على أراضي مدينة جنين.
في 24 كانون الأول / ديسمبر 2001 تعرضتُ لانفجار أدى إلى حروق شديدة في الوجه والعينين خلال تنفيذنا إحدى المهمات العسكرية، وكان لهذا الانفجار أثر في كشف هويتي السرية وأسلوبي في العمل العسكري. حينها، بدأت أتعامل مع نفسي كمطارد، فغيرت جميع الاستراتيجيات التي كنت أتّبعها من قبل، وهو ما انعكس على جميع مناحي حياتي، ولا سيما في الحركة والتنقل، فابتعدت عن استخدام السيارة والأجهزة الإلكترونية كالهواتف المحمولة، ولم أكن أبقى أكثر من عشرة إلى خمسة عشر دقيقة في أي مكان. وكانت المدينة لا القرية هي الحاضنة في انتفاضة الأقصى، على عكس ما كانت عليه الحال خلال الانتفاضة الأولى، ذلك بأن المدن الفلسطينية، كانت في هذه المرة، خالية من جيش الاحتلال، وأضحت مناطق سلطة فلسطينية مصنفة "أ" بحسب اتفاق أوسلو، فتجمّع الثوار داخل المدن التي أصبحت نقطة انطلاق للعمل العسكري.
أمّا مخيم جنين، فامتاز بموقعه الجغرافي المتقدم في المدينة، وكان حاضنة للثوار الذين أتوا من البلدات والقرى المجاورة، وقد ساعد في ذلك أهالي المخيم الذين احتضنوا الثوار احتضاناً منقطع النظير، وفتحوا لهم بيوتهم، الأمر الذي ساهم جوهرياً في نجاح العمل المقاوم، وذلك بشهادة العدو نفسه، إذ أطلق على المخيم وصف "عش الدبابير". فالعدو الصهيوني اعتاد تسمية عملياته العسكرية بأسماء اعتقد أن لها مغزى مزدوجاً: رفع الروح المعنوية لديهم، وضربها لدى المقاومين الفلسطينيين، مثل: "لمّ القمامة"، و"البحث عن الجرذ الأسود"، و"أوراق الشدَّة"، و"سقوط الهرم"، و"دموع التنين"، إلخ، والأمر هو نفسه بالنسبة إلى العمليات الكبيرة، مثل: "رحلة بالألوان" التي أطلقها على عمليته التي قام بها في 2 آذار / مارس 2002، حين قصفت قوات الاحتلال المقاطعة في رام الله، وحاصرت مدينة جنين، وضيّقت الخناق على المخيم، مستخدمة في معركة المخيم قنابل تُظهر بعد انفجارها ألواناً متنوعة على الأسطح والجدران، يغلب عليها اللونَين البنفسجي والزهري المائل إلى الاحمرار. وكان وزير حرب العدو قد صرّح آنذاك: "هناك بعض المقاتلين في مخيم جنين، سنذهب لنقتلهم ثم نعود أدراجنا بسلام." اعتقد جنرالاتهم أنهم ذاهبون إلى رحلة وليس إلى معركة، لكن كانت المفاجأة في انتظار جنودهم في المخيم الذي لم يتمكنوا من دخوله طوال خمسة أيام، بل إن المعركة استمرت إلى ما بعد اليوم الخامس، خلافاً لما كانوا يتوقعونه.
كنت في اليوم السادس، في 6 آذار / مارس، 2002 في أحد أحياء المخيم، وكانت المعركة على أشدها، حين جاء أحد المقاتلين من موقع آخر، ليسألني عن صحتي وعن عينيّ بالذات، لأني كنت أتلقى العلاج حينها. لكني لاحظت من أسئلته ومن شدة اهتمامه بي، أن لديه أخباراً غير سارة يخفيها عني، فسألته: هل أصيب إخوتي بمكروه؟ هل استشهد أحدهم في المعركة؟ قال على وجه السرعة: لا، لا، لكنْ هناك خبر غير مؤكد عن إصابة والدتك بعيار ناري، ويقال إنها بخير، سألته: كيف أصيبت ومن أين؟ قال: برصاصة قناص كان يوجد على الجبل الغربي. كنت أعلم أن أمي ليست في بيتنا، فبيتنا كان يحتضن المقاتلين، وكان عبارة عن نقطة عسكرية للثوار لأهميته الجغرافية. قررت أن أذهب إليها، لكنهم أخبروني أنها نُقلت إلى المستشفى في جنين، وأنه ليس هناك أي اتصالات، وأنني لن أستطيع الوصول إليها لأن الطريق بين المخيم والمستشفى كان مقطوعاً. وبردّة فعل تلقائية، قررت الانتقام، لأنني شعرت في داخلي بأن والدتي استشهدت، فالقناص الصهيوني هو للقتل وليس للإصابة. انتابتني فوضى من الأفكار والمشاعر والأحاسيس، فأنا لا أريد أن أصدق أن والدتي استشهدت، وفي الوقت نفسه لا أريد أن أكذب معرفتي بوحشية الجنود تجاه الكبير والصغير. وكي أهرب من هذه المشاعر المتراكمة قررت الذهاب إلى الجبل الغربي ومواجهة هذا القناص، وعندما وصلت مع بعض الإخوة إلى المنطقة، بدأنا بالاشتباك معه، وحاولت اقتحام المنزل الذي يوجد فيه القناص الجبان، لكن أحد الإخوة المقاتلين الذي شعر بما أنوي فعله وكان لديه خبرة عسكرية، أثناني عن هذا لأنه يعرف أن اقتحام المنزل هو بمثابة انتحار.
