في أواخر شباط / فبراير 1984، نشر إدوارد سعيد مقالته "إذن بالرواية"، بالإنجليزية، لا لطلب "إذن بالرواية" الفلسطينية عن أهوال حرب إسرائيل العدوانية على لبنان في صيف سنة 1982 فحسب، بل لنقد آليات صوغ الرواية الصهيونية النقيضة في الإعلام الغربي أيضاً، وخصوصاً الأميركي، بشأن الحدث ذاته، وتحديداً مجزرة صبرا وشاتيلا. صحيح أنه خلال سبعة وثلاثين عاماً، مرّت دماء كثيرة تحت الجسر، من بيروت إلى غزة، لكن العلاقة بين العدوانية الإسرائيلية، والتردي الفلسطيني، والتخاذل العربي، والاعتذارية الغربية، ازدادت اضطراداً. وهذه الترجمة المتأخرة، وهوامشها، ومقدمتها الموجزة، ترصد بالعربية بعض ملامح هذا الاضطراد، على مستويات: الحدث والصورة والأخلاق.
على مستوى الحدث، شهد لبنان، منذئذ، حربين؛ وشهدت فلسطين انتفاضتين، وثلاث حروب، واتفاقاً سياسياً كارثياً؛ وشهد العالم العربي خراباً هائلاً في أعقاب ثورات الربيع العربي. لكن الحدث التكويني الناظم لجغرافيا المعاناة، والذي صار بنية متناسخة، هو الحدث الاستعماري الصهيوني الذي لا يزال يحشر التاريخ في مسار المأساة التي حالت دون إتمام استقلال لبنان، ودون تحقيق استقلال فلسطين. أمّا أميركا، فتكفلت بالملهاة، إذ: اعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبالجولان جزءاً منها، وأنجزت "اتفاقيات أبراهام" التي أمّنت لإسرائيل اعترافاً معلناً بها من أربع دول عربية جديدة في إطار استعراضي كان سيستفز سعيد لأن يكتب "إذناً بعدم الرواية"، لو كان حياً، وذلك من فرط ما تبعث عليه الرواية الجديدة من الخجل والغثيان الأخلاقي.
أمّا على مستوى الصورة، وعلى الرغم من استمرار استحواذ الرواية الصهيونية على وسائل الإعلام الرسمية في الغرب الاعتذاري، وخصوصاً في أميركا، فإن الرواية الفلسطينية قطعت شوطاً كبيراً في تكريس نفسها كرواية ذات صدقية عن الحقّ الفلسطيني في وجه الباطل الإسرائيلي. صحيح أن مقولة بن – غوريون: "إن وجود إسرائيل أهم من صورتها" لا تزال تحكم السلوكَين العدائي والدعائي لإسرائيل، إلّا إن الفلسطينيين تمكنوا من فضح "وجود" إسرائيل و"صورتها" بفضل عدة عوامل، أهمها: إنتاج معرفة "علمية" عن فلسطين في الحاضنات البحثية الفلسطينية والعربية والعالمية؛ كسر احتكارية "البثّ" الممجوج للرواية الإسرائيلية في الإعلام الرسمي الغربي وذلك باختراق وسائل الإعلام البديل؛ بناء تحالفات عالمية كبرى، كحركة التضامن العالمية (ISM) وحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، بكل ما تتضمنه هاتان الحركتان من فعل يومي في جميع أنحاء العالم، ينتصر لفلسطين كقضية تحرر عادلة.
وفيما يتعلق بمستوى النقد، فقد تبلورت ممارسات نظرية تجاوزت ما طمح إليه سعيد من ضرورة وجود نقد لجوهر الصهيونية. ففي فلسطين اليوم، وفي العالم، باحثون تجاوزوا التدليل على الخبر القديم بحصرية الصهيونية وعنصريتها، فكرةً وحركة ودولة، نحو تأطيرها كحركة استعمار استيطاني غربية، وتأطير الحركة الوطنية الفلسطينية، كحركة تحرر وطني أصلانية. وبالتالي، لم يعد السقف الأخلاقي لمفهمة فلسطين هو الطلب من المتعاطفين مع قضيتها الإقرار بـ "الخطيئة الأولى" لإسرائيل (أي "الاستعمار" الذي نشأت عنه نكبة 1948 وليس فقط "الاحتلال" الذي نشأت عنه نكسة 1967). ذلك ما طلبه سعيد من تشومسكي، قبل نحو أربعة عقود، كمقدمة "أخلاقية" للانحياز إلى حل الدولتين. أمّا الآن، وبعد الموت الفعلي الذي تعلنه إسرائيل يومياً على الأرض لذلك الحل المشؤوم، فقد نشأت مجموعة تدعو إلى حل الدولة الواحدة (ليست دولة ميثاق سنة 1968 الديمقراطية)، والتي تتحرى في منطلقاتها حساسيات أخلاقية تجعل ما طمح إليه سعيد من الاعتراف بالمظلمة التاريخية الفلسطينية التي نجمت عن الحدث الاستعماري الصهيوني، بديهية أخلاقية لا هدفاً منشوداً.
تحرّز سعيد من "تشاؤمية تشومسكي"، وتطيّر من اقتران "تشاؤم العقل" بـ "تشاؤم الإرادة" في لبنان وفلسطين. فمع أن التاريخ جعل من تلك "التشاؤمية" نبوءة محققة لذاتها، إلّا إن التاريخ أيضاً، أتاح فسحات من الأمل: تحرير الجنوب اللبناني على الرغم من الدمار؛ تحرير غزة في فلسطين على الرغم من الحصار؛ استمرار إرادة الشعبين اللبناني والفلسطيني التي بشّر بها محمود درويش، في الإصابة بداء الأمل: يكتبون الحكاية، وإن لم يتمكنوا، بعد، من وراثة أرضها.
