وفاة والدة الأسير أحمد أبو جابر: ما أعظم الأمل وما أصعب نهاية اللحظة في لحظة
التاريخ: 
15/07/2021
المؤلف: 
ملف خاص: 

الأسير أحمد أبو جابر هو ممن تُطلَق عليهم تسميات قدامى الأسرى وعمالقة وجنرالات الصبر، وهي تسميات لا يريدها أحد لنفسه ولا لغيره. فلا حلم في دنيا الأسير إلا أن يخرج من السجن، وأن يحظى بعناق مَن تركهم قبل ثلاثة عقود ونصف بحرّية حين بدأ مسار الأَسر الموازي، الأسير من داخل الجدران، والأم والأُسرة من خارجها، وضمن طبقة أُخرى من الجدران الأوسع. إلا إن الطريق الموحش والصعب يتجاوزه الأسير على صهوة الأمل.

أحياناً يبدو الأمل أملاً، وهو أيضاً يشبه السراب الذي يمتد على مساحات لا تدَعُك تدخل فيها، بل يتواصل الركض نحوها، فلا مكان للتعب الجسدي ولا النفسي للتقليل  من مهمة الركض نحو الأمل، أو ما يحيله الحال إلى وهم. فالمساحات ما بين الأمل والوهم والسراب متداخلة، وفقط بصيرة الأسير لا عينه تجعله يحدد كنه ما يراه.

أحمد أبو جابر الأسير منذ سنة 1986، وهذا ليس رقماً مجرداً. بل في الإمكان تسجيل قائمة بكل الأعوام الخمسة والثلاثين التي أمضاها قسراً في السجن الإسرائيلي. من سنة 1986 و1987 ولغاية سنة 2021، وفي الإمكان أن نحصيها كأشهر، وحتى كأيام وأجزاء من الوقت. ويمكن أن نحسب عشرات آلاف الكيلومترات المشبعة بالعذاب التي استغرقتها مسيرة والدته الحاجة آمنة أبو جابر التي توفيت قبل أيام؛ وكم من ساعات السفر التي تُقاس بالمرارة، والتي أمضتها في زياراتها إلى السجون، حيث ابنها؛ وكم من حمولات القلق التي تفوق معاناة المسافات الطويلة القاهرة، والتي لا يمحوها سوى ابتسامة ابنها الأسير وعناقه المطول من وراء جدار الزجاج الإسرائيلي المنيع. ومناعته مرتبطة ارتباطاً عكسياً بالحال الفلسطينية. تحملت الحاجة آمنة أبو جابر كل الصعاب والقتل البطيء للأمل، كما تحملت صعاب الأمل الذي تبدد في كل صفقة تبادُل أسرى منذ ذلك الحين. ففي الأمل المتبدد أعباء نفسية تفوق الخيبات الناتجة من سلوك الإنسان أو الإنسانة، إنه تبدُّد قسري قاهر يتراكم فيه أَلَمان في ألم واحد، ألم القهر الإسرائيلي والمتلازم مع جوهر الدولة، وهو ما يجعلنا حين ندركه نزداد قوة هي من صلابة أهل البلاد وأهل المكان وأهل الحق. وهناك الألم المتبدد حين تتجاوز الصفقات، بقبول فلسطيني ولو على مضض، الأسرى من فلسطينيي الـ 48. وهو مؤلم أكثر لوالدة الأسير التي سمعت من الوعود الكثير ولم تأت الوعود بأكثر من وعود، ففي عينها الواحدة دمعة وفي عينها الأُخرى لمحة ابتسامة تهنئ بها زميلاتها في درب العذابات، أمهات الأسرى الفلسطينيين وزوجاتهم وأخواتهم على الجانب الآخر من الخط المسمى بالأخضر، وهو أكثر الخطوط الاستعمارية المشتِّتة والمبنية على وهم الفصل بين الفلسطيني والفلسطيني، والذي احتل بعض المساحات في الذهنية الفلسطينية.

