من حيث الإجراء، المحاكمة العادلة والحق فيها هي مطلب قانوني حقوقي بحت، أي أنه في حال توقيف شخص واعتقاله يفرض القانون واجب مثوله أمام قاضٍ خلال 24 ساعة. هذا الأمر يُعتبر من ركائز المحاكمة العادلة. وتكون إمكانية مثول المعتقل أمام قاض للمرة الأولى بمثابة الفسحة التي يمكن أن يتنفس من خلالها الصعداء بعد ساعات تحقيق طويلة تحمل على الأغلب انتهاكات وإهانات وتعذيب. فتكون للمعتقل فرصة لإشراك القاضي فيما حدث له ويدوَّن ذلك في المحضر، وخصوصاً إذا كان ممنوعاً من لقاء محام فيكون القاضي أول شخص يلتقيه من خارج طاقم المحققين. ويشكل الأمر بالنسبة إلى القاضي فرصة لأخذ انطباع مباشر من وضع المعتقل والانتهاكات التي تعرّض لها وعدم تصديق ما يقوله المحققون بأن التحقيق كان من دون انتهاكات. ومن الممكن أن يساعد ما يشارك فيه المعتقل القاضي في تخفيف حكمه، وخصوصاً إذا أُثبت تعرّضه لتنكيل أو تعذيب، أو انتزاع اعترافات منه بالقوة، وبطرق غير قانونية وغير شرعية.
لكن القانون غير منفصل عن السياسة، بل هو أداة من أدوات تطبيقها، فالقوانين الاحتلالية والعنصرية والتمييزية تعكس سياسات الدولة وتفضح طابعها الاستعماري. تلك القوانين التي تسلب أهل البلاد حقهم وتتيح مصادرة أراضيهم وهدم بيوتهم وزجهم في السجون بسبب نشاطاتهم السياسية، وتمنع عنهم حق العودة وحق تطبيقه، ويرى أهل البلاد كيف تصادَر أراضيهم ويُمنعون من العودة إليها، بينما يبني آخرون فيها بيوتاً وعمارات تمحي طابعها وتمحي أهلها كذلك من الوجود، أو تطالبهم المحكمة بتسليم بيوتهم للمستوطنين.
في وضع غير عادي كما في حالة المحاكمة في ظل الاحتلال، حيث المحاكم عسكرية والقضاة عساكر والقانون عسكري وتطبَّق فيه قوانين أنظمة الطوارئ، يُطرح السؤال عن حدود العدالة ومدى تطبيقها فعلياً. وبالنسبة إلى الأسرى والأسيرات يُطرح السؤال: هل يجب المطالبة بالمثول أمام القضاة بأي ثمن، وتحمّل عناء ومشقة حافلة نقل الأسرى (البوسطة) والمعتقلات الانتقالية (المعابر). وأية فائدة تُرجى من ذلك؟
أضف إلى ذلك أنه في فترة تقييدات الكورونا وإغلاق السجون ومنع زيارات الأهل من الضفة بحجة عدم خضوعهم للتلقيح، وانقطاع الأسرى والمعتقلين عن العالم، اعتقدنا نحن المحامون وناشطات ونشطاء حقوق الإنسان أن هذا المطلب بات مُلحاً أكثر من قبل. لقد سمعنا من بعض المعتقلين أن هذه الجلسات تحولت إلى وسيلة التواصل الوحيدة مع مَن هم خارج السجن، وإلى المساحة الوحيدة المتاحة للقاء الأهل. ويتكبد الأسرى والمعتقلون عناء السفر من أجل لقاء أحد أفراد العائلة، ولو لدقائق، ولو من بعيد، إذ لا يُسمح لأكثر من واحد من الأهل بدخول قاعة المحكمة. قرار قاس بحد ذاته. وجاءت مسودة القانون الجديد "إجراء جلسات من خلال الفيديو بمشاركة المعتقلين والأسرى – جائحة كورونا (أمرالساعة) (تعديل)- 2021" لتطالب بتطبيق مطلب إجراء الجلسات عبر الفيديو وتحاشي حضور المعتقل إلى قاعة المحكمة.