عبد الرحيم الشيخ
كنتيجة مباشرة لاجتياح إسرائيل للبنان في سنة 1982، أخذت بعثة دولية من ستة قضاة، برئاسة شون ماك - برايد، على عاتقها مهمة التحقيق فيما تم رصده من خروقات إسرائيل للقانون الدولي خلال الاجتياح. وقد نشر ناشر بريطاني نتائج البعثة في [تقرير] "إسرائيل في لبنان"،[1] وطبعاً لأسباب واضحة ومفهومة، إذ لم يكن ثمة ناشر للكتاب في الولايات المتحدة، ولن يكون أبداً. إن كل مَن يميل إلى التشكيك في الزعم الإسرائيلي بشأن مبدأ "طهارة السلاح"[2] الذي حكم الحملة العسكرية يمكن أن يجد ما يعزز شكّه في التقرير إلى حدّ الاستخلاص أن إسرائيل، أيضاً، مدانة بارتكاب "تطهير عرقي" و"إبادة" بحقّ الشعب الفلسطيني (اعترض عضوان من البعثة على تلك النتيجة بالتحديد، لكنهما قبلا كل ما سواها). فالنتائج مروّعة، ومروّع، بالقدر نفسه، نسيانها واعتياد إنكارها في التقارير الإعلامية، ومروّع حدوثها. تقول اللجنة إن إسرائيل مدانة فعلاً بعدوان مخالف للقانون الدولي؛ وباستخدامها أسلحة وأساليب حربية محظورة؛ وبقصف عشوائي أرعن لأهداف مدنية بشكل متعمد، "على سبيل المثال: مدارس، ومستشفيات، وأهداف أُخرى غير عسكرية"؛ وبقصف مدن وبلدات وقرى ومخيمات لاجئين على نحو منهجي؛ وبإبعاد السكان وتشتيت شملهم ومعاملتهم معاملة سيئة؛ ولم يكن لديها أي أسباب مقنعة "استناداً إلى القانون الدولي لاجتياح لبنان، فيما يتعلق بالطريقة التي شُنّت بها الأعمال العدائية، أو فيما يخص أفعالها كقوة محتلة"؛ وإنها تتحمل المسؤولية المباشرة عن مجزرة صبرا وشاتيلا.
ولذا، فإن تقرير بعثة ماك - برايد، كسجلّ للاجتياح، هو وثيقة بالغة الأهمية، غير أنه لم يكن له أثر ملموس في القوة الخارجية، أميركا، التي جعل دعمُها السخي لإسرائيل استمرارَ الاضطراب في لبنان ممكناً. إن السؤال السياسي الراهن هو لماذا، عوضاً عن تعديل صورة إسرائيل في الغرب، جرت مواءمة أحداث صيف سنة 1982 في كل مكان، تقريباً، في السياق العام، مع وجهة النظر التي كانت سائدة قبل تلك الأحداث؟ فإسرائيل، كونها دولة حضارية وديمقراطية، حكماً، لا تستطيع، دستورياً، القيام بممارسات بربرية بحقّ الفلسطينيين وآخرين من غير - اليهود، وعليه فإن اجتياحها للبنان كان مبرراً بصورة بديهية.
من الطبيعي أن أحيل هنا إلى آراء [أميركية] رسمية أو مؤثرة سياساتياً وليس إلى تلك المشاعر الجماعاتية الأولية المشوشة وغير الراضية عن أفعال إسرائيل، وذلك استناداً إلى العديد من الاستطلاعات. لقد ازدادت مستويات دعم الولايات المتحدة لإسرائيل منذ حصار بيروت إلى حدّ أن إسرائيل تتلقى تقريباً نصف ميزانية الدعم الأميركي الخارجي الذي يكون معظمه على شكل منح خالصة ومعونات للصناعات الإسرائيلية التي تنافس، وبشكل مباشر، نظيراتها الأميركية. إن الرؤساء الأميركيين، باستثناء جورج ماك - غوفرن وجيسي جاكسون، يزايدون الواحد على الآخر في تدبيج المدائح لإسرائيل. لقد جددت الإدارة الأميركية "التفاهم" الاستراتيجي الذي أقامته مع إسرائيل خلال فترة ألكساندر هيغ كوزير للخارجية، كأن الاجتياح لم يحدث قط، انطلاقاً من فكرة فحواها أن تلقّي إسرائيل دعماً غير محدود سيضمن أمنها، من ناحية، وسيجعلها تُبدي مزيداً من المرونة، من ناحية أُخرى. لكن هذا لم يحدث، فإسرائيل الآن تستولي على مساحات أكبر من الأرض العربية، وتمارس سياسات احتلالية أكثر سفوراً في وحشيتها وقمعيتها من معظم الأنظمة الاحتلالية في القرن العشرين.
غدعون سبيرو إسرائيلي شهد أمام بعثة ماك - برايد، قائلاً: " إننا لا ندفع ثمن أي شيء نفعله، ولا ثمن احتلال لمناطق، لأن إسرائيل، من هذه الناحية، معجزة فريدة، إذ ليس هناك دولة في العالم لديها تضخم بنسبة 100%، وتحتل الضفة الغربية، وتحتل شعباً آخر، وتبني مستعمراتها كلها بمليارات الدولارات، وتنفق 30٪ من الناتج القومي الإجمالي على الدفاع، ومع ذلك ما زلنا قادرين على العيش هنا. أعني أن ثمة مَن يدفع كل شيء ليتمكن كل شخص من العيش بشكل جيد والسفر وشراء السيارات، فلماذا لا نؤيد الاحتلال؟ وعليه، فهذه كلها حروب تَرَف، والناس فخورون جداً بالطريقة التي نقاتل فيها، وبالانتصارات السريعة، وبصورة الذات الكثيرة الإطراء للإسرائيلي الشجاع!"[3] نعم، لقد أبلى الإسرائيليون بلاء حسناً في الحرب، وفي معظم الأحيان لم يفعل العرب كذلك. لكن، كيف يمكن تفسير ظاهرة أن المبررات التي يدعم الغرب إسرائيل استناداً إليها، لا تزال قائمة، مثلما كانت عليه الحال طوال هذا القرن، مع أن الواقع والحقائق لا يمكن أن تؤيد هذه المبررات؟
انظر إلى صيف سنة 1982 عن قرب، حين تصدّت قلة من الفلسطينيين واللبنانيين، فقيري التسلح، للجيش الإسرائيلي الجرار، بسلاح جوّه وبحريّته، من 5 حزيران / يونيو حتى منتصف آب / أغسطس. لقد كان هذا إنجازاً سياسياً مهماً للفلسطينيين، لكن شيئاً آخر كان على المحك خلال الاجتياح إذا ما حكمنا على نتائجه بعد عام ونصف عام، وهي النتائج التي تتضمن: التراخي العربي، والتواطؤ السوري في محاولة الشرذمة الفاشلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، والعداء الأميركي المستفحل تجاه الوطنية الفلسطينية. ذلك الشيء، في اعتقادي، هو الوجود المرفوض للشعب الفلسطيني، بتاريخه وماهيته وتطلعاته، مثلما تعكسها رواية تاريخية متماسكة موجهة نحو حق تقرير المصير، وهي أمور كانت هدفاً لهذا العنف. فقد صُممت حرب إسرائيل لتقليص الوجود الفلسطيني بأكبر قدر ممكن، واعترف معظم القادة الإسرائيليين والصحف بالدافع السياسي للحرب. وبكلمات رافائيل إيتان، فإن تدمير الحركة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها في لبنان يجعل من السهل تدميرها في الضفة الغربية وغزة: كان يجب تحويل الفلسطينيين إلى "صراصير مخدَّرة في زجاجة." وفي تلك الأثناء، استمر تبنّي الكليشيه المروّجة لحقّ إسرائيل في أن تفعل ما يحلو لها: الفلسطينيون رفضويون وإرهابيون، وإسرائيل ترغب في السلام والأمن، والعرب لا يعترفون بإسرائيل ويريدون تدميرها، وإسرائيل ديمقراطية، والصهيونية إنسانية، أو يمكن جعلها تتناغم مع الإنسانية والاشتراكية والليبرالية والحضارة الغربية، والعرب الفلسطينيون هربوا في سنة 1948 لأن عرباً آخرين طلبوا منهم ذلك، ومنظمة التحرير الفلسطينية دمرت لبنان، وحملة إسرائيل العسكرية كانت نموذجاً في التحضر، وقد استُقبلت بحرارة من طرف "اللبنانيين"، وكانت فقط لحماية أهالي الجليل.
