مقابلة مع المناضلة روضة عودة (الجزء الثاني): سيرة الاعتقالات والتحقيقات
التاريخ: 
24/08/2021
أجريت المقابلة مع: 
أجرى المقابلة: 
ملف خاص: 

نواصل فيما يلي المقابلة مع المناضلة روضة عودة، والتي نشرنا القسم الأول منها قبل أسابيع، لتتبع هذه الحلقة حلقتان إضافيتان:
تستكمل روضة عودة المقابلة بتأكيدها "أسعى هذه المرة للتحدث عن تجربتي بالتفصيل، اعتقاداً مني أن تجربتي كتجربة أي شخص فلسطيني، ومن الجدير تقديمها للناس، لأن تجاربنا وقصصنا ليست ملكنا وحدنا، بل هي أيضاً رسالة تحفيز وتشجيع للناس على المضي بقوة بالأمل ورفض اليأس. التجربة هي شأن متراكم يستفيد منه الناس، وبالذات الأجيال الصاعدة في كل حقبة".
الاعتقال الأول – يوم العيد
اعتُقِلت أربع مرات، المرة الأولى كانت يوم عيد الأضحى مساءً في 28 شباط/فبراير 1969. اقتادوني إلى معتقل المسكوبية، الطبقة الثالثة؛ وما إن وصلنا بعد صعود الدرج، حتى بدأوا، ومن دون أية مقدمات، بوتيرة سريعة من الأسئلة الفظة. كانوا عنيفين للغاية كلاماً وجسدياً. لم أعد أعرف من أين ستأتيني الصفعة، إذ اجتمع كلهم حولي وانهالوا عليّ بالضرب والأسئلة.
في اليوم التالي أنزلوني إلى الطبقات الأرضية، أو ربما تحت الأرض، حيث لا يستطيع المرء التمييز، وعادوا يسألونني ما إذا كنت أنا الملقبة بـ رشيدة عبيدو، وكانت رشيدة صبية مشاركة في فريق السوبربول وهربت إلى الأردن، بينما أنا كنت أشبهها كثيراً. فبدأ التحقيق معي على أساس أنني رشيدة عبيدو، لكن أنا روضة التميمي. كرروا الضرب والأسئلة، وأنا لا أعرف شيئاً عنها. واصلوا الضرب، ثم أدخلوا شاباً إلى غرفة التحقيق وقاموا بفك رباط شعري، وصرخوا في وجهي "إمشي اطلعي هيك كما أنتِ، شوفي هيك تشخيص." رآني الشاب وكان في حيرة من أمره، هل يعرفني أم لا، أم يعرف رشيدة. في ذاك الوقت كانت المسكوبية أشبه بـ "مسلخ ومجزرة اعتقالات فظيعة وتعذيبات شنيعة". فلاحظت أن الشاب الذي أتوا به كان منهكاً وغير قادر على الحركة. في نهاية الأمر صرخ المحقق في وجهه "إذا بتقول إنك ما بتعرفش؟ إتأكد وإحكي الصحيح"، فلم ينطق بكلمة. ثم اقتادوه إلى الخارج، وبعدها عادوا وقالوا لي إنهم نسوا لماذا أحضروني إلى المسكوبية.
كان صخب الفوضى العارم يطغى على المعتقل. "كانت في وقتها طوشة وقايمة في المسكوبية" وقالوا لي اذهبي إلى البيت وعليك العودة في الغد. وهذا ما حدث. في طريقي رأيت والدي، صاحب الهيبة التي كانت تخيفنا. سألني لماذا عدت إلى البيت، فأجبته بأن المحققين أمروني بالذهاب إلى البيت والعودة في الغد، بينما، وكما قال أبي، بلّغوه أنهم سيطلقون سراحي بعد 24 ساعة. وكانت رسالة أبي بكلماته المنبّهة التي لا يمكن أن تغيب عني: "لو عرفتُ أنك جبتي سيرة حدا راح اتخلى عنك. وأنا ما بقدر أمنعك بس أوعك تجيبي سيرة حدا، وإذا بدهم اياكِ فليحضروا ويأخذوكِ". ولم يحضر أحد لاستدعائي في اليوم التالي.
الاعتقال الثاني: التهديد بالتعرية
كان الاعتقال الثاني في 7/8/1969. اقتحموا البيت وقاموا بعملية تفتيش، ثم اقتادوني إلى معتقل المسكوبية. باشروا التحقيق معي وبقيت حوالي أربع ساعات من دون أية كلمة. بعد ذلك نقلوني إلى سجن رام الله وبدأ التحقيق الفعلي هناك. وقد أدركت أن التحقيق الأول في المسكوبية كان بمثابة "نزهة" مقارنة بما يحدث في سجن رام الله. رأيت لطفية حواري في التحقيق مغلولة من شعرها ومضروبة ويداها مكبلتان خلف ظهرها. بينما لم أكن تعرضت من قبل لوضع الأصفاد على يدي في التحقيق والمعتقل. وحان دوري، فبدأ التحقيق الجماعي معي، مصحوباً بالصفعات والعنف الكلامي