سردية الجرح الفلسطيني: تحليل السياسة الحيوية لإسرائيل
غسان أبو ستّة وميشال نوفل
بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2020. 190 صفحة.
لم يستطع الطبيب غسان أبو ستة التفرج من بعيد على ما يحدث من مجازر في قطاع غزة، منذ العدوان الأول بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع حتى العدوان الأخير، وإنما كان هناك، يعالج الجرحى ويسجل ملاحظاته عن كيف يتقصد الجيش الإسرائيلي، ليس قتل الفلسطينيين في غزة فقط، بل إيذاء الشبان الفلسطينيين أيضاً من خلال استهداف أماكن في أجسادهم تحيلهم إلى معوقين مدى الحياة.
تلك الملاحظات والاستنتاجات تضمّنها هذا الكتاب الذي صدر في سنة 2020، وشارك في تأليفه وحرره الكاتب والصحافي ميشال نوفل. وقد أناط المؤلفان فيه اللثام عن سياسة إسرائيلية تهدف إلى خلق مجتمع فلسطيني في غزة، نصفه غير قادر جسدياً على العيش بشكل طبيعي، ونصفه الآخر منشغل بمساعدة النصف الأول، بما يحيل المجتمع كله إلى مجتمع غير قادر على عيش حياة عادية: اجتماعياً واقتصادياً وصحياً.
يتكون الكتاب من خمسة فصول يمهد لها ميشال نوفل باستعادة لمفهوم الجسد البشري في السياسة، والذي نظّر له الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو الذي يرى فيه أن ممارسات السلطة تستهدف إدارة حياة الناس "وليس فقط الأرض، وبالتالي فإن سياسة إسرائيل الحيوية في قطاع غزة تستهدف السيطرة على الأرض من خلال إعادة تكوين لحياة الغزّيين بما يمكّنها من السيطرة عليهم، حتى وهي خارج نطاق السيطرة المباشرة عليهم."
لقد تمكنت إسرائيل "بفضل ممارسة الإرهاب الشامل، من تفريغ فلسطين المحتلة العام 1948 من حيويتها البشرية وطاقتها السكانية وتحويل السكان العرب الأصليين فيها إلى كتلة هامشية"، ثم "اندفعت عبر عدوان 1967 نحو التوسع العسكري للاستيلاء على كل فلسطين وتطويق حياة الفلسطينيين بالمستعمرات الاستيطانية والتدابير القسرية التي تحرمهم من شروط العيش الكريم للتفكير بالسياسة والاستقلال."
ويستشهد نوفل في التمهيد بتصريحات للقادة الإسرائيليين تؤكد نياتهم منذ تأسيس دولتهم، ولا سيما ما ورد في خطاب بن - غوريون أمام اللجنة المركزية لحزب مباي بتاريخ 3 كانون الأول / ديسمبر 1947، والذي ذكره إيلان بابِهْ في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" (ص 279)، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية (2007)، إذ يقول: "لا يمكن أن يكون هناك دولة يهودية مستقرة وقوية ما دامت الأغلبية اليهودية فيها لا تتعدى 60%." وكذلك يستشهد بتصريح لبنيامين نتنياهو في كانون الأول / ديسمبر 2003، نقلته صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 17 من الشهر نفسه، واستشهد فيه بابِهْ أيضاً (ص 279)، بالتالي: "إذا صار العرب يشكلون 40% من السكان، فإن هذا سيكون نهاية الدولة اليهودية [....] لكن نسبة 20% هي أيضاً مشكلة، وإذا صارت العلاقة بهؤلاء الـ 20% إشكالية، فإن للدولة الحق في اللجوء إلى إجراءات متطرفة."
ويختم نوفل التمهيد بالإشارة إلى تطبيق أريئيل شارون في سنة 2005 "فكّ الارتباط بقطاع غزة"، وهو فعلياً فكّ ارتباط القطاع عن الضفة الغربية، والذي لاقى إسناداً دولياً بعد فوز "حماس" في الانتخابات في سنة 2006، وكان "عاملاً مهماً في تغطية الحربَين على غزة سنة 2008 – 2009 وسنة 2012"، ثم في سنة 2014.
وعن فكرة تأليف الكتاب، يقول نوفل: "ناقشت مواضيع هذا الكتاب مع الدكتور الطبيب غسان أبو ستة، وتمّ تسجيل الحوارات ثم صوغها بناء على تصميم مسبق لمحاور الكتاب التي وُضعت استناداً إلى متابعة لتجربة الدكتور أبو ستة وأعماله الميدانية والنظرية والكلينيكية، فضلاً عن محاضرات له ومقابلات معه وأبحاث قام بها المؤلف."