على الرغم من رأي بعثة ماك - برايد بأن "الحقائق تفصح عن نفسها" في حالة حرب الصهيونية ضد الفلسطينيين، فإن الحقائق لم تقم بذلك قط، وخصوصاً في أميركا حيث تجترح الدعاية الإسرائيلية لنفسها حياة خاصة، مع أنه في سنة 1975 كان في إمكان مايكل آدمز وكريستوفر مايهيو أن يكتبا عن السياسة المتناسقة وغير المعلنة للرقابة غير الرسمية على الصحافة البريطانية، والتي استناداً إليها، تم بصورة منهجية كتم الحقائق الكريهة عن الصهيونية.[4] لكن الوضع ليس قريباً من ذلك، من حيث الوضوح، فيما يتعلق بالإعلام البريطاني اليوم. ومع ذلك، فإن الوضع لا يزال على ما هو عليه في أميركا لأسباب متعلقة على ما يبدو، برفض مطلق من طرف صانعي السياسة والإعلام والنخب الثقافية الليبرالية، لعمل روابط، واستخلاص نتائج، وتقرير حقائق بسيطة يتناقض معظمها مع المبادىء السياسية الأميركية المعلنة. وللمفارقة، لم يحدث قط أن كُتب وعُرض بالمقدار ذاته عن الفلسطينيين الذين كان من النادر الإتيان على ذكرهم قبل عقد ونصف عقد. حسناً، إنهم موجودون هناك، لكن رواية وجودهم الفعلي، المنبثقة من قصة وجودهم في، وتشردهم من فلسطين التي صارت لاحقاً إسرائيل، رواية غير موجودة.
ثمة منظومة إعلامية تأديبية في الغرب تؤدي مهمتها في مراقبة معظم الأشياء الأساسية التي قد تقدّم إسرائيل بصورة سيئة، وكذلك معاقبة أولئك الذين يحاولون قول الحقيقة. كم عدد الأشخاص الذين يعرفون ماهية الأشياء التي يفصح عنها الحدث التالي - بالتحديد، وهو: المحافظة على تمييز صارم بين اليهودي المتمتع بالامتيازات، والفلسطيني المحروم منها في إسرائيل؟ المثال الذي حدث مؤخراً، تشير تفاهته إلى التمسك اللا - واعي، حتى الآن، بالتصنيف العرقي الذي يتخلل السياسة والخطاب الإسرائيليَّين الرسميين. وفي هذه الحالة، أستعير من البروفسور إسرائيل شاحاك، رئيس الجمعية الإسرائيلية لحقوق الإنسان، الذي نقل هذا الخبر من صحيفة "كول هاعير" الإسرائيلية، والتي ذكرته بقليل من التندّر:
اتفقت جمعية مربّي الأغنام (وهي جسم يهودي بالكامل استُثني منه العرب تماماً) مع وزارة الزراعة الإسرائيلية على بناء حظيرة خاصة لفحص لقاحات مختلفة على الأغنام. أي أغنام؟ الأغنام اليهودية في إسرائيل، مثلما يكتب باروخ بار - شاليف، الأمين العام لجمعية مربّي الأغنام، في رسالة عُمّمت على جميع المربّين. في الرسالة، طُلب من المزارعين دفع عشرين شيكلاً عن كل رأس غنم يهودي، مساهمة في إقامة الحظيرة. وقد تلقّت هذا الطلب، كذلك، سمدار كريمر من سكرتاريا "نفيه شالوم (واحة السلام)" قرب اللطرون، والتي أرسلت إلى جمعية مربّي الأغنام نصف المبلغ فقط المطلوب لبناء حظيرة الأغنام اليهودية لأن "واحة السلام" هي قرية عربية - يهودية، أي أن أغنامها كذلك عربية - يهودية. وقد ادّعت أن مربّي الأغنام ليس لديهم معرفة يقينية بشأن التزاوج المختلط بين الأغنام، وأنه تم مؤخراً مواجهة بعض الصعوبات في التحويل إلى اليهودية في حظيرتهم.[5]
قد يعتقد المرء أن هذا إمّا جنون، وإمّا فانتازيا هزلية أنتجها خيال [جوناثان] سويفت أو [فرانز] كافكا. أغنام يهودية؟ تحوُّل أغنام عربية إلى اليهودية؟ بالتأكيد هذه الأشياء لا يمكن أن تكون حقيقية، غير أن هذه التمايزات هي جزء من نظام الحصرية التملكية التي فُرضت على الواقع من طرف قوى مركزية في المجتمع الإسرائيلي، وهو نظام نادراً ما يتم نقاشه في الغرب، وبالتأكيد ليس على أي نحو يداني الكثافة التي يناقَش فيها الإرهاب الفلسطيني. وحين يحدث وتبرز محاولة للحديث عن إسرائيل بصورة نقدية، تكون النتيجة مرعبة، هذا إن نجحت المحاولة أصلاً في الانتشار. ثمة مؤشر صغير وهو حقيقة أن كل من رابطة مناهضة التشهير (ADL) في أميركا، ولجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية (AIPAC)، نشرت كتباً تعرّف بـ "أعداء" إسرائيل وتتضمن تكتيكات للشرطة أو إجراءات احترازية. وفضلاً عن ذلك، هناك امتثال عميق من طرف وسائل الإعلام التي أشرت إليها، بأن أي رواية مؤثرة، أو مقاربة فاعلة للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، يجب إمّا أن تهاجَما، وإمّا تهمَلا بشكل يقترب من الإجماع. ولعل أرباح رواية لو كاريه "الطبّالة الصغيرة"، أو فيلم كوستا - غافراس "حنّه ك."،[6] توضح هذه البدائل.