في صباح اليوم التالي، الموافق فيه 7 آذار / مارس 2002، انسحب الجيش الصهيوني انسحاباً محدوداً، وتمركز على أطراف المخيم. وكان إلى جانبي بعض الإخوة الذين بلّغوني رسمياً أن والدتي استشهدت، وعلمت أيضاً أنها استشهدت في اللحظة نفسها التي أصيبت فيها، إذ اخترقت رصاصة القناص قلبها مباشرة. وسقط مع والدتي في ذلك اليوم سبعة شهداء، لكن ثلاجة المستشفى لم تكن تتسع لأكثر من أربعة، وكان الهلال والصليب الأحمر قد بلّغانا أن لديهما تصريحاً بالدفن. وبما أن انسحاب الصهيونيين كان محدوداً، والمخيم لا يزال محاصراً، قررت أنا وإخوتي أن تُدفن والدتنا عن طريق الهلال والصليب الأحمر، ولهذا لم يتسنّ لنا سوى إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليها داخل السيارة، وذلك عندما مرت من شارع المخيم الذي يفصل بين المستشفى والمقبرة، مستغلين فترة وقف إطلاق النار المعلنة لأربع ساعات. استُؤنفت المعركة ذلك اليوم، واستمرت إلى اليوم التالي، وأسفرت عن انسحاب العدو الصهيوني مهزوماً مخلفاً وراءه كماً هائلاً من الدمار والخراب في البيوت، وعدداً كبيراً من الشهداء والجرحى.
لم تكن معركة آذار / مارس 2002 استراتيجية من طرف العدو، وإنما أرادها تكتيكية لاختبار إمكانات الثوار، وليرسم بعد ذلك استراتيجيته للمعركة المقبلة. كنّا نعرف ذلك، كما كنّا متأكدين من عودة العدو إلى معركة أكبر في المخيم، ولهذا استفدنا من معركة آذار / مارس، وبدأنا بإعداد أنفسنا في سباق مع الزمن، كي نكون جاهزين لمواجهة حاسمة. وفعلاً، سمّى العدو الصهيوني العملية التالية "السور الواقي"، وشملت جميع المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكانت معركة مخيم جنين الثانية في نيسان / أبريل 2002 جزءاً من تلك العملية. ولمعرفة تفصيلات هذه المعركة يمكن العودة إلى رسالة ماجستير بعنوان: "معركة مخيم جنين: التشكل والأسطورة (نيسان / أبريل 2002)"، أعدّها أخي ورفيق دربي القائد جمال حويل في جامعة بيرزيت.
غير أنني سأذكر هنا بعض التفصيلات التي تخصني خلال المعركة: في اليوم الأول، فتحت منزلي مرة أُخرى للمقاتلين من أجل حثّ أهل المخيم على فعل مشابه من دون خشية تبعات ذلك، فكان المخيم وأهل المخيم عند الثقة. ولا أبالغ إذا قلت إن الحيوانات كانت تقاتل إلى جانبنا. ومن النوادر التي أذكرها في هذا الشأن، أنه في اليوم الثالث، وبينما كنت مرابطاً في أحد البيوت، رأيت قطة تسير ببطء بين بقعة وأُخرى، فقلت في نفسي حتى القطط لا تعلم ولا تدري ماذا تفعل من شدة الحصار والخوف المسيطر في المكان. وفجأة رأيت القطة مسرعة كالبرق، فعلمت أن هناك مَن يطاردها، لأن القطة لا تهرب بهذه الصورة من أبناء المخيم، وأدركت أن جنود الاحتلال خلفها، وما هي إلّا لحظات، حتى كانوا على مرأى عيني ومرمى بندقيتي.
حينها، قررت الذهاب إلى المنزل الذي كان فيه جثمان أخي الشهيد، والذي كان قريباً بعض الشيء، لكن قرب المسافة لا يعني سهولة الوصول، فالمعركة كانت من بيت إلى بيت، كما أن الاشتباك مع العدو كان يدور أحياناً في أجزاء متنوعة من البيت نفسه. لكني لم آبه بذلك، واقتحمت ذلك المنزل، مسنوداً بمَن أصروا على أن يكونوا إلى جانبي، لتغطيتي من استهداف القناص الذي كان في الموقع. وصلت إلى أخي واحتضنته، وبلّغته تحياتي وسلاماتي إلى أمي وأبي. وأصرّ مَن كانوا معي على مغادرة المكان، إذ من المؤكد أن العدو سيدخل البيت وهو ما حدث فعلاً، فقد قصف البيت بصواريخ حارقة، الأمر الذي أدى إلى احتراق جثمان أخي [طه الزبيدي].
في آخر يوم من المعركة كانت الحالة سيئة جداً، إذ لم يتبقّ لنا كمقاتلين في المخيم سوى مئات من الأمتار لا يستطيع أحد التحرك إلى خارجها، وكانت الذخيرة قد نفدت، فبدأ الحديث يدور عن وقف القتال وتسليم أنفسنا، وخصوصاً أن بيننا كثيراً من الصغار والنساء وكبار السن. لكن قراري منذ اللحظة الأولى كان عدم الاستسلام، غير أنني لم أصرّح بذلك كي لا أظلم أحداً معي. كنت أعلم جيداً طبيعة الصراع الدائر في نفوس المقاتلين، وكنت ألتمس العذر لمَن يرغب في الهدنة، فالحالة بعد ثلاثة عشر يوماً من القتال أوصلتنا من ناحية، إلى مواجهة دبابات وجرافات، لكنني، من ناحية أُخرى، كنت أمام مسؤولية كبيرة تجاه الأشبال والفتية الصغار المرتبطين بي، ولهذا خرجت من ذلك كله بقرار اتخذته بمفردي من دون أن يتأثر به الصغار... تركتهم لقرارهم، واختفيت وراء ركام المخيم رافضاً تسليم نفسي. بقيت ثمانية عشر يوماً بين الأنقاض، وتحتها، مستعداً لأي مواجهة محتملة، وبعد هذه الفترة كان الجيش الصهيوني قد انسحب من المخيم والمدينة.
