فلسطين تحت فلسطين
النص الكامل: 

أين نعثر على فلسطين في وسط هذا الركام السياسي؟ الجواب عن هذا السؤال بديهي وصعب في آنٍ معاً.

بديهي، لأن الجواب متضمن في السؤال نفسه، ففلسطين تقع في فلسطين؛ إنها خاصرة المتوسط ومركز المشرق العربي، وهي بلاد ككل بلاد العالم، لا تتزحزح من مكانها، سرّتها القدس، ووجهها مرسوم على موج البحر الأبيض، تغسل يديها ببحر الجليل، وتتهادى على صفحات البحر الميت.

فلسطين حيث هي، وشعبها منقسم إلى نصفين: نصفه في المنافي التي صنعتها النكبة، ونصفه الآخر باقٍ في أرضه.

وصعب، لأن البديهيات صارت اليوم في حاجة إلى مَن يبرهن على وجودها. فالغزوة الصهيونية حاولت أن تدفن جزءاً من فلسطين تحت إسرائيل، فجرفَت القرى وغيرت ملامح المدن، بحيث صدّق الإسرائيليون كذبتهم وحوّلوها إلى حقيقة اعترف بها العالم كتعويض عن الإبادة التي ارتكبها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية في حقّ اليهود، وكجزء من المشروع الكولونيالي الذي رأى في الدولة العبرية قاعدة عسكرية في مواجهة شعوب المنطقة.

وإلى جانب فلسطين القابعة تحت إسرائيل، هناك فلسطين التي استكملت إسرائيل احتلالها في سنة 1967، وحولتها إلى معازل وسط جزر من المستعمرات التي تلتهم أرضها، كما تضم أكبر غيتو أو معسكر اعتقال في الهواء الطلق اسمه قطاع غزة.

بين فلسطين التي تقع تحت إسرائيل وفلسطين المحاصرة بالمستعمرات، وُلدت سلطة فلسطينية قالت أنها ستؤسس دولة. لكن معادلة تأسيس الدولة اتخذت شكلاً هجيناً، فالدولة تتلاشى والسلطة تزداد قوة واستبداداً. السلطة أو سُلْطتا الأمر الواقع في رام الله وغزة صارتا بديلاً من الدولة، ونقيضاً لمشروع التحرر الوطني.

الاسم الضائع في معادلة السلطة هو الشعب الفلسطيني. فهو صار يُعامَل كالعبيد، بينما تصدى لمهمات "القيادة" جهاز سلطوي أمني متحالف مع رأسمالية رثة متعاونة مع الاحتلال، والطرفان شريكان في كل شيء.

الشعب الفلسطيني هو الاسم الضائع في معادلة هذا الانحطاط العربي الذي صارت فلسطين جزءاً منه.

ولعل ذروة الانحطاط تكمن في التدمير المنهجي لمخيمات اللاجئين من تل الزعتر إلى نهر البارد وصولاً إلى مخيم اليرموك، وفي التهميش المتعاظم لدور فلسطينيي المنفى، بحيث صاروا في عُرف القوى المسيطرة أشبه بالمغتربين.

سؤالنا أين تقع فلسطين، الذي يبدو للوهلة الأولى بديهياً، صار في حاجة إلى بلورة جواب قائم على إعادة بناء المعنى في زمن انهيار المعاني.

الفلسطينيون موجودون في هذه الأماكن كلها، لكن صوتهم بات مختنقاً، ليس لأن نضالهم ليس عادلاً، أو لأن وجودهم معلق بين الحضور والغياب، بل لأن القوى المسيطرة على المعادلة، أي إسرائيل وأميركا ومعهما الآلة السلطوية العربية، تعمل على خنق هذا الصوت، بالقمع تارة، وبالرشوة تارة أُخرى.

لكن المصادفة الحتمية أتت لتكشف الحقيقة من حيث لا يتوقعها أحد. ففي أواسط آب / أغسطس اندلعت حرائق كبرى في جبال القدس التي غطاها الإسرائيليون ببساط أخضر من أشجار السرو والصنوبر. وكان هدف زراعة الغابات تحقيق ثلاثة أهداف: الأول، تغطية جرائم التطهير العرقي التي جرت خلال نكبة 1948، عبر حجب دمار القرى الفلسطينية التي جُرفت؛ الثاني، تأسيس تاريخ بديل ومزور للمكان، بحيث تكون إسرائيل قد حولت الصحراء إلى غابات، وبذا تعطي الإسرائيليين شعوراً بأنهم يستعيدون تاريخاً أُسطورياً بدلاً من تاريخ المكان؛ الثالث، هو إضفاء شكل أوروبي على مكان مشرقي، كي لا يشعر المستعمرون الأوروبيون بأنهم غرباء عن المكان.

اعتقد رواد الحركة الصهيونية أنهم حققوا أهدافهم من خلال هذا الغطاء الأخضر، لكن المكان يمتلك منطقاً آخر، فما إن أُطفئت النيران حتى ظهرت الفضيحة. فَتَحْتَ إسرائيل تقع فلسطين بمصاطبها الزراعية، وعطر زيتونها، وأطلال قراها.