بعد أن حققت الرواية الفلسطينية حضوراً إقليمياً وعالمياً خلال الفترة 1970 - 1982، مثلما سنرى تالياً، فإنها لا تكاد تكون موجودة اليوم، وهذا ليس حكماً جمالياً. فعلى غرار الصهيونية نفسها، كان على الحركة الوطنية الفلسطينية بعد سنة 1948 أن تحقق مكانة رسمية وأيديولوجية قبل أن تحرَّر الأرض بكثير. غريبة هذه الوطنيات التي تمارَس لأعوام في المغترَبات والمنافي، وتكون لسنوات ناتئة وعنيدة، ويتم الإيمان بها بحماسة. الفرق الأساسي هو أن الصهيونية زهرة نمت في دفيئة القومية الأوروبية، اللاسامية والاستعمارية، في حين أن الوطنية الفلسطينية التي انبثقت من الموجة الكبرى من المشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار، وعلى الرغم من اصطباغها بالمشاعر الدينية الرجعية، تتموضع منذ سنة 1967، في التيار المركزي للفكر العلماني ما بعد الاستعماري. ولعل الأمر الأهم، هو أن الصهيونية حركة اغتصابية حين يتعلق الأمر بغير - اليهود، بينما كانت الحركة الفلسطينية، تحاول، ومنذ سنة 1967، بصورة عامة جامعة، وسواء بشكل كافٍ أم لا، أن تتعامل مع المشكلة الناشئة عن وجود أكثر من جماعة قومية في فلسطين التاريخية.[7] وخلال الفترة 1974 - 1982، كان ثمة إجماع دولي حقيقي ضامن للرواية الفلسطينية الجماعية، وراغب في إحيائها كسردية تاريخية، وإرجاعها إلى مكانها الأصل، وتأمين حل مستقبلي لقضية فلسطين. أتحدث هنا عن الفكرة القاضية بإعادة إسرائيل للأراضي المحتلة وإقامة دولة فلسطينية إلى جانبها.
وكان من الواضح أن هذا مناقض لماهية الصهيونية، على الرغم من الفروق الداخلية الكثيرة، ومع ذلك، فقد كان هناك كثيرون في العالم راغبين في، وقادرين على تفنيد مقولة غولدا مئير، في سنة 1969، والتي فحواها أن الفلسطينيين ليس لهم وجود تاريخي، ولا هوية جماعية، ولا حقوق وطنية.[8] غير أنه حين اقترحت الحركة الوطنية الفلسطينية بأكملها، حلاً سياسياً في فلسطين، مستندة إلى رواية شكّلها المنفى والعودة والتقسيم، من أجل إيجاد مكان لشعبين، واحد يهودي وآخر عربي، لم تقبل بذلك لا إسرائيل ولا الغرب. ومن هنا، كان الصراع العربي والفلسطيني الداخلي المرّ الذي سبّبه فشل عرفات (تيار منظمة التحرير الفلسطينية المركزي) في الحصول على أي ردّ حقيقي على فكرة التقسيم من طرف الدول الغربية الأكثر ارتباطاً بمصير فلسطين، وقد عبّر برونو كريسكي عن هذه الحالة بقوة حين قال: "إن فشل عرفات هو خطؤنا."[9] إن رمزية قتال الفلسطينيين الداخلي، في ضواحي طرابلس البائسة في شمال لبنان، لا يمكن إساءة تفسيرها، فالمسار الذي اتخذه الفلسطينيون: من فلاحين إلى لاجئين إلى ثوريين لشعب في المنفى، على حدّ تعبير روز ماري صايغ،[10] توقف في الوقت الحالي، واستدار على نفسه بشكل عنيف. فما كان مرة بديلاً جذرياً من شيفرة الحصرية اليهودية في الصهيونية، يبدو الآن أنه تضاءل إلى مجرد نقاط على الخريطة على بعد أميال من فلسطين. فلبنان، والحشد السوفياتي، وسورية، والميليشيات الدرزية والشيعية، وشبه الاتفاق الأميركي - الإسرائيلي الجديد، باتت جميعاً تسيطر على المشهد، وهذا كله يستنفد الطاقات السياسية.
ثمة قصتان توضحان المشكلة السياسية والأيديولوجية التي أحاول وصفها. فبين 29 آب / أغسطس و7 أيلول / سبتمبر 1983، عقدت الأمم المتحدة، وبتوكيل من الجمعية العامة، مؤتمراً دولياً بشأن فلسطين.[11] وكان من المقرر أن يُعقد المؤتمر في باريس، لكن بسبب الخشية من التهديد بالتظاهرات من طرف المنظمات الصهيونية الفرنسية، طلبت حكومة متيران أن يُعقد المؤتمر في مكان آخر. وفي مقابل قبول طلب حكومة متيران من طرف الأمم المتحدة التي كانت مخوّلة عقد مؤتمر في مقار اليونسكو (التي تملك ولاية سيادية عليها) في باريس، فإنها طلبت من فرنسا أن تحضر بصفة تمثيلية كاملة. وفعلاً، وبحسب الأصول، نُقل مكان عقد المؤتمر إلى جنيف، لكن فرنسا، وبحسب الأصول أيضاً، نكثت بوعدها وشاركت بصفة "مراقب" فقط. وقد شارك في المؤتمر 137 دولة، وهذه حقيقة جرى تغييرها مراراً وتكراراً إلى 75 دولة من طرف الصحافة الأميركية. وكان من المقرر أن تكون الوثيقة المركزية للمؤتمر بعنوان "لمحة عن الشعب الفلسطيني"، وكان العنوان وموضوع الدراسة قد حُددا من طرف الجمعية العامة. وقد اشتركتُ مع مجموعة صغيرة من "الخبراء"، في صوغ الدراسة التي أُحيلت إلى مكتب الأمين العام لمدة ثلاثة أشهر، ثم أُعيدت إلى اللجنة التحضيرية المكونة من 20 دولة من أجل التداول، وظلت هناك حتى بدايات حزيران / يونيو، حين أُخبِرتُ أن الدراسة لا يمكن، ولن يمكن أبداً، إقرارها لاستخدام المؤتمر.[12] الأسباب المعطاة، كالعادة، كانت دبلوماسية ومتعددة، لكن ومثلما أوضح لي سفير اعتذاريّ من إحدى الدول العربية الصديقة، فإنه بافتراض وجود الشعب الفلسطيني وحكايته التاريخية، تكون الدراسة قد "خلقت" مشكلةَ ثنائيةٍ - قوميةٍ للدول العربية التي ما زال الشعب الفلسطيني مشتتاً فيها منذ سنة 1948.[13] هذا، وتنطبق التقييدات والمخاوف نفسها على المقترح الذي تقدّمتُ به لإجراء التعداد الأول من نوعه للفلسطينيين الذين يقيم معظمهم في العالم العربي. وثمة سياق عربي وآخر إسرائيلي، وقد قيل لي: أن تتحدث عن الفلسطينيين خارج المناطق المحتلة يعني تحدّي الرواية العربية الجامعة، وبكلمات مسؤول عربي شاب، فإن هذا يعني رؤية التاريخ بطريقة موغلة في "الليبرالية والنظرة الغربية." لذا، فإن الفلسطينيين لا رواية لهم، ولا نبذة عنهم، ولا إحصاء: فلسطين نعم، الفلسطينيون لا.