أذكر بعض أحاديث أبطال هذه المعركة، وهي لافتة للنظر، فقد كنا نجلس في مجموعة من المقاتلين قبل يوم من بدء المعركة، حين سأل الشهيد علاء صباغ الشهيد زياد العامر قائلاً: برأيك ماذا سيحدث هذه المرة؟ هل ستكون التجربة مثلما جرى في آذار / مارس؟ فأجاب زياد: "الشهر الثالث كان مجرد استكشاف، جسّ نبض، أمّا هذه المرة فهي المعركة الحقيقية. ستقف الدبابة أمام منزلكم، وأنت يا علاء ستطلق النار عليها من بين فروع الخروبة." وهذه الخروبة لا تبعد سوى ستة أمتار عن باب منزل علاء. فضحك علاء ساخراً ومستغرباً وقال: "هاظ [هذا] بدهم يهدُّو ستمية دار حتى يصلوا لدارنا!"، فمنزل علاء يقع في قلب المخيم، وكي يصلوا إليه، لا بد من هدم هذه البيوت كافة. وللمفارقة فإن ما تنبّأ به زياد، وقاله علاء، هو ما حدث فعلاً. ففي اليوم الأول من المعركة، وصل أحد الشباب إلى منزلنا ليقول لزياد إن جنود الاحتلال نزلوا إلى المخيم من الجبل، فخرج مسرعاً عبر درج البيت ومعه نصف ساندويش مرتديلا كنت أعطيته إياه، تاركاً النصف الآخر قائلاً بروح معطاءة ومنكراً لذاته: "رح تحتاجوه!" ولم يكن يفصل بيتي عن الجبل الذي أسرع إليه زياد سوى الطريق، فكان الاشتباك المباشر الذي خاضه زياد العامر وسقط شهيداً، مؤكداً لنا أن القادة يجب أن يكونوا في المقدمة، حيث النصر، أو الشهادة.
بعد انتهاء المعركة، عدت أفتش في شريط الذاكرة وأحاول ربط الأحداث، فظهرت لي عدة مفارقات أو نوادر. ففي اليوم الخامس عشر على بدء المعركة، تذكرت نصف ساندويش المارتديلا الذي تركه زياد في اليوم الأول من المعركة، فقد احتجنا إليه فعلاً في اليوم الخامس عشر. كنا مجموعة من المقاتلين الذين رفضوا الاستسلام، وكنا نتجمع تحت أنقاض البيوت المهدمة، وكان بيننا مَن مضى عليه ستة أيام جائعاً لم يذق الطعام، ولا كسرة خبز... كما أذكر أن أحد المقاتلين الذي ذهب مع مجموعة لتسليم نفسه، عاد مسرعاً إليّ فسألته: لماذا عدت؟ قال: لأنني تذكرت أن شقيقك الشهيد (طه زبيدي) كان قد أوصاني بك، فعدت لأبقى معك.
انتهت تلك المعركة، وخرجنا من تحت الركام، وكنا سبعة عشر مقاتلاً. وبدأت مرحلة مختلفة، إذ كان علينا كمقاتلين جمع ما تبقّى من عتاد، وإخراج جثامين الشهداء من تحت الأنقاض، فالمسؤولية كبيرة تجاه الأهالي الذين خسروا بيوتهم وأموالهم وأبناءهم، ولا بد من تأمين مساكن لهم، ولتأمين ذلك، استعنّا باللجان التي شُكلت لهذا الأمر. وعلى المستوى العسكري، بدأنا نشكل خلايا لمنع الجيش الصهيوني من اقتحام المخيم من أجل ملاحقة المقاتلين المطاردين الذين لم يستشهدوا أو يؤسروا. فالمطاردون كانوا في خطر دائم، وخصوصاً أنه ما عاد هناك سيطرة على المدن الفلسطينية التي أصبحت مستباحة للعدو، كما أن تقسيمات "أ" و"ب" و"ج" انهارت، وفقدت السلطة جميع وظائفها الأمنية، وصار على عاتقنا ضبط الأمن في المحافظة، فباتت المسؤولية ثقيلة وكبيرة على كاهل المقاتل (المطارد) الذي ترتب عليه القيام بوظائف السلطة كلها، مثل توفير الأمن والمأكل والمشرب والمسكن والملبس للمواطنين، وفي الوقت نفسه تشكيل الخلايا العسكرية وتأمين العتاد والسلاح لإكمال مشوار التحرر الذي عاهدنا شهداءنا على أن نمضي فيه، لأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، مثلما قال شاعرنا محمود درويش.
التنين وملاك الموت
بتاريخ 10 حزيران / يونيو 2002، أي بعد شهرين على المعركة قررت الزواج بناء على اتفاق مع شريكة حياتي التي تعلم أنني مطارد، وأنه يمكن أن أستشهد أو اعتُقل في أي لحظة. وافقتْ على الارتباط بي وهي تعلم أن الوقت الذي سيجمعنا سيكون قليلاً جداً، بل نادراً. وهذا ما حدث فعلاً، ففي أول يوم من الزواج دخلنا بيتنا في الساعة الثالثة عصراً، وعادت إلى منزل أبيها في الساعة الثامنة مساء، لأن قوات الاحتلال كانت قد اقتحمت المدينة في تلك الساعة فاضطررت إلى الخروج من المنزل. هكذا، وعلى مدار أعوام المطاردة كلها، كان لقائي بشريكة حياتي محدوداً... وقد عاشت زوجتي معي لحظات الخوف والرعب مع كل اقتحام صهيوني، وذلك بحكم الحالة النفسية التي يعيشها المطارد في حياة ملأى بالخوف والقلق المتواصل، والوقوف على حافة الموت طوال الوقت. وهذه العلاقة بين المطارد والموت لا يفهمها سوى مَن عاش التجربة، ففي كل ليلة تجري حوارات بين المطارد وملك الموت حتى تشرق شمس الصباح وتبدأ العصافير بالزقزقة، ويشرع الناس في الخروج من منازلهم، وتنتهي "المفاوضات" لمصلحة المطارد، وأحياناً لمصلحة ملك الموت، كما لو أن هذه العلاقة ناموس من نواميس الكون يتبدل كما يتبدل الليل والنهار.
