تعرضتُ في الثاني من آذار/مارس الماضي لاعتقال ترهيبي من مكان عملي بواسطة قوات تكفي لاقتحام مدينة، رجال شرطة واستخبارات ووحدات خاصة. لم تكن هذه المرة الأولى التي أتعرض فيها للاعتقال، لكنها كانت الأكثر صعوبة، إذ إنني لم أتوقعها، وإن كنت قد فعلت، فلم أتوقعها بهذه الصورة الاستعراضية الفاشية.
في اللحظات الأولى لتفتيش سيارتي ومصادرة أجهزة الهاتف خاصتي، خلتُ أنهم قاموا برسم خطة مُحكمة لاعتقالي، ربما أعدّوا لها منذ فترة، وتصورت أنهم علّقوا صوري خلالها وكتبوا فوقها: "مطلوبة"، أو أنهم رسموا خريطة لتحركاتي وبرنامج عملي وساعات خروجي من المنزل وعودتي إليه. كان يمكنهم يومها اعتقالي من المنزل، لكنهم فضلوا الضغط عليّ نفسياً أكثر من خلال اعتقالي من مكتبي في الشركة حيث أعمل، الأمر الذي زرع في داخلي قوة لا أعلم من أين اجتاحتني، لكنني أظنها نابعة من إيماني المطلق بأنني الأقوى وهم المهزومون، تهكّمي عليهم نبَع من حرية تكبر في داخلي، أرادوا اعتقالها وقتلها، لكنها هي التي فعلت، لم يفهموا أن اعتقال شابة تؤمن بأن حريتها وأولوياتها هما أعظم ما تملك وتتزين بهما كفتاة فلسطينية لن يقودهم إلا إلى الاعتراف بالهزيمة.
اصطُحِبت بداية إلى مقر الشاباك في مستعمرة مسجاف؛ طوال الطريق كنت أفكر في تلك العبارة التي كتبتها على قميصي في مسيرة العودة سنة 2011: "أنا خطر استراتيجي"، ضحكت بصوت عالٍ ورددت: " فعلاً أنا كذلك"، ظن الضابط أنني وجهت إليه سؤالاً، فقال: ميسان بدك شي؟ قلت له : "لا لا أكمل طريقك نحو أسيادك فهم في انتظاري".
عندما وصلت استقبلتني كتيبة كاملة، واقتادوني إلى غرفة التحقيق، التي كانت حيطانها من الجبص وفوقها غرفة زجاجية، فأدركت أن المحقق ليس وحده وحولنا في الغرف المجاورة كثُر، يستمعون ويصغون ويحللون، فقررتُ عدم الخروج إلا أقوى ولو استغرق الأمر أياماً، وفهمت أنه عليّ التهكم عليهم ليس إلا.
قال المحقق صارخاً: أتعلمين أين أنت؟ فأجبته ساخرة: "عند الشاباك، بس برافو على الاستعراض، بحياتي ما شفت هيك بهلوانيات"، وجلست واضعة رجلاً فوق الثانية، منتظرة سيل الأسئلة، ليقول المحقق: "أنا حققت مع م. أ. مدة 22 يوماً"، فأضحك متهكّمة قائلة: "أنا ما بتحَمّل هالشخص دقيقة، ما بعرف كيف تحمَّلته هي". ليتنهد المحقق وينهال بأسئلته عليّ بعدها، استمر التحقيق سبع ساعات في اليوم الأول، تخللتها جلسات مداولات بين المحققين، ومُنعت من لقاء محام، أو على الأقل هذا ما قالوه للمحامين الذين أتوا للقائي حينها. بعدها عاد المحقق ومعه قائده ليقول لي: قررنا إخلاء سبيلك اليوم لتنامي مرتاحة في المنزل، لكن بشرط أن تعودي غداً صباحاً لمتابعة التحقيق في الملف في المقر المركزي في الناصرة.
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى الناصرة، وعندما قابلت المحقق سألته هل استدعائي اليوم لاستكمال التحقيق هو للاستفسار أم تحت التهديد، فيجيب: تحت التهديد، سألته عن الشبهات، فبلّغني أنه يحق لي استشارة محام، وسيبلّغنا بالشبهات ريثما يصل، كانت الشبهات الأمنية كبيرة جداً، أكبر من عمري ومن حجم نضالي المشروع المقتصر على موقف وتظاهرة هنا وإضراب هناك واعتصامات عدة، حقق معي كالمعتاد تحت شبهات: التواصل مع عدو؛ التخابر مع عدو في وقت حرب؛ الانتماء إلى مجموعات إرهابية. استمر التحقيق تسع ساعات، تسع ساعات من الكلام، ومن الأسئلة غير المنطقية، وعدت بعدها إلى البيت.
عدت إلى البيت، مؤمنة بزوال الظلم والظلام، واثقة بخطاي وبذاتي.. لست بطلة وأكره صورة البطل الوهمية التي لم أتقمصها أمس ولن أفعل اليوم.. لكنني انتصرت انتصاراً ذاتياً صغيراً، هذه الانتصارات الصغيرة تجعلنا نشعر بعزة أكثر وبفرح عابر على الرغم من الجو المشحون كما غنّت جوليا بطرس. أو كما كتب إبراهيم نصرالله: نحن لسنا أبطالاً، لكننا مضطرون إلى أن نكون كذلك!
لا أخفيكم أنني عشت فترة من التوتر دامت عدة أشهر بعد الاعتقال، وبصورة خاصة لأنني كنت تحت أنظارهم ومراقبتهم قبل اعتقالي وبعده، لكنني الآن خرجت منتصرة.
تعرضت لهذه الملاحقة السياسية كغيري من شباب وشابات فلسطين، لأنني صاحبة موقف لا يتغير، ثابت وواضح كوضوح الشمس، تعرضت لهذه الملاحقة السياسية لأنني مؤمنة بحقي وبنضالي المشروع، لأنني على تواصل مع أقاربي وأصدقائي وأحبائي كحقي الإنساني والوجودي في وطننا العربي.. وسأبقى من أنا بوقفتي الصلبة ومواقفي الثابتة مدافعةً بإيمان عن حقي في الهوية والأرض والوجود والبقاء. تعرضت لهذه الملاحقة وخرجت منها أقوى وأكثر صلابة. لست بحاجة إلى شهادة المحققين، لكنهم اعترفوا اليوم بأن اتهاماتهم واهية، وبأنني كنت وما زلت أكثر ذكاء وصلابة وقوة منهم.
في أوائل شهر آب/أغسطس الجاري تم إغلاق الملف، وعدت إلى مَن أنا كغيري من رفاقي، حرة في مساحتي من الحرية التي يحاصرها الاحتلال، والتي تحميها إرادتي الفردية وإرادتنا الجماعية، وللإرادة ستكون الكلمة الأخيرة.