الحادثة الثانية مأخوذة من الجانب الآخر حيث الأشياء، مثلما رأينا، ليست أقل غرابة. فقد كتب المعلق الإسرائيلي يوآف كارني في سنة 1983: "دُعيت في الأسبوع الماضي إلى برنامج (صحيح حتى الآن) في إذاعة الجيش الإسرائيلي للحديث عن الخلفيات التاريخية للإرهاب الأرمني. وعلى عكس ما اعتاد عليه المحرِّرون، فإنهم أصروا على تسجيل المقابلة سلفاً. لاحقاً، عرفتُ السبب، فقد سُئلتُ إن كانت الهولوكوست الأرمنية قد حدثت فعلاً، وأجبت: (ليس ثمة شك في أن الإبادة حدثت. فلآلاف السنين عاش شعب على أرضه، وفجأة لم يعودوا هناك. هذه إبادة)، أو كلمات على هذه الشاكلة. رفضت إذاعة صوت الجيش بثّ المقابلة، وكانوا على استعداد لفعل ذلك بشرط واحد، وهو أن أغيّر النص، وأقول: (حدثت مجزرة ربما تقترب من الإبادة)."[14]
يخلص كارني إلى القول: "ربما كان خطأً كبيراً من طرف الجيل الأخير من اليهود الذين تسببوا بذلك. فقد كان يجب حظر تفرّد اليهود بالتعامل مع مصطلح (إبادة) على أنه يخصهم وحدهم دون غيرهم، كما كان يتعين أن يقال في المدارس الإسرائيلية إن شعوباً أُخرى كانت، ولا تزال، مشردة وتُرتكب في حقّها المجازر." وعلى العكس من ذلك، فإن حاييم هيرتسوغ يقول للإسرائيليين: حين تعزز إسرائيل علاقتها الجيدة مع أنظمة يمينية تمارس تمييزاً عرقياً وتقتل شعوبها، فإن المعيار الوحيد يجب أن يكون: "هل هذا في مصلحة اليهود؟" وقد تم التعبير عن مشاعر ذات علاقة بهذا الأمر من طرف يهودي - إسرائيلي من سكان نتسيرت علّيت حين قال عن جيرانه العرب - الإسرائيليين: "الحب أكثر خطورة من الكره. إنه أكثر خطورة على وجودنا."
لم يحدث قط أن كانت الرواية الفلسطينية مقبولة للتاريخ الإسرائيلي، اللهمّ إلّا بصفتها رواية "غير - اليهود" الذين كان وجودهم الخامل في فلسطين مصدر إزعاج يجب تجاهله أو طرده. وباستثناء فئة صغيرة وهامشية من الإسرائيليين، فإن معظم إسرائيل لم يجد صعوبة في التعافي من قصة الحرب على لبنان وما تلاها من فظائع. خذ أبا إيبان، مثلاً: فهو ليبرالي وإنساني وعقلاني، لكنه في مقدمته لـ "تقرير لجنة كاهان الإسرائيلية" الذي نُشر في الغرب ككتاب، يشيد بالتحليل "بالغ الدقة" الذي يعفي إسرائيل من المسؤولية، بشكل أو بآخر. ومع ذلك، فإنه لا يذكر في أي مكان من المقدمة أشياء من قبيل الطبيعة الفاشية الواضحة لحلفاء إسرائيل الرئيسيين، حزب الكتائب اللبنانية، أو على الحقيقة، التي لا تفصح عن نفسها، وهي: أن الفلسطينيين في لبنان لم يكونوا "إرهابيين" حكماً، مثلما ينصّ التقرير، وإنما كانوا هناك لأنهم أُجبروا على الخروج من فلسطين في ظل استمرار لسياسة الطرد المعترَف بها.
ولذا، فإن إيبان، وعلى غرار بيغن وشارون، يرفض اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية أكثر من مجرد عصابة من الإرهابيين، بل إنه فعلاً، يجعل الأمر يبدو كأن منظمة التحرير الفلسطينية والكتائب، وكلاهما "فاعل رئيسي في المأساة"، يتساويان في تحمّل المسؤولية عن قتل الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا. أمّا بالنسبة إلى السؤال عمّا إذا كان "الإرهاب" معرَّفاً على نحو مُرضٍ بنسبته إلى الفلسطينيين بسبب القتلى الإسرائيليين (الإحصاءات مثيرة للاهتمام، إذ خلال الفترة 1967 - 1982، قُتل 290 إسرائيلياً جرّاء الهجمات الفلسطينية، بينما إحصاءات الشرطة اللبنانية والأمم المتحدة والصليب الأحمر تشير إلى مقتل 20,000 عربي على يد إسرائيل بين تموز / يوليو وآب / أغسطس 1982 فقط)، أو عمّا إن كان كل فعل مقاومة فلسطيني يُعتبر إرهاباً، فإن أبا إيبان لا يقول شيئاً. ومع ذلك، فإن التقرير الإسرائيلي الآخر عن صبرا وشاتيلا بالغ الوضوح بشأن مسؤولية إسرائيل وتواطئها مع ما حدث. وهنا، أحيل إلى الكتاب الموجز والمذهل للصحافي الإسرائيلي أمنون كابليوك: "صبرا وشاتيلا: تحقيق عن المذبحة"،[15] الذي لم يعثر بعد على ناشر بريطاني أو أميركي معروف يُخرجه إلى النور.
