موت بيروت المحمول على أسمائنا
التاريخ: 
03/08/2021
المؤلف: 

لا أعرف من أين تبدأ الحكاية أو سوف أدعي مثل الجميع أنني لا أعرف. من النكران اليومي لكل ما يحدث تبدأ قصة هذه المدينة، أو هكذا تبدو، مدينة من ماء تطفو أمام البحر الأبيض المتوسط، تلمع باحتمالات الغرق، بينما رائحة الملح تحملك بطعم المرارة في حلقك نحو تاريخها الممتد على غابة كثيفة من الموت. إنها أرض التناقضات الرهيبة، بيروت. غابة كثيفة من المشاعر تحمل المدينة بوتر مقطوع لا يقبل العزف المنفرد، فالمدينة التي كانت محمولة على رائحة شجر الصنوبر الذي يغطي هويتها صارت لا تشبه نفسها، وتدخل عالم التناقضات التي صنعتها التجربة السياسية، والتي خلقت منها نتف أحياء متفرقة متناقضة لا تحمل سوى رائحة عصية على الالتقاط  تدرب حواسنا على الانتباه، تضيق فيها اللغة وتبتلع فيها الكلمات والتشابيه التي يمكن أن تحدد صورة المدينة، حتى صارت بيروت أرض الاحتمالات المفتوحة على كل أنواع الغرق. وكأن انفجار 4 آب لم يأت ليدمر الأبنية والأحياء، بل ليعصف بآخر وجوه بيروت التي نطل منها على أنفسنا، ونرى فيها اللغة وهي تموت ببطء، لنسقط في عجزنا الرهيب عن القبض على الكلمات التي يمكن أن تعيد بناء هوية المدينة، وليصاب عشاق فتنتها بأسباب جديدة لتذكّر مخمل ورد بيروت وهو يذوب في نار تجربة الموت التي صنعها الانفجار.

يمكنني أن أدّعي مثل الجميع أنني لا أعرف كي لا أقول وأداوي الخاطر المكسور بصمت رهيب خلقه الانفجار، لأن الجميع اكتشف عجز الكلمات الرهيب أمام هول ما حدث، اللغة تضيق أمامي، بينما المدينة ترتجف، هذا ما أتذكره. أمشي في شوارع بيروت، أشعر برجفة المدينة وهي تنقبض على نفسها في محاولة منها لتقول لنا كل شيء دفعة واحدة. قالت بيروت، أو حاولت أن تقول، لكننا لم ننصت جيداً، فالمدينة التي مهدت لانفجارها الرهيب برجفات صغيرة، مثل جسد يعتصر شكل الموت في نفضات قصيرة، شعرنا بها جميعنا، ورأينا كيف تلوّت المدينة  من الألم قبل أن تمهد لموتها.

كنت أمشي في شوارع المدينة في يوم عادي لا يذكّرني بأيام الحرب في سورية، إذ لا رائحة للموت الذي ينتشر قبل سقوط القذائف، ولا صوت للطائرات وهي تجمع السماء في صرخة واحدة، لا شيء حميمياً يذكّر بالموت الجماعي الذي تخلقه الحروب، كان يوماً يبدو أكثر تكلفاً من أن تلتقي صدفة بحب عابر، وأمان عاطفي لا تتصور معه أنك سوف تصبح خبراً عاجلاً. كل ما هناك كان عادياً جداً يولد من أمان غامض بأن احتمالات الحياة مفتوحة ولن تضيق فجأة لتحول بيروت إلى مساحة ضيقة لا تتسع لتنهيد. ارتجفت بيروت فجأة، ولطالما توقفت حياتي في هذه الرجفات الصغيرة التي تعيشها المدن، مدن ترتجف، أعبر فيها وأعيش اهتزازات روحها وهي تعبّر عن حجم الموت الذي تعيشه.  أنظمة سياسية تعتصر المدن، بينما تضيق المسافة التي تفصل بين الهزات التي عشتها في حياتي وتتسع في بيروت. طعم الموت في بيروت مختلف، لا يشبه لحظة الانتباه التي تشدك في دمشق في لحظات الحرب. هناك حيث جماعية الموت تتفرد بك وتذكّرك بحرب مفتوحة على الجميع، هنا يحدث كل شيء فجأة كأن الموت طارئ وممنهج في لحظة أمان عابرة.

 احتضنت حقيبتي الصغيرة في منتصف الشارع في محاولة مني لحماية أوراقي الثبوتية؛ فما الذي يعنيه أن تموت من دون أن يتعرف إليك أحد، وماذا يعني أن أموت أنا الفلسطيني السوري من دون أوراق ثبوتية في بيروت، أظن أنه لا يعني أي شيء تقريباً، لقد عشت قسطاً طويلاً من حياتي وأنا من دون أية ورقة تثبت مَن أنا، أهرب من رجال الأمن وأتجنب حواجز الجيش وأسئلة الفضوليين. لكن أمام موت بيروت احتضنتُ بطاقتي الشخصية في محاولة مني لأموت باسم كامل لا ينقصه أي حرف قد يضعني في خانة مجهولي الهوية.

حدث كل شيء في ثوان…

تناثرت المدينة من حولي، بينما كنت أركض بوجه يشبه البكاء، أحمل بطاقتي الشخصية وأركض، لا أعرف إلى أين أحاول أن أصل، إلى بيروت التي تركتها قبل ثوانٍ وهي تفتح أمامي كل احتمالات الحب. لم أدرك أن بيروت تلك ماتت. الهوية في يدي أشهرها كسلاح يحميني من الموت، بينما طعم الغبار في فمي، والناس يركضون، ويحتمون من الزجاج المتطاير. الناس بلا وجوه يركضون ونحن نمشي على نتف المدينة التي تجمعت على شكل بلور محطم. صارت بيروت كلها مرآة تعكس السماء وترى فيها صورة الله وهو يتجمع في صورة بشر يركضون ولا يعرفون إلى أين..

ولا حتى أنا، لم أكن أعرف إلى أين، لكنني كنت أركض، أحمل اسمي كاملاً وأركض، أبحث عن بيروت في بيروت، بينما بيروت تموت وحدها في انفجار يُعتبر الأقوى في العالم…

غبار، وموت، وأصوات سيارات إسعاف. الناس يسعفون بعضهم بعضاً، ويحملون نتف الأسماء التي تطايرت هنا وهناك. لم يبق من المدينة إلا اسمها في ذاكرة أهلها، إلا نتف كلمات تصف بقلق هول ما حدث. بينما جلست على طرف رصيف، أنظر إلى هويتي في يدي وأبكي، بكيت كطفل، بينما يمر الناس من أمامي بما يشبه الموت. كانت بطاقتي، التي لوثها الغبار وبقع الدم من الزجاج المتطاير، تحتفظ بالاسم واضحاً، فبكيت بحرقة وأنا أحاول تنظيف بطاقة الهوية من بقايا الدم الجاف..

عن المؤلف: 

المعتصم خلف: كاتب فلسطيني سوري يعيش في لبنان.

لوحة للفنان سيروان باران
خالد فرّاج
رويترز، عصام عبد الله
رنا كشلي
النهار،5-8-2020
أحمد ليلى
زاهر أبو حمدة
لوحة للفنان سيروان باران
أيهم السهلي
طه يونس
أحمد الصباهي
رويدا الصفدي