أذكر في إحدى هذه "المفاوضات" مع ملك الموت، أنني كنت ذات ليلة مع أخي عطا أبو رميلة أمين سر حركة "فتح"، حين دخلت قوات الاحتلال فاضطررنا إلى النزول في قبر أغلقه علينا بشكل محكم أحد الإخوة المؤتمنين. وبينما نحن في القبر، سألت عطا: إذا أتى ملك الموت الآن كيف ستقنعه بأننا أحياء؟ قال مباشرة: "وحّد الله يا زلمة!" قلت: "لا إله الّا الله، لكن، حقاً، كيف ستقنعه؟" لم يكن لديه إجابة، فقلت: "أتدري كيف؟ لقد سمعت أن الميت يُسأل أولاً عن دَيْنِه، وأنا، يا عطا، لا دَيْنَ عليّ، أمّا أنت، فحدّث ولا حرج، كل ديون حركة (فتح) عليك، وملك الموت لديه الوقت الكافي حتى الصباح لاستكمال التحقيق معك!"
زبيدي (في مقدم الصورة) يعرض لائحة إسرائيلية لثوار مطاردين
بعيداً عن هذه المفارقات، قامت قوات الاحتلال بمحاولات عديدة لاغتيالي أو اعتقالي، وكان أبرزها العملية التي أطلقوا عليها اسم "عملية الجرذ الأسود". فقد كنا نستفيد للحفاظ على أنفسنا وأمننا من الإعلام الصهيوني، إذ كثيراً ما كنا نعرف مَن المطارد المطلوب اغتياله من خلال ما يدور في الإعلام، فقبل "عملية الجرذ الأسود" بفترة قصيرة، كان أحد الإعلاميين قد سألني عن مكان اختبائي، وعمّا إذا كنت أملك طاقية الإخفاء، فأجبت: لا أحد يعلم بمكاني سوى جرذ أسود كان يسامرني في الليل تحت الأرض. استمرت عملية التفتيش ثمانية أيام، وبعد انسحاب الصهيونيين، وفي مقابلة سأل خلالها المذيعُ المحللَ العسكري الصهيوني عن سبب العملية وسبب تسميتها، فردّ عليه مباشرة: إذا وصلنا إلى الجرذ الأسود فذلك يعني وصولنا إلى (ز. ز.). وقد برر هذا المحلل العسكري فشل عمليتهم المرتكزة على التكنولوجيا بقوله: إن هذا الولد (ز. ز.) له حظ ممتاز، فهو خلال ثمانية أيام لم يستخدم هاتفه المحمول، ولا حتى لكتابة رسالة!
وفي حادثة أُخرى، أعلن الإسرائيليون، من خلال تقرير إخباري على القناة العاشرة، أن الشارع الإسرائيلي يتداول "أوراق الشدَّة" المرسوم عليها صور ورموز المقاومة كالشهداء ياسر عرفات وأحمد ياسين وعلى صورهم إشارة (×)، أي أنه تم اغتيالهم، والإخوة (الراحل) رمضان شلّح وغيره من رموز المقاومة من دون إشارة (×)، أي أنهم على طريق الاغتيال. ولم يذكر التقرير مصدر هذه الأوراق، ولا كيف انتشرت في الشارع، كأنها سقطت من السماء إلى التاجر الإسرائيلي. وفيما يتعلق بي في أوراق الشدة هذه، فإن صورتي كانت على ورقة "2 ديناري". وعندما سمعت هذا التقرير الإخباري، أيقنت بأن ملف اغتيالي بات على الطاولة، وفعلاً، لم تمضِ ثلاثة أيام حتى دخلت قوات كبيرة من جيش الاحتلال مسبوقة بقوات خاصة من المستعربين، فحاصرت المنطقة التي كنت فيها داخل المخيم، لكني خرجت من هذا الحصار بأعجوبة. وقد أدى القدر دوره في ذلك، مع أنني، بحسب قناعاتي، لا أترك مكاناً للقدر في حالة المطاردة، لأن حسابات القدر هذه يجب أن تكون بعد استنفاد ما يتعين عليك فعله كله. فعلى سبيل المثال، عندما دخلوا لاغتيالي في العملية السابقة كان قراري الأول سريعاً جداً، وهو الخروج من المنزل فوراً، لأن خطة العدو كانت ترتكز على أن تقوم المجموعة الأولى وهم المستعربون، بتنفيذ مهمة حصار المنزل، ولذلك يترتب على المطارد إخلاء المكان المقصود حصاره قبل وصول التعزيزات العسكرية التي ستضعك أمام خيارات قليلة جداً، بل ربما ستضعك أمام خيار واحد هو الاشتباك الذي له نتيجة واحدة وهي الاستشهاد المؤكد أو تسليم نفسك.
