الفعل الاستعماري الإسرائيلي على الأرض ينسجم مع المخططات والبرامج التي يعدّها خبراء ودوائر اختصاص. وعندما لا يتم الإفصاح الكامل والواضح عن المخططات تتقدم الممارسة وتبدو سابقة للمشاريع. على سبيل المثال كانت البنود الأساسية في "صفقة القرن" وقت إعلانها شبه منجزة على الأرض ولا ينقصها غير الترسيم. فالوقائع الاستيطانية المترافقة مع بنية تحتية تدمجها بإسرائيل، والسيطرة العسكرية والأمنية عبر جدار الفصل العنصري والحواجز والمعابر والبوابات الإلكترونية متوفرة وفائضة عن حاجة المستعمرين، وتغيير معالم المكان لجهة التهويد والأسرلة، وخصوصاً في مدينة القدس، كانت تجري بمعدلات متسارعة طوال الوقت. وفي الجهة الأُخرى تم وضع اليد على الموارد الفلسطينية والتحكم في استخدامها، وفصل المناطق الفلسطينية عن بعضها البعض، كفصل القدس عن الضفة والقطاع، وفصل القطاع عن الضفة الغربية، وفصل جنوب الضفة عن الوسط والشمال، وفصل الشمال عن الوسط والجنوب، ووضع المواطنين الفلسطينيين داخل قبضة أمنية مُحكمة باستخدام بنوك معلومات وتكنولوجيا مراقبة وتجسُّس بالترافق مع مزاولة القمع المنهجي لبنى المقاومة السابقة والناشئة.
كل هذا وذاك كان منجزاً بمستوى كبير، لكن تبايناً في الموقف ظهر في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وداخل الأحزاب السياسية بين موقف يدعو إلى إعلان ضم الأغوار و60% من أراضي الضفة المصنفة "مناطق سي"، وتضم كل المستوطنات، وموقف آخر يكتفي بالضم الفعلي من دون إعلان، وتأجيل الترسيم إلى وقت يسمح للقيام به من دون جلبة، وذلك لتفادي الرفض الدولي للضم الذي يحتمل تعرُّض دولة الاحتلال لأنواع من الضغوط والعزل، ولتفادي إحراج الدول العربية الأربعة التي أبرمت اتفاقات تحالف وتطبيع مع دولة الاحتلال، والدول العربية التي تمارس التطبيع والتحالف من دون إعلان.
"سياسة تقليص الصراع" المتداولة راهناً تأتي في سياق تثبيت سيادة دولة الاحتلال الفعلية على الأراضي الفلسطينية، واحتواء أي تصعيد فلسطيني قائم أو محتمل. والعمل بمبدأ إدارة الصراع وقطع الطريق على أي حل سياسي يلبي الحقوق الفلسطينية المشروعة. "تقليص الصراع" هو البديل من إيجاد حل للقضية الفلسطينية. ويبرر التقليص كون هذا النوع من الصراع مزمناً ومضى عليه أكثر من قرن، ومن غير الممكن التوصل إلى حل في هذه المرحلة، وهذا يعني أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي غير قابل لحل سياسي يتفق عليه قطبا الصراع، الفلسطيني والإسرائيلي. ويتجاهل واضعو سياسة اللاحل حقيقة الرفض الإسرائيلي المطلق للحل الذي قدمه النظام الدولي عبر مجموعة من القرارات والمشاريع، كرفض حل قضية اللاجئين بحسب القرار 194 وحتى ضمن نص مبادرة السلام العربية (حل متفق عليه)، ورفض أي سيادة فلسطينية بين النهر والبحر، وتثبيت التوسع الكولونيالي بنحو 60% من أراضي الضفة، ورفض زحزحة 600 ألف مستوطن مع مستوطناتهم وبؤرهم من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ورفض حتى تقييد التوسع الاستيطاني، وما يعنيه ذلك من رفض لإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة تكون القدس الشرقية عاصمة لها، رفض رفع اليد عن الموارد الطبيعية الفلسطينية (الأرض والماء والغاز وغير ذلك)، وبلغ الرفض الإسرائيلي أوجه برفض إخضاع منظمات عنصرية فاشية، مثل أتباع "كاهانا"، "وتدفيع الثمن"، "وشبان التلال"، للقانون، بل تقوم دولة الاحتلال بحمايتها وتشجيعها على القتل والتخريب وسرقة الأرض والمحاصيل الفلسطينية.
اللاحل أو تقليص الصراع كبديل من الحل السياسي يعني الإمعان الإسرائيلي في التوسع الكولونيالي ونظام الأبارتهايد، ورفض الانصياع للقرارات والمشاريع الدولية لحل الصراع. الصراع المزمن واللاحل له سبب جوهري واحد هو الرفض الإسرائيلي للحل المبني على قرارات الشرعية الدولية، الرفض المدعوم بتواطؤ النظام الدولي الذي وضع دولة الاحتلال وانتهاكاتها فوق القانون. وما دامت هذه الدولة لا تخضع للمساءلة والمحاسبة ولا تمارَس عليها الضغوط والعقوبات، فإنها لا تتراجع قيد أنملة، ويصبح الصراع مزمناً وغير قابل للحل. المفارقة الصادمة أن النظام الدولي وكذلك النظام العربي يتكيفان وفق مستويات متفاوتة مع تلك الفكرة الاستعمارية الإسرائيلية الزاعمة أن الصراع غير قابل للحل، والأنكى من ذلك أنهما يتعاملان عملياً مع التقليص.