على الرغم من هذا واظبت على زيارة ابنها الأسير الذي كان الفرح يتطاير من عينيه ولغة جسده حين كان يتحدث عن زياراتها، وكان يعدّ ملابس الأسير بكل عناية وأناقة تضاهي أناقة العرسان، كي يُسعد أمه؛ وكان يعدّ لها كعك العيد بيديه وهو يأكله الحنين إلى خبز أمه وقهوة أمه... وكم تليق بأحمد قصيدة محمود درويش هذه. ولا مجال هنا لوصف كيفية إعداده الكعك في حين يكاد لا يتوفر شيء من مقوّمات إعداده. المتمرس في الأسر أدرى بشعابه، ففيه يبني عالمه الاعتقالي المتكامل البنية. وكان يعرف كيف يُخرج كعكاته لتصل إلى أمه التي انتظرته. كان كعك العيد من صنع يدي أبي جابر نيابة عنه وعن كعك أمه وقهوتها، وكان يُعدّ ورقاً مزيناً للفّ حبات المعمول، لتخرج في علبة بكامل أناقتها، وفي مذاقها لكعكه كان مذاقاً له.

وعن بناء العالم الاعتقالي، أحمد أبو جابر هو ابن كفر قاسم التي دفع أهلها وشعبنا بدماء شهداء المجزرة الثمن الباهظ والجرح المفتوح ليقولوا لا للمحتل، فلن تكون نكبة أُخرى، ولن نهجَّر، ولن نترك البيت لمشروع الطرد والنهب والسلب. وبعد صدور حكم بالسجن المؤبد بحقه الفردي كما بحق شعبه، بنى عالمه في السجن ليحافظ على ثباته وعلى حريته الداخلية، وفي الأساس على إرادته الإنسانية. قام أبو جابر باجتهاد ذاتي فريد في نوعه من خلال الدراسة في مستوى المدرسة الثانوية ليصبح معلّماً للأسرى، وليتميز في دراسته الجامعية ويحصل على اللقب الأول ثم الثاني في العلوم السياسية. وليساهم بكل ما راكم من معارف لمصلحة جموع الأسرى.

إحدى ميزات أحمد أبو جابر هي أنه مثقف خارج حدود الدراسة والمنهاج، فبالإضافة إلى نظمه الشعر وكتابة القصة بأسلوب يطغي عليه الأسلوب الإنساني والتراثي، فإنه مثقف سياسي بامتياز، وحين يتاح المجال لأحلامه بالتحليق، يعرف كيف تبقى رجلاه ثابتتين على الأرض، ويعرف أن الأرض هي أرضية سجن قاسية، لكنها محاطة بأرض كفر قاسم وكل أرض فلسطين اللينة مهما كانت وعرة، وبإدراكه يحاصر حصاره، ليجد أن والدته هي شريكته الأولى في صنع هذا البعد من الأمل.

في السجن يفقد الأسير والدته أو والده أو أحبته في لحظة، ومن دون مقدمات، لحظة يجب أن تلازم الأسير أو الأسيرة على الدوام، لحظة تلقّي الخبر الأليم القاسي والصادم، الذي يجعل الحزن مشوشاً والدمعة مشوشة أكثر. إنها لحظة قطعٍ مع الأمل ومع مِرساته، ليشعر باليُتم مهما كان سنّه، وبأن طفولته التي حمل حنينه إليها، وبالذات إلى أمه فيها، قد انتهت ليحل مكانها القهر.

نتيجة التحرك القضائي والسياسي والشعبي السريع، تسنّت لي وأنا في السجن المشاركة في جنازة أبي ساعة، وبعد ثلاثة أعوام تمكنت من زيارة أمي مدة عشرين دقيقة في المستشفى قبل وفاتها، وهذه حالات نادراً ما تتوفر المقومات لحدوثها، وتبين في حيثيات المحكمة في هذا الصدد أن مصلحة السجون والشاباك لا يملكان مبررات أمنية لرفض طلبات المشاركة في الجنازات، بل يملكان عقيدة القهر. وهي التي حالت دون مشاركة أحمد أبو جابر في تشييع جثمان والدته وحلمه بلقائها. وعلى الرغم من الألم والقهر، إلا إن الأسير أحمد أبو جابر سيعرف بالتأكيد كيف يتعامل مع جوهر المعادلة، فكما ذكرت سابقاً، هو حرص ويحرص دائماً على أن تبقى رِجلاه ثابتتين على الأرض مهما كانت قساوتها.

قلبي مع أحمد أبو جابر أحد الوجوه القيادية المشرقة للحركة الأسيرة، والحرية له ولجميع الأسرى والأسيرات.

ولروح والدته السلام.

عن المؤلف: 

أمير مخول: كاتب من حيفا.