خلال الفترة اللاحقة لعملية "أوراق الشدة"، دخلت قوات عسكرية كبيرة إلى محافظة جنين، وتمركزت في أحيائها كلها، لكنها لم تستهدف مطارداً واحداً من المعروفين، وإنما شنّت عملية اعتقال واسعة تجاوزت خمسة وأربعين شخصاً تبيّن لنا أنهم من المناضلين العاملين في مجال الدعم اللوجستي للمطاردين ولي شخصياً. وهنا عرفت أننا، نحن المطاردين، أخطأنا خطأ كبيراً، ونتحمل مسؤولية كبيرة في اعتقالهم، لأن علاقتنا بهم كانت من خلال التواصل الإلكتروني حين نضطر إلى ذلك، وهو ما مكّن العدو من رصد المكالمات والتعرف إلى هؤلاء المناضلين الذين دانتهم محاكم الاحتلال بتهمة واحدة هي مساعدة المطاردين. وقد أطلقوا على هذه العملية اسم "لمّ القمامة"، الأمر الذي استفز أحد الإخوة الذي قال لي: أتدري أنني مستعد لأكون على قوائم التصفية، ولا أقبل أن أكون في قوائم "لمّ القمامة"!
بعد هذه العملية بعدة أشهر، طاردني قناص محاولاً قتلي، فأصابت الرصاصة شخصاً كان إلى جانبي، واستقرت الرصاصة الثانية بين قدمَي. وبعدها بخمسة عشر يوماً، أصابني قناص في كتفي في محاولة ثانية، وبعد شهر ونصف شهر أصابني قناص في ظهري. كنت أشعر بأن الوقت يمضي مسرعاً، وأن اللقاء بيني وبين ملك الموت صار قريباً، ففي الأمثال عندنا يقولون: "الثالثة تالفة" و"الرابعة قابعة"، ويبدو أن هذا القناص يريد أن "يتلفني" أو"يقبعني"، فلجأت إلى شخص حكيم وذي عقل راجح، وشرحت له حجم الاستهداف ومحاولة هذا القناص اغتيالي، وطلبت نصيحته، فقال: القناص لا يخاف إلّا من قناص مثله، فعليك أن توصل إليه رسالة بصفتك قناصاً وليس مطارداً. سألته: وكيف أوصل هذه الرسالة؟ فقال: عليك أن تجري مقابلة مع الصحافة الإسرائيلية. وفعلاً، انتظرت أول فرصة لمقابلة صحافية، وأخبرت المراسل الإسرائيلي أنني أنتظر القناص على أحر من الجمر، وكنت قد وضعت علبة كولا على مسافة أمام الكاميرا، وصوبت بندقيتي في اتجاهها وأصبتها بعيار ناري مباشرة، وقلت للمراسل الصحافي سيلقى قلب القناص رصاصة كالتي أصابت هذه العلبة. بعد هذا الكلام اختفى هذا القناص وتوقف عن لعبة الموت معي.
وفي مساء أحد الأيام، وكنت مختفياً عن الأنظار أكثر من ثلاثة أشهر، وبينما كنت أتابع نشرة الأخبار على القناة الإسرائيلية الأولى، إذا بتقرير يتحدث عن عمليات اغتيالي الفاشلة خلال الأعوام السابقة، وفيه يعرض المحلل العسكري سيناريواً مبرمجاً تكنولوجياً كأنه فيلم قصير، هو عبارة عن مجموعة من المكعبات مبنية على شكل هرم، وكان رأس الهرم مكعباً يحمل صورتي. صُوّبت بندقية على الجهة اليمنى من الهرم، وأُطلقت ثلاث رصاصات، فتحرك الهرم ثلاث لفات حاملاً صورتي على رأسه من دون أن تسقط الصورة. ثم تكرر إطلاق الرصاص على أطراف الهرم ليدور عدة دورات، مرة أُخرى، من دون أن يسقط المكعب الذي يحمل صورتي. بعد ذلك، صُوّبت البندقية على المكعب الثاني أسفل صورتي مباشرة، وأُطلقت رصاصة واحدة، فسقط المكعب الذي يحمل صورتي إلى أسفل الهرم... أدركت حينها أنهم يحضرون لاغتيال نائبي (ش. م.). خرجت من مخبئي مسرعاً إليه، وأخبرته أن قوات الاحتلال سيقومون باغتياله، وأن عليه أن يتوخى الحذر ويختفي هذه الفترة، لكنه للأسف لم يأخذ الأمر على محمل الجد، فلم يمر سوى يوم ونصف يوم حتى اغتالوه مع شخصين كانا برفقته.
وفي بيت العزاء كان لا بد من أداء الواجب. ولأنني أعلم أن العدو لا يتورع عن استهداف المكان العام المكتظ بالناس، كنت أقوم دوماً بواجب العزاء على وجه السرعة وأغادر، إلّا إن هذه المرة كان لا بد من بقائي فترة أطول إذ علمت أن الأجهزة الأمنية ستأتي لتقدم واجب العزاء. ولأنه كان هناك إشكالات بين الأجهزة الأمنية والمخيم، فقد آثرت الانتظار حتى يأتوا ويخرجوا بأمان. وفي أثناء ذلك، اقتحمت المكان فجأة سيارة القوات الخاصة الصهيونية، وفتحت النار على الجميع مستهدفة مكان وجودي بوابل غزير من الرصاص، فأصيب الشخص الذي كان على يميني مباشرة. وعلى الفور أخذت الأرض، تاركاً عينيّ مفتوحتين على الجندي المكلف بالزاوية التي كنت فيها. نظرت إلى يميني لأجد مخرجاً، فرأيت الشخص الذي بقربي مصاباً بثلاث طلقات، فنظرت مجدداً إلى الجندي الذي كان يطلق النار على الواقفين في زاويتي، وأدركت حينها أنه لا مخرج لي سوى النهوض في لحظة استبدال الجندي مخزن الذخيرة. وفي هذه الأثناء، صار الجندي على بعد أقل من نصف متر، حينها، أدركت أنني إذا نهضت للانسحاب فلن أنجح، لأنني كنت بحاجة إلى خمس ثوان من لحظة استبدال مخزن الذخيرة، لكن الآن وقد اقترب مني أكثر، وبات على بعد نصف متر، فقد صرت بحاجة إلى أكثر من خمس ثوانٍ، فكيف أحصل على هذا الوقت؟ ومن دون تردد، قررت أن أضربه على صدره لأكسب الوقت اللازم وأنسحب. وفعلاً فاجأته بنهوضي ثم ضربته بكلتا يدَيّ على صدره، وانسحبت من المنطقة. لقد أسفرت هذه الجريمة الصهيونية عن استشهاد أربعة أشخاص وإصابة 37 آخرين.