هذه الحقيقة أشار إليها نص قصصي إسرائيلي كتبه أ. ب. يهوشع في سنة 1963 بعنوان "إزاء الغابات"، كشف من خلال حكاية حريق يندلع في إحدى الغابات، عن وجود قرية فلسطينية مطمورة تحت الغابة. لكن الكاتب الإسرائيلي الذي كان مشغوفاً بتملّك المكان، لم ينتبه إلى دلالة اكتشافه بالنسبة إلى الخادم الفلسطيني الأخرس وابنته. الفلسطيني الذي لا يملك اسماً، منعه قطع لسانه من الإشارة إلى اسم قريته، أمّا الحارس الإسرائيلي فكان مهتماً بخريطة الغابة التي احترقت أطرافها، كأنه يشير إلى أن تملّك المكان يحتاج إلى النار والعنف.

اللافت في هذه القصة الرائدة في الأدب الإسرائيلي هو أنها شاركت في تأسيس ترسيمة الفلسطيني الأخرس، العاجز عن الكلام، والتي سيكررها عاموس عوز في روايته "ميخائيلي" (1968)، وستصبح لازمة في الأدب الإسرائيلي.

إسرائيل قائمة على افتراض أساسي تدرّج من الفلسطيني الذي لا وجود له إلى الفلسطيني الأخرس. وهو ليس افتراضاً، بل نتيجة مسار سياسي وعسكري لم يتوقف، وكان مؤشراً إلى النكبة الفلسطينية المستمرة منذ سبعة عقود.

لكن ماذا لو لم يكن الفلسطيني أخرس؟

ماذا لو تكلمت الضحية وقدمت حكايتها؟

فكرة أن يحكي الفلسطينيون تؤرق المؤسسة الإسرائيلية برمّتها، فالصوت الفلسطيني يجب ألّا يكون، وإذا ارتفع فيجب أن تُلصق به صفة الإرهاب. ففكرة "العربي الطيب" التي نجدها في الأدبيات السياسية الإسرائيلية لا تصحّ إلّا على العملاء، أمّا الصوت الفلسطيني فيجب خنقه، لذلك اغتيل كمال ناصر وغسان كنفاني، ولذلك أيضاً قامت حملة على محمود درويش لا تزال تتجدد بصفته إرهابياً، ولذلك أيضاً وأيضاً زجّت إسرائيل في سجونها نخبة أدباء وشعراء داخل الداخل.

البساط الأخضر يترافق مع الفلسطيني الأخرس العاجز عن رواية حكايته، وحين يرويها لن يجد مَن يستمع إليه، أو يصدّقه. فليس مؤكداً أن أبطال رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" ماتوا مختنقين في خزان مياه الشاحنة التي هرّبتهم إلى الكويت من دون أن يقرعوا جدار الخزان مثلما ادّعى أبو الخيزران.

ماذا لو قرعوا، هل كان هناك مَن سيسمعهم ويهرع إلى إنقاذهم؟

الفلسطيني يجب أن يكون أخرس، أو يجب أن يكون محاطاً بعالم أطرش. هذه هي المعادلة الإسرائيلية التي فُرضت على الفلسطينيين.

المشكلة ليست في النيات الإسرائيلية، فالاستعمار الاستيطاني لا يكتفي بتزوير تاريخ الأرض، بل يسعى أيضاً لمنع الضحية من تملّك حكايتها.

وهنا يقع خطأ اتفاق أوسلو الجوهري، والذي يكمن في تخلّي الفلسطينيين عن روايتهم في مقابل شيء معادل للعدم. ما معنى أن تعترف إسرائيل بمنظمة التحرير في الوقت الذي ترفض الاعتراف بحقّ الفلسطينيين في تقرير المصير على أرضهم؟ وما معنى التخلي عن الكفاح المسلح في ظل احتلال عسكري إسرائيلي وتوسع استيطاني كولونيالي بلا حدود، وبقاء مئات المناضلين أسرى في سجون الاحتلال؟

الكارثة التي حاولت قيادة المنظمة تصحيحها في الانتفاضة الثانية، تحولت مع هزيمة الانتفاضة واستشهاد قائدها ياسر عرفات، إلى مسار استسلامي تخلى عن جميع القيم والمعاني بهدف التمسّك بسلطة لا سلطة لها.

وزاد في البلبلة هذا الانقسام المدمّر الذي قسّم فلسطين المحتلة إلى ما يشبه الدولتين، وأغرقها في خيار بائس، بين الأصولية والاستسلام.

غير أن الاسم الفلسطيني الذي طُرد من المتن إلى الهامش، حوّل الهامش إلى متن يتأسس جديداً ومليئاً بالاحتمالات.