والجسدي، وقالوا لي مهددين: "بدنا نعمل معك مثل ما عملنا مع رسمية عودة، نريد تعريتك". فأجبتهم بأن "الناس بيعرفوا إني سجينة ومش جاي عندكم أخلع ملابسي على خاطري"! "كان سحّاب الفستان من الوراء، فقام أحد المحققين بفكه، بينما بقيت صامتة ولم أحرك ساكناً"، وهو ما أثار غضبه، فرفع السحّاب وقال صارخاً: "لو كان شباب الشعبية (الجبهة) هم مَن يقومون بذلك لكنتِ استمتعتِ، لكنني لن أدعك تستمتعين". استمر التحقيق حوالي 35 يوماً ما بين رام الله والمسكوبية. فالمبيت في المسكوبية وكل يوم كنت أمثُل أمام محكمة عسكرية. استمر العنف اللفظي والضرب وشدّ الشَعر، وطوال الأيام الخمسة والثلاثين لم يصلني أي شيء من أهلي، كما لم أحظَ بحمّام ولا بتغيير ملابس. خلال مرحلة التحقيقات تم عزلي مع دوريس خوري ونائلة الخياط وسميرة غيث.
بعد اليوم الخامس والثلاثين تم إدخال ملابس أحضرها أهلي، ولاحقاً في سجن نابلس كان هناك غرفتان للنساء المعتقلات. وفي الزاوية المقابلة قسم للرجال. بعد اليوم الأربعين تحمّمنا. كان الطعام رديئاً، وعبارة عن خيار وبندورة وبضع حبات من الفاصولياء، هذا كان الغداء، أما العشاء فكان ربع حبة فلفل حلو مع قطعة بندورة صغيرة، وأحياناً مربى وشرحة جبنة صفراء. كان الطعام سيئاً للغاية والأسوأ أننا كنا في سجن نابلس، وكانوا استولوا في الحرب على مخلفات الجيش السوري من الطعام، فكانوا يقدمون لنا فقط قطع بسكويت عريض بدلاً من الخبز لفترة طويلة حتى انتهى المخزون المنهوب. بحلول عيد الفصح عند اليهود بتنا نأكل الخبز الفطير (المصة)، ومع انتهاء الفصح أمضينا ما لا يقل عن خمسة أشهر نأكل المصة التي بقيت من الفصح اليهودي.
كان سجن نابلس كريهاً جداً، الإدارة كلها من الرجال، بينما الشرطيات للحراسة، أما فريق العدد فكان من الرجال. كانت في الغرفة 14 سجينة، كنا نفترش الأرض مساء بفراش من القش ولا مجال لأي فراغ بين الواحدة والأُخرى، وفي الصباح وقبل الساعة السادسة نعود ونرفع كل شيء، هكذا في الصيف وفي الشتاء على السواء. لم يتيحوا للمعتقلة التزوّد بأكثر من حِرام. هكذا كنا خلال عامين في سجن نابلس، وفي تمام السادسة من صباح كل يوم نكون قد استبدلنا ملابس النوم وجهزنا أنفسنا لطقوس العدد السيئة. بعد عامين نُقلت إلى الرملة، حيث كان الوضع أفضل نسبياً، وكان النوم هناك على أسِرّة (أبراش) حديدية وشراشف.
الاعتقال الثالث: الابتزاز بالعلاج
اعتقلوا محمد في السادس من شباط/فبراير 1975، وفي الثاني عشر من الشهر ذاته اعتقلوني. حضرت قوات الأمن لاعتقالي، لم أكن في المنزل، فتركوا لي استدعاء للمثول في مركز التحقيق في اليوم التالي. حين ذهبت في اليوم التالي كان الطقس مثلجاً، وبقيت فترة طويلة في الخارج أمام باب غرفة التحقيق. بعد التحقيق كان المحقق يسألني وبلهجة التهديد والوعيد عن الاعتقال الأول الكبير والسجن أربعة أعوام (...) لاحقاً أتوا بي لإجراء فحوصات في مستشفى تل هشومير، وبمرافقة السجانين. وطبعاً كان المستشفى يحوّل تشخيصاته ونتائج فحوصاته إلى عيادة السجن ولا يقوم بإطلاع الأسيرة أو الأسير عليها. وعلى ذمة السجن، أكدوا لي أن التشخيص يشير إلى أنني أعاني من سرطان الدم. وكثر حديث الشرطيات والإدارة عن حالات أقارب لهم في وضعي، حتى إن طبيبة السجن، في إشارة منها إلى خطورة وضعي، قالت لي: "يا ريت بقدر أرفع عنك بقية الفترة وتروحي عند أهلك". كانوا يسألونني ما إذا كنت أعاني من مشاكل في القلب. وكان ردي "ليش خليتو فيي إشي صحيح"، ثم يواصلون: عندك سرطان في الدم، فأقول لهم "سرطنطو كل مخي". في اعتقال سنة 1975 لم يضربوني كما في السابق. ربما خافوا من حالتي الصحية وكانت معنوياتي عالية. فقط بعد شهر تقريباً جاء المحقق ليسجل إفادتي. "لقد اعترف زوجك عليكِ، وأريدك أن تعلمي بأنني حققت مع زوجك وضربته وعذبته، إحكي إفادتك. لم أتجاوب معه لأنني كنت على ثقة بأنه يكذب ويسعى للنيل من معنوياتي.