سياسة تقليص الصراع تقوم على فرضية صراع دائم تحت السيطرة، وتثبيت الوقائع الاستعمارية وتعزيزها، وتعتمد اتفاق أوسلو بالقراءة والترجمة والوقائع الإسرائيلية سقفاً لها، وما يعنيه من تشريع للاستيطان والاحتلال والضم الفعلي وتكريس سلطة من دون صلاحيات مقيدة بالتنسيق الأمني. في ظل الهيمنة الإسرائيلية إن التبريد والتقليص يعنيان قطع الطريق على مقاومة الاحتلال والاستيطان والنهب، عبر ما يسمى الهدنة الطويلة في قطاع غزة، وتقليل الاحتكاك بين قوات الاحتلال والإسرائيليين في الضفة الغربية، من خلال تعديل في شبكة الطرق والحركة بين مناطق أ وب، ومن جهة أُخرى زيادة عدد العمال الفلسطينيين بحدود 400 ألف عامل داخل إسرائيل، وتطوير المناطق الصناعية، وتسهيل الاستيراد والتصدير الفلسطيني، وتسهيل استخدام الفلسطينيين للمطارات الإسرائيلية. هذه التسهيلات تأتي في ظل سيادة إسرائيلية مُحكمة، تتضمن حرية العمل الأمني والعسكري في أنحاء الضفة كافة، بما في ذلك المدن الفلسطينية، وسيطرة إسرائيلية على المجال الكهرومغناطيسي من طاقة وموجات وترددات خاصة بالاتصالات. ولا تمانع سياسة تقليص الصراع من تسمية الأرخبيلات والمناطق المكتظة بالسكان دولة فلسطينية، ولا تعارض الاعتراف الدولي بها.
يعتقد خبراء الأمن والاقتصاد الإسرائيليون ومعهم "تحالف لبيد- بينت- غانتس"، أن تحسين شروط معيشة الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع سيصرفه عن ممارسة حقه في تقرير المصير والتحرر من الاحتلال. ويعولون في الوقت نفسه على قدرة المؤسسة الأمنية على قمع واستئصال فكرة التحرر باستخدام العصا والجزرة، والتي استخدمها المستعمرون القدامى وكان حليفها الإخفاق في سائر المستعمرات. وقد فاتهم أن فشل مشاريع التنمية وإعادة الإعمار والبناء، سواء في فلسطين أو في غيرها من البلاد، ما زال حاضراً، ولا ينطلي مشروعهم الجديد على أحد. فلا يمكن حل المشكلة الاقتصادية للشعب الفلسطيني في الوقت الذي يتم نهب معظم مقومات التنمية، كالموارد والسيطرة على الأسواق وقمع الحريات. ولا يمكن حل المشكلة الاقتصادية في الوقت الذي يتم كبح التطور الطبيعي للمجتمع الفلسطيني والحيلولة دون نمو وتطور تشكيلة اقتصادية اجتماعية مستقلة بالحد الأدنى.
ويبقى السؤال: هل توجد مصلحة لأطراف فلسطينية في المشروع الجديد لخفض الصراع مقابل انتعاش اقتصادي لرأسماليين ليبراليين، وتثبيت سيطرة سلطوية في الضفة والقطاع؟ مرحلة اللاحل وعدم حسم الصراع سمحت سابقاً بحماية وتطوير مصالح لفئات من داخل وخارج السلطتين الفلسطينيتين. بل نمت شرائح طفيلية في مناخ اللاحل واللاحسم. كان غطاء تلك الشرائح ونموها المشوه هو وجود عملية سياسية ومفاوضات مفتوحة مدعومة من دول عربية ودولية، هدفها إيجاد حل سياسي للصراع. والآن يتبدى أمامنا تبرير جديد تطلقه أوساط من داخل السلطة وخارجها، اسمه عدم ضم الأراضي الفلسطينية رسمياً، ومحاولات إعادة إحياء العملية السياسية والمفاوضات، بغض النظر عن التحولات والتحالفات الإسرائيلية العربية الجديدة، وميزان القوى السياسي والشعبي، وانطفاء الوعود الدولية بإيجاد حل للصراع. هذا المفهوم يتقاطع مع سياسة تقليص الصراع وإن اختلف في الأهداف. التقاطع في المجال الاقتصادي وتنمية المصالح. إذ يتجاهل أصحاب المصالح أن الضم العملي قائم على الأرض، وأن عملية الاستيطان، أداة الهيمنة والتوسع والضم الفعلي، متواصلة على الأرض. الاختراق الوحيد الذي يمكن أن يفعل فعله هو زيادة عدد العمال بأعداد كبيرة، وقد يكون العدد أقل من 400 ألف. لماذا يبقى مسار أوسلو وحيداً، ويتجدد على الرغم من النتائج الوخيمة والقاتلة. سؤال يبقى مطروحاً على المعارضين بمختلف ألوانهم السياسية؟