من انتفاضة السكاكين، إلى شهادة باسل الأعرج، ومن الاعتداءات الوحشية على غزة ومقاومتها البطولية، إلى هبّات القدس التي وصلت إلى ذروتها في باب العمود والشيخ جرّاح، هناك يتشكّل هامش هو المتن الذي يعيد صوغ فكرة فلسطين في الصمود والبقاء والمقاومة.

أشار عبد الرحيم الشيخ، في تقديمه لندوة الأسرى التي تشكل العمود الفقري لهذا العدد إلى ما أطلق عليه اسم "الجغرافيا السادسة"، التي تتمثل في أسرى الحرية في السجون الإسرائيلية، وهي جزء من الأبعاد الجغرافية الفلسطينية التي تتألف من القدس وقطاع غزة والضفة الغربية وفلسطين 48 والشتات.

ومع أنني أتبنّى هذا التقسيم الجغرافي لدقّته وواقعيته، إلّا إن قراءتي لهذه المواد المثيرة والمدهشة التي قالها وكتبها الأسرى، أخذتني إلى اقتراح تصنيف آخر يُكمل هذا التقسيم الأفقي بتقسيم عمودي، فأرى فلسطين في بُعدين: فلسطين التي فوق، وفلسطين التي تحت.

تحت إسرائيل تقع فلسطين، هذا ما يقوله الاحتلال، لكن تحت فلسطين الظاهرة هناك فلسطين الأعماق، وهذه الفلسطين المحجوبة تشق طريقها إلى السطح من خلال المقاومين الذين يتصدّون كل يوم لهجمات المستوطنين العنصريين، ويدافعون عن بيوتهم وحقولهم وأشجارهم، ويتهجأون لغة جديدة تقطع مع اللغة السلطوية السائدة ومع ممارساتها.

وإلى جانب هؤلاء المقاومات والمقاومين تعيش فلسطين أُخرى مغيبة في السجون. فالأسرى يحملون على أكتافهم المثقلة بالتعب والقمع والتعذيب أعباء الوطن كله. إنهم الشهود / الشهداء الذين يرسمون في نضالهم اليومي الصامت، أبجدية اللغة، ويعبّرون عن فكرة فلسطين في صورتها الحقيقية والمشتهاة.

هذا العدد كتبه الأسرى بمداد الحرية. استمعوا إليهم، فكلامهم عيون الكلام، ورؤيتهم خالية من أي مصلحة خاصة أو ارتهان. ففي أعماق كل إنسان يعيش في فلسطين أو معها، هناك صوت تجسده الأسيرات والأسرى. صوتهم هو صوتنا المبحوح الذي كاد اليأس يبتلعه.

في السجن الإسرائيلي لا مكان لليأس، فالأسرى يصنعون الحياة من ركام الحياة، ويعيدون صوغ بلادهم من خلال ضوء شاحب يمر عبر حديد الزنزانة، ويتطلعون إلى أفق يتجاوز هذا الانحطاط الذي سادت فيه لغة الهزيمة، وامتطاه الانتهازيون.

في هذا العدد لا تتكلم الأسيرات والأسرى عن معاناتهم فقط، وعذابات العزلة في "زمنهم الموازي"، بحسب تعبير الأسير والكاتب وليد دقّة، بل يُطلّون من زمنهم هذا على الزمن الفلسطيني، ويقدمون نقداً موضوعياً وعميقاً للواقع، يصلح لأن يكون دليلاً ومنهاج عمل في مسار تأسيس اللغة النضالية الجديدة التي لا تزال في طور التبلور.

ندخل معهم إلى السجون لنكتشف أن هناك في فلسطين التي تقع تحت فلسطين وطناً آخر يولد وسط المؤبدات، ولا يبالي بالقمع، أكان إسرائيلياً أم وطنياً، ونستمع في أصوات أسراه إلى أصوات جيل النكبة الجديد الذي يحمل قبس الضوء ويزيح الخيول الهرمة من طريقه.

ماذا تقول الأسيرات والأسرى؟

يصرخون بصوت الصبر والألم طالبين منّا أن نفتح طريق العبور إلى مقاومة جديدة تشبه نفسها، وتعلم أن طريق الحرية طويل، لكنه الطريق الوحيد كي نحتفي بالحياة ولا نبددها.

 

شكر وتقدير

لم يكن صدور هذا العدد ممكناً لولا المجهود الكبير الذي بذلته مجموعة من الأسيرات والأسرى الفلسطينيين، من أجل صوغ هذه الشهادات النادرة.

والعدد مدين بشكل خاص لعبد الرحيم الشيخ، الشاعر والباحث والأكاديمي، الذي أعدّ أغلب محتوياته وأطّرها، وبذل مجهوداً خارقاً كي يسمح لنا بالصدور في الموعد المحدد، على الرغم من الصعوبات التي تواجهها أسرة التحرير، جرّاء الظرف المأسوي الذي تمر به بيروت.

أدى عبد الرحيم الشيخ في هذا العدد دور رئيس تحرير زائر، وهذا يشرّف مجلتنا، ويشير إلى أن مسارها مستمر، وأن قضيتها هي قضية الثقافة الفلسطينية والعربية.