كان بالإمكان الاعتقاد أنه، وللأسباب المطروحة سابقاً، من المفضل حضور المعتقلين إلى المحاكم وليس المشاركة في جلساتهم عبر الفيديو. لكن أموراً كثيرة تجعل هذا المطلب، إن تم تطبيقه، عقاباً إضافياً للمعتقلين والمعتقلات.
توضع علامة استفهام كبيرة على عدالة المحاكم كونها عسكرية، بل ويُطرح مفهوم العدالة للمساءلة والنقاش. فأيّ عدل يمكن توخيه من محكمة احتلالية سياسية وأهدافها سياسية (هي تسميها أمنية). وتدل الأحكام الصادرة عنها على أنها محاكم صورية وأحكامها جاهزة مسبقاً، وبالتالي تتحول مشاركة المعتقل إلى مشاركة شكلية هي الأُخرى، وهو ما يعيد السؤال إلى المركز- ما فائدة الحضور إلى قاعة المحكمة والمثول أمام قاض عسكري؟
حين تقرر الدولة اللجوء إلى قانون طوارئ، قانون الساعة، والمطالبة بعقد الجلسات عبر الفيديو، فهي عملياً لا تفكر في الأسرى والمعتقلين وحقوقهم ولا في أهاليهم، وما يحركها مصالحها الاقتصادية والسياسية. إذ تثبت نسبة الملقحين المرتفعة بين الأسرى، كما هي الحال خارج السجون، أن احتمالية العدوى من جديد أو الإصابات الخطرة هي نسبة متدنية، أي أن هذا الادعاء ليس هو المحرك الحقيقي لمطالبة الدولة بعقد الجلسات عبر الفيديو.
يتبين أيضاً من الأوراق المقدمة إلى لجنة القانون، أن الدولة لم تقم بدورها كفاية. على سبيل المثال كان هناك اقتراح مع بداية انتشار الكورونا وإغلاق السجون بأن تتم إقامة محاكم إلى جانب السجون الكبيرة، إيشل على سبيل المثال، وهكذا تختصر الوقت وتختصر خروج المعتقلين بالبوسطة والسفر لساعات أو أيام للمشاركة في جلسات النظر في ملفاتهم. لكن لم يتم تطبيق هذا الاقتراح الذي كان من شأنه أن يسهل على المعتقلين كثيراً. كما أن مقترح إجراء فحوصات كورونا سريعة خاصة لمن هم في الاعتقال لأيام ولم تقدَّم ضدهم لائحة اتهام، سقط هو أيضاً بسبب تكلفته العالية، ليؤكد أيضاً أن القرارات المتخذة في ظل الكورونا اقتصادية سياسية لمصلحة الدولة وأمنها واقتصادها.
رفضت الدولة مقترح فحوصات الكورونا السريعة، كما رفضت مقترح توفيرمحاكم قرب السجون. وماذا فعلت بالمقابل؟!
فعلت ما هو أسوأ بكثير، قررت إعادة تشغيل المعبر، معبر الشارون للذاهبين إلى جلسات المحاكم. وهو عقاب بحد ذاته كما تقول الأسيرات اللاتي التقيتهن في الدامون. منذ تفشّي الكورونا تجري الجلسات عبر الفيديو ولا تضطر المعتقلة إلى الخروج من السجن، وهو ما يخفف عنها عبء السفر بالبوسطة التي من الممكن أن يصل الجلوس في داخلها والسفر من الدامون إلى عوفر نحو 12 ساعة متواصلة في الحر والبرد وقسوتهما، حيث لا تبريد ولا تهوئة كما يجب، إذ تجلس المعتقلة مكبلة اليدين لا ترى ما هو خارج البوسطة، وإذا احتاجت إلى المرحاض، فغالباً ما تتلقى إجابة : "اصبري"، ومعنى ذلك الصبر لساعات.