اقتادوني إلى سجن الرملة، سالني المحقق "ليش جيتي روضة؟" أنتم أخذتوني أنا لم أختر أن أحضر إلى أي سجن. التقيت صديقاتي هناك. وقد تم اعتقالي إدارياً خمسة أشهر. كنت أشتغل في مطبخ السجن، وإذ بالسجان يصرخ "روضة على البيت". على وجه السرعة قامت الأسيرات بلملمة أغراضي الضرورية، واقتادني السجانون إلى خارج السجن. كانت مكاتب الإدارة مقفلة، ولم يكن معي بطاقة هوية ولا نقود. ولأنني اعتُقلت في الشتاء كنت أرتدي ملابسي التي دخلت بها، بنطلون جلد ومعطف صوف وبلوزة جولف صوف أيضاً، وذلك في شهر حزيران/يونيو الصيفي، لأعود بها من سجن الرملة إلى القدس. كان الطقس حاراً للغاية، وعانيت كثيراً جرّاء الجو الخانق الجامع بين حرارة الطقس والملابس الشتوية، لدرجة أنني بكيت في الطريق. وكيف أصعد إلى الباص العمومي، ويرى حالتي السائق والركاب، إلى أن وصلت إلى المحطة المركزية. أين أذهب؟ سألت نفسي. رأيت أحد بائعي الخضار الذي أعرفه من الحي، وكنت كمن وصلت إلى ضالتها. احتميت به، فدلّني على الباص الذي يصل إلى منطقة سكناي. استقليته ووصلت إلى المناطق القريبة من بيتنا والتي أعرفها. ما إن نزلت من الباص وإذ بأحد أصدقائنا يمر في المنطقة، فأوصلني إلى البيت.
الاعتقال الرابع – بحماية طفلي
لم يحققوا معي في الاعتقال الرابع الذي دام أربعة أيام. كان ابني صغيراً، وحين خرجت وعدت إلى البيت لم يتقبلني ولم يتعرّف إليّ، وهذا أقسى من الاعتقال والتعذيب، بل هو ثمنه، إلى أن تعوّد الطفل على أمه من جديد.
التنظيم والعمل المنظم يمنحان الإنسان شخصيته. لقد زوّدني ذلك بالكثير من تجارب الحياة وصقل شخصيتي وجرأتي وطريقة كلامي ومعاملتي للناس. أشعر بأنني مَدينة للتنظيم وأشكره وأعتدّ به.
ثم بدأت مرحلة اعتقال الأولاد وفلذات الأكباد. كان الأولاد صغاراً، وكان لؤي في الثانية عشرة من عمره حين اعتقلوه واقتادوه إلى "المسكوبية"، ليمضي فيها يومين، ثم أربعة أيام في بيت شيمش، وبعد التحقيق معه وجدوا بحوزته حقيبة فيها أعلام للجبهة الشعبية، وفيها أيضاً مادة الأسيتون، وقد داهم الاحتلال في يوم انطلاقة الجبهة، وأشعل الشباب النار في أعلام دولة الاحتلال، و"قاموا بدورهم". لقد عثر لؤي على الحقيبة في الطريق، وفيها ما ذكرت آنفاً. كان جنود الاحتلال نصبوا كميناً وألقوا القبض عليه رغم سنّه. وحين سألوه عمّا تحتوي الحقيبة، قال لهم ببراءة الأطفال: خذوا "الحقيبة أنا وجدتها ووجدت فيها أشياء مستحيل تنباع وتجيب مصاري، وأنا دائماً إمي بتعطيني مصاري لأنه أبوي كحتوت، وأمي هلأ بفرنسا، وقلت أتمصرف قبل ما تيجي". بقي لؤي على هذا الكلام، وبعد ستة أيام أطلقوا سراحه في ساعات المساء. وفي اليوم التالي في الصباح الباكر داهمت قوات الاحتلال البيت فعاثوا فساداً وخراباً وقاموا بالتفتيش وغادروا، لم يكن سوى انتقام. انتقام من الأهل وانتقام من الابن الطفل.
(يتبع)

أجرى المقابلة، الأسير المحرر بلال عودة

عن المؤلف: 

روضة عودة: أسيرة سابقة، من سكان القدس ومن مواليد العام ١٩٤٨. وهي مناضلة فلسطينية من رائدات الحركة الطلابية في الستينات ومن رائدات العمل النسوي الفلسطيني وحركات التغيير الاجتماعي ورمز من رموز القدس، ولها دور كبير في العمل العربي والدولي.

بلال عودة: أسير محرر.

انظر