يُستهل نص الكتاب، بتعريف في الفصل الأول منه "بمسيرة الدكتور غسان أبو ستة بوصفه طبيباً معنيّاً بسردية الجسد الفلسطيني الجريح، منذ حرب النكبة (1948) حتى حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة."
ويتحدث الفصل الثاني عن "حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة"، ويعرض "وقائع تبيّن أنه خلال حرب 2008 تعمّدت إسرائيل ضرب القطاع بمليون ونصف المليون كلغ من المتفجرات، لكن هذه الحرب تميزت بأن الجيش الإسرائيلي استخدم فيها نوعاً جديداً من الفوسفور يُطلق كقذيفة من الجو أو البر، ويسبّب تشوهات كبيرة نتيجة لقوة الاحتراق." أمّا حرب 2014، ففضلاً عن ضربها البنى التحتية المدنية وإيقاع خسائر في الأرواح والأجساد، فإنها كانت "محاولة لتعطيل النظام الصحي في قطاع غزة من خلال ضرب سيارات الإسعاف واستهداف المدارس بعدما تحولت إلى ملاجىء، وتدمير المستشفيات."
الفصل الثالث يخرج عن التوصيف التقني للعدوان الإسرائيلي واستهدافاته، متناولاً "أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، وهو موضوع سجالي بامتياز، إذ تراوح الأزمة السياسية الراهنة في فلسطين، بين العجز أمام توحّش الاستيطان الصهيوني الآخذ في ابتلاع الأرض المحتلة، وتكريس دولة الآبرتايد، وسط الانقسام والتباعد بين السلطتَين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة [....] ويُحاجج هذا الفصل الثالث بأن الحركة الصهيونية استهلكت عملية أوسلو التي أنشأت طبقة مرتبطة عضوياً بالاحتلال الإسرائيلي، وتدافع عن مصالحها بشراسة تضاهي شراسة الاحتلال، لكونها لا ترى لها وجوداً خارج علاقتها بالاحتلال."
ويتناول الفصل الرابع تأسيس النظام الصحي العربي وانهياره، فالدولة العربية الحديثة بعد مرحلة الاستعمار، "اعتمدت الصحة والخدمات الطبية بوصفها أهم أدوات الشرعنة للسلطة. وعندما استقرت هذه الدولة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، اكتشفت أن هناك أدوات أُخرى تعزز شرعية الحكم وتتمثل في إنشاء طبقات موالية فضلاً عن البيروقراطية؛ ولذلك استمر التعليم الطبي مجانياً في العالم العربي." لكن مع انهيار بُنى نظام ما بعد الاستعمار، شهدت المنظومة الصحية انهياراً بدورها، "وتكشف الخريطة الطبية للعالم العربي مشكلة خطيرة تتعلق بهجرة الأطباء: 50 بالمئة من أطباء العراق هاجروا بعد حرب 2003، في مقابل هجرة 60 بالمئة من أطباء سوريا، و40 بالمئة من أطباء ليبيا"، وهو أمر لم يفلت منه لبنان أيضاً الذي كان يُعرف بمستشفى الشرق، لكنه بدأ يفقد كادره الطبي بسبب الانهيار الاقتصادي، والوضع السياسي الهشّ في البلد.
الفصل الخامس والأخير، يتناول الاستخدام السياسي لجروح الحرب و"كيف أن النخبة السياسية الحاكمة، تحدد القيمة السياسية لإصابات الحرب استناداً إلى درجة توافق السردية السياسية للجرح مع مشروعها السياسي أو ابتعادها عنه. وهو الأمر الذي يجعل القيمة السياسية للجرح تختلف طوال حياة الجريح، حسب تغير مآل المشاريع السياسية، والنخبة التي تقود تلك المشاريع، وبالتالي تتحول هذه القيمة السياسية إلى المعيار الرئيسي الذي يحدد توافر الرعاية الصحية للمريض أو حجبها."
أخيراً، هذا الكتاب ليس مجرد صفحات فيها مقدمة وتمهيد وخمسة فصول، بل هو أيضاً خلاصة تجربة درست بعمق جرح المواطن الفلسطيني في غزة الناتج من الحروب الإسرائيلية، بواقعها المادي الطبي، وحللت طبيعة هذا الجرح لتخلص إلى أن الأمر يتعدى ذلك إلى سياسة حيوية (بيوبوليتيك) إسرائيلية مدروسة، تسعى لتهشيم المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة جسدياً ونفسياً واقتصادياً واجتماعياً.
إنه كتاب بمثابة وثيقة تدين جرائم الحرب الإسرائيلية التي لا تنتهي بانتهاء الحرب، وإنما تترك ندوبها الدائمة على الأفراد، مثلما تترك ندوباً دائمة على المجتمع بأكمله.