على الرغم من الصعوبات الفنية القائمة في الفيدو كونفرنس، وعدم توفر الخصوصية والسرية كما هو مطلوب بين المعتقل/ة والمحامي/ة، وعدم قدرة المعتقل على معاينة الأوراق والمستندات التي يتم عرضها وما الى ذلك، إلا إن المعتقلات فضّلن هذه الطريقة على الخروج في البوسطة إلى عوفر.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد من صعوبة السفر في البوسطة وتكبُّد العناء والعذاب أحياناً، بل إن مصلحة السجون استرسلت في عقابها وتعذيبها للمعتقلين بقرار إعادة معبر الشارون إلى كونه محطة في أثناء الذهاب إلى المحكمة وفي طريق العودة منها إلى السجن، وكانت مصلحة السجون أوقفت في سنة 2016 التعامل معه كمحطة انتقالية (المعبر)، وإلى ما قبل شهر كان يتم إحضار المعتقلات إليه فيبقين هناك في أثناء التحقيق الذي يجري على الأغلب في عوفر، أو المسكوبية، أو بيتح تكفا، أو الجلمة، فيتم نقلهن للتحقيق وإعادتهن إلى الشارون وهو سجن سيئ الظروف من جميع النواحي.
وما حدث الآن أن مصلحة السجون لكي توفر على نفسها اقتصادياً وتقتصد في تكلفة البوسطة، ولا تُخرج بوسطة خصيصاً لمعتقلة واحدة ذهاباً وإياباً، صارت تنقل المعتقلات من الدامون إلى الشارون لقضاء ليلة هناك قبل الوصول إلى عوفر، ثم يعُدن من المحكمة إلى معبر الشارون لقضاء ليلة إضافية قبل العودة إلى الدامون. وبين هذا وذاك يتم عمل محطة أو اثنتين لتغيير البوسطة، واحدة في الجلمة، وأُخرى في الرملة، بالإضافة إلى محطة معبر الشارون، وبين هذا وذاك ساعات من الانتظار في ظل شروط سيئة لا إنسانية. وهكذا يستغرق السفر من سجن الدامون إلى المحكمة بين 4 و5 أيام للمشاركة في محكمة صورية لا تتعدى الدقائق أحياناً. وتضطر المعتقلة إلى الانتظار من ساعات الصباح لغاية المساء في زنزانة عوفر السيئة السمعة والصعبة الظروف حتى انتهاء كل المحاكمات، ثم يتم نقلهن إلى الشارون بدلاً من الدامون، إذ يصلن في ساعات الليل ويكن قد خسرن وجبة طعام ولا يتم إحضار الطعام لهن إلا في صباح اليوم التالي، حيث يقضين هناك يوماً ثم ينتقلن إلى الدامون.
تقول الأسيرات إن الوضع في الشارون لا يطاق، عذاب كامل، والغرفة مليئة بالبق والحشرات. كما أن الشكاوى التي قدّمنها إلى القيمين على السجن –المعبر لم تُفِد بشيء ولم تُحَل المشكلة.
تقول خالدة جرار التي التقيتها في سجن الدامون: "المطلب الفوري إلغاء المعبر. المحاكم شكلية وتؤدي إلى معاناة المعتقلات، البوسطة بحد ذاتها كارثة، والوضع اليوم أسوأ من قبل، بحسب ما تؤكد المعتقلات اللاتي خرجن إلى المحاكم"، وتضيف: "مع كل سيئات الكورونا يبقى الوضع أفضل من السفر إلى المحاكم والبقاء في الشارون في حضرة البق، إذ تعود الأسيرات إلى السجن والبقع الحمراء والطفح الجلدي يكسوان أجسادهن. صارت المحكمة عقاباً، والمطلب هو التحرك الفوري وعدم تأجيل الموضوع".
مطلب إلغاء المعابر، ومطلب تحسين البوسطة، ومطلب الإجراء القضائي، هي قضية سياسية إنسانية لا تحتمل التردد ولا المماطلة.