الاقتصاد السياسي للتنمية في فلسطين
التاريخ: 
17/08/2021

يُعنى الاقتصاد السياسي بالمؤسسات وعلاقات القوة والصراع الاجتماعي. ومن مهماته الأساسية تأريخ الاقتصاد وتسييسه، إذ إن السياسة ترتبط ارتباطاً وثيقاً وعضوياً بالاقتصاد، فهما يكمنان في مواقع تاريخية ومكانية واجتماعية معينة وينبثقان منها. لذلك، يهدف الاقتصاد السياسي إلى تحييد وتجريد وتعرية الرأسمالية من أجل الخروج والإتيان بتحليل أقوى لقضايا الاستعمار الاستيطاني والرأسمالية العنصرية العرقية والنيوليبرالية.

وفي حالة فلسطين المحتلة، تُعد مقاربة الاقتصاد السياسي مهمة للغاية في تحليل الوضع الراهن لأنها تكشف وتُبرز عناصر أساسية في تجليات القوة المادية والخطابية المرئية وغير المرئية على حد سواء. وتشدد نهوج الاقتصاد السياسي على أن المقاربات الاقتصادية التي لا تراعي البُعد السياسي - الاقتصاد غير المسيَّس - لا تكفي أبداً لفهم ومَشكلة الوضع والبنى الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين المحتلة، بل في حقيقة الأمر تساهم في مفاقمة الضرر وإدامة البنى الاستعمارية.

يستكشف كتاب جديد لصاحب المقال وأحد محرريه بعنوان "الاقتصاد السياسي في فلسطين: منظورات نقدية مناهضة للاستعمار ومتعددة التخصصات"، والواقع في 14 فصلاً، والصادر عن دار نشر بالجريف ماكميلان في أيار/مايو 2021، سياق الاقتصاد السياسي لفلسطين، ويحلل قضايا الإدماج والتشرذم وعدم المساواة، ويتحرى قطاعات ومواضيع متعددة ويمشكلها ضمن إطار الاقتصاد السياسي في ظل غياب السيادة.

يُبرز هذا الكتاب الجديد والجهد البحثي العلمي الأكاديمي الجماعي المبذول، جانباً رئيسياً يرتبط بالضرورة المُلحة لدراسة الاقتصاد السياسي في فلسطين من خلال منظورات نقدية مناهضة للاستعمار، ومتأتية من تخصصات معرفية متعددة ومتنوعة. ونحاجُّ في الكتاب بأن تناول الاقتصاد السياسي من منظورات نقدية مناهضة للاستعمار، ومن تخصصات معرفية متعددة، يزيد التركيز على مقومات وعناصر المقاومةـ ويساعد في تحري الأشكال المتجسدة للذاتية السياسية، ولا سيما في السياقات الاستعمارية الاستيطانية النيوليبرالية. ونحاجُّ أيضاً بأن هذه المقاربة المبنية على إطار الاقتصاد السياسي توفر إطاراً أكثر رصانة لفهم الديناميات المعقدة لعملية التنمية، وتوضح أسباب إنكار وتقويض التنمية في فلسطين، وكيف تُمنَع، ومَن يمنعها. إذ تتحدى المقاربة النقدية للاقتصاد السياسي المنطق والبناء النيوليبرالي السائد الذي يعيد إنتاج الرأسمالية العنصرية العرقية، وتتحرى المقاربة النقدية هذه كيفية تشكيل الاقتصاد السياسي في فلسطين المحتلة من خلال عمليات تراكمية من الاستغلال والحرمان على يد إسرائيل والفاعلين الدوليين والنخب السياسية-الاقتصادية الفلسطينية أيضاً.

أما المقاربة المتأتية من تخصصات معرفية متعددة ومتنوعة لدراسة الاقتصاد السياسي فهي تساعد في الكشف عن الديناميات الدقيقة والمعقدة التي لا يمكن التقاطها بسهولة بواسطة تخصص معرفي واحد أو منفرد. ويكتسب الاقتصاد السياسي بصفته طريقة نقدية متعددة التخصصات أهمية معرفية ونظرية وتجريبية وتحليلية كبيرة في تفسير العلاقة المتداخلة بين الاستعمار والاستغلال والقومية والسلطة الأبوية ضمن ديناميات الرأسمالية ومساراتها.

أما فيما يتعلق بالبعد الثالث والمتمثل في مقاربة الاقتصاد السياسي الفلسطيني المناهضة للاستعمار، فتتصدر المشهد النضالات ضد السياسات والمؤسسات النيوليبرالية والاستعمارية الاستيطانية، وتساعد في ربط أوصال الحياة والأرض الفلسطينية والاقتصاد السياسي الفلسطيني الذي يمكن تتبُّع دوره التاريخي في إنكار التنمية في جميع أنحاء فلسطين إلى أكثر من قرن مضى. تؤكد هذه المقاربة المناهضة للاستعمار أيضاً الحاجة الملحة إلى جهد بحثي ملتزم معرفياً وسياسياً بإنهاء الاستعمار كأولوية قصوى.

لكن يبقى السؤال: كيف ستؤثر مقاربة الاقتصاد السياسي هذه في عملية التنمية في فلسطين، وبصورة خاصة فيما يتعلق بكل المساعدات الدولية المتدفقة في اقتصادها، والتي خذلت الشعب الفلسطيني أيما خذلان مع أن مجموعها فاق 40 مليار دولار أميركي منذ سنة 1993؟

الإجابة واضحة ولا مواربة فيها: لقد بات من الواضح الآن أن المعونة مهما كبرت لن تكون فعالة إذا استمرت في رفد الأطر الاقتصادية والسياسية المنحرفة والمشوهة والمختلة بنيوياً، والمعمول بها حالياً. بل إن ضخ المزيد من الأموال والمساعدات الدولية يمكن أن يتسبب بضرر أكبر عند إنفاقها على تدخلات في غير محلها غير مستجيبة لتطلعات وحاجات الفلسطينيين. وبالمثل، سوف تظل الحلول التقنية وحدها، مهما بلغت جودتها على الورق، قاصرة عن معالجة المشاكل الحقيقية التي يواجهها الفلسطينيون ما لم تنبرِ لمعالجة الوقائع السياسية الجوهرية فيما يُسمى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

ولذلك لا بد من تغيير نظرة ورؤية الفكر الإنمائي السائد للتنمية من اعتبارها مقاربة تكنوقراطية تقنية غير سياسية ومحايدة إلى اعتبارها مقاربات مُدرِكة لهياكل القوة وعلاقات الهيمنة الاستعمارية، من أجل ربط العملية التنموية بالنضال من أجل الحقوق والمقاومة والتحرر.

لكن حتى مع حدوث هذا التغير على المستوى البحثي والعلمي والأكاديمي، إلا إن مجتمع المانحين الدولي أو حتى السلطات المتعددة في الأرض الفلسطينية المحتلة المتلقية للمساعدات، لم يترجموا ذلك التغير إلى تغيير في السياسات على أرض الواقع. لقد آن الأوان لتبنّي مقاربة الاقتصاد السياسي بجوهر الفعل الاقتصادي الفلسطيني، ونبذ سواها من المقاربات المجرَّبة المضرة.

عن المؤلف: 

د. علاء الترتير: مستشار برامج لدى الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية، وباحث ومنسق أكاديمي في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنموية في جنيف، وزميل بحثي في معهد أبحاث السلام في أوسلو.