الحقائق لا تفصح عن نفسها أبداً، بل إنها تتطلب رواية مقبولة اجتماعياً لتستوعبها وتبقيها وتعمّمها. ورواية كهذه يجب أن يكون لها بداية ونهاية: في الحالة الفلسطينية، تكون وطناً لإنهاء الشتات منذ سنة 1948. لكن، ومثلما لاحظ هايدن وايت في مقالة تأسيسية، فإن: "الرواية عموماً، من الفلكلور حتى الرواية [الفنية]، ومن الحوليات حتى (التاريخ) المتحقق تماماً، يجب أن تنشغل بموضوعات القانون والدستورية والمشروعية، أو بشكل أكثر عمومية، السلطة."[16] الآن، ثمة عدد كبير من قرارات الأمم المتحدة التي تصادق على كون الفلسطينيين شعباً، وعلى مشروعية نضالهم، وعلى ضرورة أن تكون لهم دولة مستقلة كحقّ "غير قابل للتصرف"، لكن هذه القرارات ليس لها السلطة التي يتحدث عنها وايت، ولم يحظَ أي منها باعتراف إسرائيل والولايات المتحدة اللتين ألزمتا نفسيهما بنوع من اللا - رواية وصيغ لا نهاية لها (في اللغة الرخوة لتصريحات الولايات المتحدة)، نحو: "حل المسألة الفلسطينية من جوانبها كافة."[17]
لم يكن في وسع أي مشاهد للتلفزيون أن يشك في أن الإسرائيليين كانوا متوحشين وهمجيين خلال حصار بيروت، لكن الحملة شُنّت في الإعلام لمهاجمة الإعلام بصفته مؤيداً لمنظمة التحرير الفلسطينية. وقد بدأت الحملة قبل بدء الاجتياح في المنشورات المؤيدة للصهيونية مثل "نيو ريبابلك"، وتواصلت في "إنكاونتر" و"كومّنتري" و"بوليسي ستاديز"، وكذلك في الجامعات حيث قُدّمت بوتيرة منتظمة، محاضرات معنونة بـ: "ن. بي. سي. في لبنان: دراسة في إساءة التقديم". موضع الشاهد هنا أن الإعلام أخذ حريته في التعبير للقول: إن المقارنات بين وارسو وبيروت أمر خطأ، وأي صور تبيّن تورط القوات الإسرائيلية في قصف أهداف من الواضح أنها مدنية هي معاداة للسامية، كما أن ملايين الأشرطة الإخبارية أقل صدقية من انطباعات مناصر لإسرائيل تجوّل يوماً واحداً في لبنان في ضيافة الجيش الإسرائيلي. لقد أضمر الهجوم على الإعلام اتهاماً فحواه أن منظمة التحرير الفلسطينية خوّفت الصحافيين أو استدرجتهم إلى مهاجمة إسرائيل على نحو فئوي ومعادٍ للسامية وللغرب، وهي تهمة كالَها نورمان بودوريتس متحذلقاً في محاكاة مقولة [إميل] زولا "أنا أتهم J’Accuse".[18]
لقد ساهم تكرار هذه الادعاءات ومراكمتها في تشكيل أصولية افتراضية، وترسيم حدود، وتأكيد ضغوطات، ولعل حادثة تشاونسلير في تموز / يوليو 1982 تمثّل معْلماً بارزاً في هذه العملية. وجون تشاونسلير هو معلق تلفزيوني أميركي بارز وصل إلى بيروت خلال الحصار، وشهد على الخراب الذي سبّبه القصف العشوائي في كل مكان حوله. وقد اشتمل التقرير الذي أنتجه، وشاهده جمهور أميركي عريض، على إحالات إلى "إسرائيل المتوحشة"، و"الدولة الإمبريالية التي لم نعرف بوجودها من قبل." لكن، بعد أسبوع من ذلك، ظهر تشاونسلير في القدس وقد تراجع، بشكل أو بآخر، عن أقواله في بيروت: فما رآه هناك، مثلما يقول الآن، كان "خطأً"، إذ إن إسرائيل لم تقصد حصار المدينة بل "تعثرت بها". وبشأن هذا التذبذب، كتب ريتشارد بوارييه في الـ "راريتان ريفيو" أن "المشاعر التي أثيرت في تشاونسلير (وفي الملايين من المشاهدين على ما يبدو) بسبب المشاهد التلفزيونية، ليس لها مكان تذهب إليه خارج البرنامج."[19] وبعيداً عن تغيير رأيه بين أسبوع وآخر، فإن تشاونسلير "أظهر، بغباء، إلى أي مدى تعتمد بنية أخبار المساء على أفكار عن الواقع يتم تحديدها عبر خطاب سياسي واجتماعي جرى تعزيزه سلفاً خارج غرفة الأخبار. فالمشاعر تجاه ضحايا الحصار لا يمكن ربطها، مثلاً، بفكرة إقامة دولة فلسطينية، ذلك بأنه، وعلى الرغم من الالتزامات الخجولة باتفاقيات كامب ديفيد، فإنه ليس هناك فكرة بعدُ تحاول إيجاد مفردات تمكينية ضمن ما يُعتبر خطاباً سياسياً (معقولاً) في هذا البلد." ولعل ما يتعين إضافته إلى ملاحظات بوارييه الذكية هو أن "فكرة" دولة فلسطينية يجب أن يتم تمكينها بقبول مسبق لرواية تاريخية تتضمن وطناً. وقد لقي هذا الأمر ممانعة حادة على الصعد المخيالية والأيديولوجية بقدر حدّتها على الصعد السياسية.
صحيح أن البعد الأيديولوجي مهم دائماً في الصراعات السياسية، لكن المفارقة هنا أن المسافة الفيزيائية من المنطقة المنشودة، وأهميتها البالغة، تحتّمان وجود حاجة ماسة إلى إسقاط أيديولوجي ماضوي في الرواية المتشكلة في الغرب. ففلسطين موقع يحظى بامتياز خاص في اليهودية والمسيحية، أصلاً وعودة، علماً بأنها لألف وخمسمئة عام كانت في أيدٍ غير يهودية وغير مسيحية. ولعل ذلك يلاحَظ بوضوح في أحداث كبرى كالحروب الصليبية، والصراعات الإمبريالية في القرن التاسع عشر، والصهيونية، وفي ركام النصوص الثقافية الأساسية من اعترافات [القديس] أوغسطين الذاتية، إلى رؤيا دانتي [أليغييري]، إلى جغرافيا [وليام] شكسبير الدرامية، إلى قيامية [وليام] بليك. وبتعبيرات أكثر عينية ودنيوية، فإن فلسطين كانت، أيضاً، مهمة للتجربة العربية والإسلامية، ولعل كتابة دراسة تقارن تلك التجربة بالتجربتَين اليهودية والمسيحية ستكون أمراً على قدر عالٍ من الأهمية. ما أود قوله هو أن الغرب، وبقدر ما منح الصهيونية، وعلى نحو تكاملي، دوراً تقوم به في فلسطين إلى جانبه، قد وقف ضد الرواية، ربما المتواضعة، للأصلانيين الفلسطينيين الذين كانوا هناك، والذين يعيدون الآن بلورة أنفسهم في المنفى وفي المناطق المحتلة.