ومع أن بعض علماء النفس يقول إن الخروج من المربع ربما يكون حلاً ملائماً، إلّا إن ما حدث معي، ومن خلال تجربتي، يفيد بغير ذلك. فقد خرجت من المربع عدة مرات، الأمر الذي عرّضني بعد أعوام طويلة لمحاولة اغتيال في واد برقين كادت تكون محققة آنذاك، لأن الإحباط والتراخي والاستهتار بالوضع الأمني كانت قد أصابتني، وبتّ كأنني مللت من هذه المطاردة ومحاولات الاغتيال المتكررة، فقلت في نفسي مثلما قال جسّاس ذات يوم: "افعلها وخلصنا!" بالعودة إلى تلك العملية، فذات ليلة كان الجو شديد البرودة والمطر، وأنا داخل المخيم، فخرجت لأقف تحت مظلة أحد أبواب البيوت وكان قد سبقني إليها قط أسود. وقفت إلى جانبه ولم يتزحزح من مكانه، كأنه يقول لي أنا قبلك هنا، فإذا كان لأحدنا أن ينصرف فهو أنت. لا أدري كيف أخذتني قدماي إلى واد برقين، وهو أحد الأحياء القريبة من المخيم، حيث استخدمت جهازي الخلوي لاستقبال مكالمة أخبرني خلالها أحد الإخوة عن المكان الذي يوجد فيه إخوتي المقاتلون، وكان استخدامي للهاتف خطأ قاتلاً. ربما كانت شدة البرد والضغوط النفسية هي سبب وقوعي في هذا الخطأ، إذ ومن دون تفكير، وبلا احتياطات أمنية، ذهبت إلى المكان، وكانت الساعة تقارب الثانية عشرة عند منتصف الليل حين وصلت إلى البيت، فخلعت معطفي وحذائي، وأغلقت الهاتف واستلقيت على الأريكة جثة هامدة. وفي تمام الساعة الثانية صباحاً، رن هاتف أحد الإخوة النائمين، فقمت بالرد على المكالمة فإذا بالمتحدث يقول إن مجموعة من الآليات العسكرية متجهة إلى واد برقين. تلقيت الخبر وكان الأدرينالين قد صعد إلى الدماغ مباشرة، وبدأت خلايا الدماغ ترسم سيناريوهات متعددة بعد أن أدركت أن البيت محاصر، لأن الآليات القادمة هي للمساندة وليست للاقتحام. ألقيت نظرة من طرف الشباك المحاذي لبوابة المنزل الرئيسية، فإذا بثلاثة جنود يقفون في ساحة البيت، وبتفكير سريع قررت الخروج من باب المنزل مباشرة على الجنود الثلاثة، متسلحاً بعنصرَي المفاجأة والإرباك لأن خروجي من الباب الرئيسي لم يكن متوقعاً قط، ذلك بأن العلوم العسكرية تفيد بأن الحصار يأخذ شكل حرف U للحفاظ على حياة الجنود، فالباب الرئيسي هو فتحة U الوحيدة، وهم لن يكونوا قبالة الفتحة مباشرة، بل على أطرافها، ولذلك، فإن جهوزيتهم تكون ضعيفة. فكرت في ذلك خلال ثوانٍ معدودات، ثم نفّذت قراري وفتحت البوابة وقفزت على الجنود الثلاثة محدثاً لهم إرباكاً شديداً. تخلل الاشتباك بعض اللكمات والركلات مصحوباً بالصراخ والشتائم، وفي الوقت نفسه، التفتّ إلى الزاوية التي أنوي الانسحاب منها، لكن للأسف كانت الخيار الخطأ نسبياً، لأنني عندما ركضت في اتجاه تلك الزاوية، تفاجأت بقناص خلف شبابيك البيت، لأنهم كانوا يتوقعون خروجي من الشباك. وبينما كنت أحاول القفز عن سور المنزل، أطلق ذاك القناص عليّ رصاصتين أصابتا ظهري، فرددت على النار بالمثل، محاولاً إرباكه، لكنه لم يستسلم، ورفع رأسه وأطلق رصاصتين أُخريين فأصابني بيدي اليسرى. صرخت عليه موهماً إياه بأنني في حالة هجوم، لأستغل الفرصة وأقفز عن السور، وفعلاً، قفزت بسرعة وركضت في اتجاه المخيم، والمسافة بين المخيم وواد برقين تقارب الألف متر. في منتصف الطريق، لم أعد قادراً على الركض بسبب النزيف في أكثر من مكان في جسمي، وبينما كنت أحاول اجتياز سور مقبرة الشهداء في المخيم، سقطت مغمى عليّ. وقرابة الساعة الثامنة صباحاً، وبعد مرور أكثر من ست ساعات، استيقظت على كثافة المطر المتساقط على وجهي، فاعتقدت في البداية أنه ماء يسكبه أحد الأشخاص ليوقظني من الغيبوبة. حاولت أن أستعيد قوتي للنهوض، فقد كنت مدركاً أنني مصاب في ظهري ويدي، وصرت واعياً لتفصيلات ما حدث كله في الساعات الماضية، إلّا إني في الوقت ذاته كنت أشعر بالدهشة، فدائماً وفي كل محاولة اغتيال، كنت أرى الموت وأشعر به، وأحياناً تجري المفاوضات بيني وبين ملك الموت، لكن في محاولة الاغتيال هذه، وعلى الرغم من أنها الأشد والأقوى والأقسى والأصعب، وعلى الرغم من وجودي الآن في المقبرة، فإن الموت لم يخطر لي ببال، ولم أرَ ملك الموت في هذه المقبرة قط. نظرت إلى البيت الملاصق للمقبرة، وإذا بعجوز تنشر غسيلها على شرفة البيت، فانتظرت حتى دخلت، وأخذت وشاحاً عن المنشر ضمدت به جروحي.