وإذا أُخذت هذه الخلفية بعين الاعتبار، فإن الشجب الحالي للإرهاب يغدو مفهوماً بسهولة. فالإرهاب (مثلما جرى صوغه أول مرة خلال الأشهر الأخيرة من إدارة كارتر، وتم تفصيله في كتاب على شاكلة "شبكة الإرهاب" أو رواية "السنبلة"،[20] واستخدامه بلا قيود من طرف المسؤولين الإسرائيليين، والأميركيين الآن، لوصف "الأعداء") هو أكثر المصطلحات إبهاماً، لكنه، وللسبب ذاته، أكثر المصطلحات دقة أيضاً. إن ذكر هذا ليس أبداً للقول إن الإرهاب غير موجود، بل للإشارة إلى أن وجوده أنتج نظاماً دلالياً جديداً كاملاً أيضاً. فالإرهاب، أولاً، فيما يتعلق بـ"نا"، يشير إلى الغريب، وبشكل غير مبرر، إلى القوة المعادية. إنه هدّام ومنهجي ومسيطَر عليه، وهو منظومة وشبكة ومؤامرة تتم إدارتها، من موسكو، عبر بلغاريا وبيروت وليبيا وطهران وكوبا. إنه قادر على كل شيء. وقد صدر كتاب إسرائيلي مناوىء وشديد الحماسة ضد الشيوعية، يكشف أن مجازر صبرا وشاتيلا خُطّطتا من جانب موسكو ومنظمة التحرير الفلسطينية لقتل الفلسطينيين (باستخدام الألمان) للكيد بإسرائيل الديمقراطية.[21] وأهم من ذلك كله، صار الإرهاب يعني وجهة نظر"نا" عن أي شيء في العالم الذي يبدو معادياً لمصالحنا، أو لجيشنا، أو لسياستنا، أو لقيمنا.
وهكذا، صار ممكناً استخدام الإرهاب بأثر رجعي (في حالة إيران ولبنان)، وبأثر استشرافي (في حالة غرينادا وهندوراس ونيكاراغوا)، لتبرير أي شيء نقوم "نحن" به، ولنزع الشرعية والإنسانية عن كل شيء يقومون "هم" به. إن عشوائية الإرهاب، حقيقة ووصفاً، وطبيعته الملأى بالحشو والتكرار، هي ضد - الرواية، ومعادية للسرد، وعليه، فإن منطق السبب والنتيجة كالذي بين الجلادين والضحايا، وصراع الأضداد، يختفيان داخل غيمة حاجبة تُسمّى "الإرهاب". لقد أشار المعلقون الإسرائيليون إلى أن الاستخدام المنهجي من طرف بيغن وشارون وإيتان وآرينس صفةَ "إرهابي" لوصف الفلسطينيين، جعلهم قادرين على استخدام تعبيرات، نحو: "أعشاش إرهاب"، و"نمو سرطاني"، و"وحوش تسير على قدمين"، من أجل قصف مخيمات اللاجئين. وقد قال أحد المظليين الإسرائيليين: "إن كل فلسطيني هو، تلقائياً، مشتبه فيه كإرهابي. واستناداً إلى تعريفنا للمصطلح، فإن ذلك صحيح فعلاً."[22] وهنا، لا بدّ للمرء من إضافة أن لغة الليكود المعادية للإرهاب وأساليبه لا تمثل إلّا تصاعداً في حدة السياسات الإسرائيلية السابقة التي لم تكن أقل تصلّباً تجاه الفلسطينيين حتى إن كانوا بشراً حقيقيين ولهم تاريخ حقيقي.
فلا عجب، إذاً، في أن "الحقائق"، وماهية التجربة التاريخية المتعاقبة، ليس لها حظ وافر بقبول واسع أو انتشار في غابة المرايا هذه: فأن تعرف مثلاً، أن عصابتَي شمير وشتيرن تعاملتا مع النازيين،[23] أو أن كل شيء يفعله الإسرائيليون الآن بالفلسطينيين هو عبارة عن وحشية واضطهاد يضاهيان بسهولة أفعال النظامَين البولندي والجنوب - أفريقي، هما أمر محزن كمعرفتك أن الأنشطة المناهضة للتمييز العنصري تتجنب نقاش إسرائيل حين تنتقد واحدة من حلفائها الرئيسيين - جنوب أفريقيا، أو أن الصحافيين الأميركيين لا ينقلون في تقاريرهم تفصيلات الحياة اليومية في الضفة الغربية بالإصرار نفسه الذي ينقلون فيه أخبار الحياة اليومية خلف الجدار الحديدي، أو أن قادة حركة مناهضة الأسلحة النووية ليس لديهم أي شيء يقولونه عن الخطر النووي الإسرائيلي. والأسوأ من ذلك أن الجهل بموقف إسرائيل من الفلسطينيين يتواصل بالتزامن مع مدائح روح إسرائيل الريادية وديمقراطيتها وإنسانيتها. وبشأن اقتلاع البيارات الفلسطينية في غزة في سنة 1972 لمصلحة المستعمرات، يعقّب تشومسكي بأن هذا هو "ما يُدعى، بتعبيرات تقنية، (جعل الصحراء تزهر)."[24]
كان هناك لاجئون من قبل، وكان هناك دول جديدة بُنيت على أنقاض أُخرى قديمة، لكن الشيء الفريد بشأن هذا الوضع هو مركزية فلسطين غير العادية التي تفضّل رواية غربية جامعة تركّز على المنفى والخلاص اليهودي، وتحدث كاستعراض حديث أمام أعين العالم. ولذا، فإنه حين يقال للفلسطينيين أن يتوقفوا عن الشكوى وأن يذهبوا إلى مكان آخر كأي لاجئين آخرين قبلهم، فإن من حقهم الردّ بأنه لم يكن هناك لاجئون آخرون أُلزموا منهجياً بأن يشاهدوا احتفالية لا تنتهي من المصادقة العامة على الحركة السياسية، أو الجيش، أو الدولة التي أحالتهم إلى لاجئين واحتلت أرضهم. ومثلما يلاحظ تشومسكي، فإن ثمة قاعدة فحواها أن الجيوش المحتلة لا "تحظى بالتقدير من طرف المثقفين الأميركيين جرّاء التزامها الفريد والاستثنائي بـ (طهارة السلاح)."[25] وفوق ذلك كله، فإنه متوقع من الفلسطينيين أن يشاركوا، في الوقت نفسه، في تفكيك تاريخهم الخاص.