نظرت إلى المخيم، ووجدت أن المسافة التي تفصلني عنه تقارب 300 متر، فصعدت على السور، وإذا بآليات عسكرية رابضة خلفه مباشرة. اتكأت على هذا السور الفاصل بيني وبين هذه الآليات، وقلت في نفسي: هذا المكان قرب الدبابة هو الأكثر أمناً. أصابتني نوبة من الضحك كلما كان الاشتباك مع مقاتلي المخيم يشتد وأنا خلف السور، إذ كنت أسمع حديثهم الذي كان بلغتهم العسكرية، وقد سمعتهم يتحدثون في اللاسلكي عن انتهاء العملية، ثم سمعتهم وهم يَعدّون مقاتليهم، وعندما خلصوا إلى كلمة "مسبار نخون"، أي "العدد صحيح"، أدركت أنهم سينسحبون بعد عدة دقائق.
وفعلاً، انسحبت الآليات العسكرية بعد أربع أو خمس دقائق، ثم تفاجأت بأحد الجيران في المنطقة يركض في اتجاهي حاملاً بيده كيساً أسود مليئاً بالإسعافات الأولية وهو يقول لي: كنت أراقبك الليل كله، هات أضمد جراحك. سألته: هل معك سجائر؟ ودَعْك من جروحي الآن. قال: معي دخان عربي. قلت، ضاحكاً: هات يا زلمة، وهل هناك ما هو أحلى من العرب، فما بالك بدخانهم؟ فكانت ألذ سيجارة استمتعت بها في حياتي!
بعد عدة محاولات فاشلة قام بها العدو الصهيوني، كنت أعلم أن العدو لا يَكِنّ ولا يلين، وسيظل يبحث باستمرار عن أساليب وطرق جديدة للوصول إلى المطارد. وكانت عملية "دموع التنين" مفاجئة وبعيدة كلياً عن الروتين المعروف لي، إذ إنها كانت متعددة الأهداف، أي جمعت أكثر من مطارد في آن واحد، واستهدفتني العملية كما استهدفت ثلاثة مطاردين آخرين في المخيم. كانت عملية مختلفة بجميع المعايير، وكانت ساعة الصفر مختلفة، فتوقيت الهجوم كان مع ساعات المغرب، حين يكون المخيم مكتظاً بأهله. فانقسمت القوة الصهيونية المقتحمة إلى خمس مجموعات، أربع مجموعات تستهدف المطاردين واحداً واحداً، ومجموعة من القناصين انتشرت على العديد من المحاور المطلة على الشوارع الرئيسية والفرعية، من خلال اعتلائها المنازل المرتفعة والمطلة، لأن الهدف، أي المطارد، متحرك. حينها أدركت أن عليّ أن أهدّىء من التوتر الناتج من اعتماد العدو في هذه العملية على عنصر المفاجأة، كأنه يقول لنا اخرجوا إلى الشوارع، وذلك من خلال استخدامهم مكبرات الصوت في جميع المناطق أو المحاور: "اطلع من البيت، البيت محاصر!" استطعت تحديد المحاور الأربعة المحاصرة، وكان القرار هو الخروج من المربع الذي كنت موجوداً فيه وعدم الدخول في مربع آخر محاصر، وفعلاً، وبطريقة لا أستطيع شرحها، خرجت من المربع وانتهت العملية. وبعد انسحابهم وجدنا الملف السري للعملية ملقى على الأرض في أحد أزقة المخيم.
زبيدي يعرض خريطة عسكرية إسرائيلية للمخيم
التنين والناس
ذكرت سابقاً المطاردة الفلسطينية وحاضناتها، وأن طبيعة المطاردة بصورة عامة، وظروف المكان، تشكل حالة المطارد، وهي تملك جوانبها السلبية والإيجابية، وذلك من خلال الأمن والخطر، والراحة والمشقة، والحركة والسكون، وطبيعة المجتمع، والإمكانات المتاحة، ووسائل الحياة اليومية، والتعقيدات التي يواجهها المطارد، والإخفاقات في أحيان عدة، وعواقبها. وللبدء من حيث انتهيت، فإن الإخفاقات ليست دائماً نتيجة الخوف وقلة الخبرة في المجال الأمني بصورة عامة، بل قد يعود السبب إلى الشجاعة المفرطة التي تصبح نقمة بعد أن كانت نعمة، وهي صفة يتحلى بها المطارد، لأن من سمات المطارد العناد والإصرار والمغامرة والتمرد التي تقوده إلى الوقوع في الخطأ، وتكون سبباً في نهاية لا تُحمد عقباها: الاستشهاد أو الأسر. ولنجمل القول بأن الخطأ الأول في المطاردة هو الخطأ الأخير. أمّا الحاضنات الشعبية للمطارد الفلسطيني، فتعتمد بشكل مركزي على ثلاث مناطق بحسب طبيعة المنطقة: المدينة، والقرية، والمخيم. لقد كانت المدينة، خلال أعوام الانتفاضة الأولى في سنة 1987، خطرة جداً، لأن العدو الصهيوني كان له مراكز أمنية وتجمعات في داخلها، كما أن المطارد لا يستطيع التنقل والحركة والظهور والصمود في داخلها لوقت طويل، فالدوريات تجوب شوارعها على مدار الساعة، فضلاً عن نقاط التمركز الفرعية الثابتة، وسهولة وصول التعزيزات، الأمر الذي يصعّب على المطارد الوجود داخل المدينة. أمّا في انتفاضة الأقصى في سنة 2000، فكان وضع المدينة مختلفاً، إذ لم يكن يوجد مراكز للعدو الصهيوني، وإنما توجد قوات الأمن الفلسطيني التي كان لها، في حينه، مساهمة كبيرة في إيجاد حاضنة آمنة نسبياً. وهناك أيضاً التعداد السكاني وحركة التنقل والاختفاء، ووجود وسائل الراحة، من حيث العلاج السريع في حال وقوع إصابات، وجميع ما يحتاج إليه المطارد على المستوى الشخصي، أو ما يحتاج إليه من أدوات تخدمه في العمل العسكري، هذا إلى جانب النسيج الاجتماعي داخل المدينة المتباعدة والبعيدة عن القبلية، وهي أشياء تساهم في مرونة الحركة. ففي المدينة يستطيع المطارد استخدام التكنولوجيا، بشكل محدود، أكثر من أي مكان آخر، لأن مساحة المدينة كبيرة تسمح له بإجراء مكالمات والانتقال من منطقة إلى أُخرى بعد كل عملية اتصال، علاوة على قلة مستوى الفضول لدى أهل المدينة إذا ما قورن بفضول أهل القرى.
أمّا القرية التي تُعتبر بطبيعتها السكانية والجغرافية، وبدلالتها، حاضنة شعبية إيجابيه بعض الشيء، فيواجه فيها المطارد صعوبة كبيرة، وذلك بسبب الطبيعة الجغرافية التي تشكل فيها استقلالية البيوت الريفية المتباعدة، صعوبة أمام حركة المطاردين، مع أن التضاريس الجبلية والزراعية تشكل ملاذاً للمطارد، لكنها ليست آمنة لأن استراتيجيا العدو الصهيوني عملت على اصطياد المطاردين بين القرى، ولذلك تصبح الحركة شبه مستحيلة للمطارد ما دام لا يمتلك ما يحجبه كي لا يكون هدفاً سهلاً للعدو.
وفي القرية نظام اجتماعي يُحفّز الفضول لدى الأهالي والسكان الذين تربطهم علاقات اجتماعية عائلية تأخذ الطابع العشائري، إذ في مجمل القرى لا يتجاوز عدد الحمائل 3 - 10، وهم بطبيعتهم الريفية مقسّمون جغرافياً نسبة إلى علاقات القربى عائلياً، ويعرف بعضهم البعض، ويتملكهم الفضول عندما يدخل غريب إلى قريتهم أو يخرج منها، الأمر الذي يصعّب على المطارد ضبط عملية الاختفاء داخل القرية، أو الحركة من دون معرفة أهل القرية. لذلك، تركزت عملية المطاردة في القرية في المناطق الجبلية، علماً بأن الحياة في الجبل صعبة وشاقة جداً، بسبب عدم توفر أدنى حاجات المطارد، وأهمها العلاج في حالة المرض أو الإصابة. وهناك خطورة متلازمة وهي عملية التواصل، إذ إن المطارد لا يستطيع استخدام التكنولوجيا، وإنما يعتمد على العنصر البشري في التواصل المباشر. ومثلما ذكرت سابقاً، فإن البنية الاجتماعية للقرى تجعل من السهل على العدو الصهيوني تحديد الدوائر الأولى للمطارد والوصول إليه من خلال المتابعة عبر العملاء، فضلاً عن أنه يتعين على المطارد في الريف أن يكون ملمّاً بطبيعة القبيلة والجبل والوادي.
أمّا المخيم، فإن ظروفه تشكّل بعض الإيجابيات بالنسبة إلى المطارد، وهو أمر ظهر بصورة خاصة في انتفاضة سنة 2000. فطبيعة المخيم الديموغرافية تشكل حاضنة حامية للمطارد، لأن سكان المخيم هم من عدة عائلات، وتتشكل لديهم حالة من الوحدة في حال حدوث أي خطر جرّاء ما مروا به من معاناة في رحلة العذاب واللجوء منذ سنة 1948. وللإنسان داخل المخيم خاصية أُخرى، فهو ليس لديه ما يخسره، لأن أي خسارة لا تعني له شيئاً مقارنة بما فقده في سنة 1948. والمطارد يشعر بالأمان، كذلك، بسبب الطبيعة العمرانية، وكثرة الأزقة والبيوت المتلاصقة التي تساعد في التنقل السريع عبر أسطح المنازل، الأمر الذي يسهّل عملية الكر والفر للمطارد. وحتى على المستوى التكنولوجي، فإن العدو الصهيوني يواجه صعوبة في استخدام طائرات من دون طيار (أي طائرات الاستطلاع "الدرونز")، ذلك بأن المنازل المتلاصقة تحجب الرؤية التي يكون مداها محدوداً، وهذا، بطبيعة الحال، يشكل خطراً كبيراً على القوة الصهيونية الموجودة داخل المخيم، لأن من المعروف أن عمليات الاغتيال والانسحاب يجب أن تكون بتنسيق بين السماء والأرض لديهم... ولدينا كذلك.
* هذه الشهادة هي مقطع من رسالة ماجستير أعدّها الأسير زكريا زبيدي بعنوان "الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الوطنية الفلسطينية من 1968-2018"، وذلك ضمن برنامج الدراسات العربية المعاصرة في جامعة بيرزيت، وهي شهادة تسلط الضوء على مكانة الأسير البطولية. لكن الأسير زبيدي اعتُقل في 28 شباط / فبراير2019، قبل إتمامها، ولا يزال في قيد الأسر من دون محاكمة، ومن المتوقع أن يناقش رسالته، من خلف القضبان، في شتاء سنة 2021.