وما دامت النقاشات بشأن فلسطين وإسرائيل تتم على هذا المستوى، فإن اليد العليا للإجماع الأيديولوجي الذي وصفتُه ستظل مهيمنة، ويتعين على الفلسطينيين أساساً، أن يقوموا بدور رئيسي في تغيير هذا الإجماع، لكن للأسف فإنهم كالعادة، لم يكونوا ناجحين جداً. أتذكر أنني خلال حصار بيروت كنت مهووساً بالقول للأصدقاء والعائلة هناك، على التلفون، إنهم ملزمون بتسجيل تجاربهم وكتابتها، إذ بدا ذلك ضرورياً كنقطة انطلاق لتزويد العالم ببعض حقائق الرواية، فضلاً عن المقاطع التلفزيونية المجزأة والمحددة التي تُظهر ما ينتج من "معاداة الإرهاب" الإسرائيلية، والتي تُعرف، أيضاً، باسم "سلامة الجليل". وبطبيعة الحال، فقد كانوا جميعاً بالغي الانشغال بالبقاء في قيد الحياة لأن يأخذوا على محمل الجدّ الضرورات النظرية غير الواضحة، والتي يحضّهم على فعلها فوراً، ابنٌ، أو أخ، أو صديق بعيد. ونتيجة ذلك، فإن أغلبية المواد المكتوبة والمتوفرة بسهولة، والتي أُنتجت منذ سقوط بيروت، لم تكن في حقيقة الأمر فلسطينية، وإنما كانت محدودة التنوع،[26] وتشكّل أرشيفاً صغيراً ستتم مناقشته من حيث الغيابات والفجوات، أو من حيث ما قبل - الرواية، أو بمعنى ما، ضد – الرواية. وهذا الأرشيف يتحدث عن الوضع البائس للرواية الفلسطينية في الوقت الحاضر.
لكن هذا لا يجعل أياً من الأعمال التي هي في قيد البحث أقل شجاعة، أو أقل دلالة على العزلة الأخلاقية الجديدة التي تحيط بإسرائيل، على الرغم من الغياب الكامل للرواية الفلسطينية. فكل من هذه الأبحاث يعمل على مستوى أوّلي لا بدّ منه كشاهد قيّم، وكمعلومة خام لإطار ما، في أوروبا أو أميركا، حيث تعمل تعريفات الشرق الأوسط على عرض حقيقة أفعال إسرائيل. جوناثان راندل (وهو مراسل أميركي كبير، خدم في فييتنام وكوبا والجزائر، شأنه شأن جوناثان بلوخ من "الديلي تلغراف"، وآمنون كابليوك وسليم نسيب وكارولاين تِسْدال وطوني كليفتون) هو صحافي يكتب ما يمكن اعتباره، فعلاً، ريبورتاجاً فائضاً عن الحاجة، كأن تقييدات الأعمدة الصحافية لم تستطع أن تتسع لما جرت مشاهدته،[27] وهذه ظاهرة لافتة، وربما أسلوب صحافي جديد. فكل من هؤلاء الكتّاب، باستثناء تشومسكي، يقول قصة متعاطفة مع الفلسطينيين، إن لم تكن دائماً في اتفاق سياسي معهم، كما أن هناك تضامناً مع اللبنانيين الذين عانوا لعقود من الغباء الخالص لقادتهم وأصدقائهم الأجانب. هؤلاء الكتّاب كلهم يؤرخون وحشية الحصار القاسية، والغضب الملموس من اللغة المداهنة للمراسلين الحربيين الذين يعقّبون على المجزرة والبطولة. وعلى الرغم من تقاطع أعمالهم بطرق شتى، فإن كلاً منها يضيف جزءاً إلى الصورة الأكبر التي حاول تشومسكي رسمها بأسلوبه الموسوعي الرصين.
كسردية خطّية للمعركة المتأججة في بيروت بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، فإن كتاب بلوخ يصعب بذّه، على الرغم من امتلائه بالأخطاء بفعل الإهمال (سعيد عقل بدلاً من باسل عقل، مثلاً). فقد أبرز اختصاره ونظرته الصارمة غير المستغربة صورة واضحة، على الرغم من محدوديتها، لأي قوى كانت مشتبكة بعضها بالبعض الآخر، وكانت خلاصتها أن إسرائيل خسرت الحرب. وعلى الرغم من بذله جهداً في وصف زخم الوطنية الفلسطينية وإنجازاتها غير المتوازنة وغير المألوفة في لبنان، وتورّطها الفوضوي الذي لم يكن منه بدّ في السياسات اللبنانية والسورية، وجهودها التي كانت أفضل من المتوقع للتعامل مع ظروف يصعب على أي كان التغلب عليها، فإنه يكتب كشخص من الخارج، وقليل من سرديته يهيّىء المرء للدراما المستمرة لمنظمة التحرير الفلسطينية، أو للاحتلال الإسرائيلي الدامي للجنوب اللبناني، أو للكارثة الوطنية الموجودة في لبنان منذ آب / أغسطس 1982.
ينتمي بلوخ إلى المدرسة التي تفكر في تاريخ لبنان على أنه القصة القديمة للزعماء (أو السدنة شبه - الإقطاعيين)، والأحزاب، والولاءات. إنه يسير على خطى المؤرخ اللبناني الرائد كمال صليبي في هذا النهج،[28] وهو على عكس إيلي سالم (وزير الخارجية اللبناني في أثناء كتابة هذه الدراسة)، لم يستنتج أن ازدهار لبنان المفاجىء تكرّس، وأنه لم يكن ليتكرّس قط، لولا الاضطراب الكارثي مثلما تنبّأ سالم في فترة الاثنَي عشر عاماً الماضية.[29] وللأسف، سيكون صعباً ألّا يكون المرء على خطأ أكثر من هذا، لأن كل مَن تنبّأ بكارثة العقدين، أولاً بالثروة، ثم بالحرب الأهلية التي مزقت لبنان، هو محقّ في رأيه.
الفصل الأول من كتاب ديفيد غيلمور[30] يعرّي الغابة التي كانها "لبنان القديم" بدقة لا هوادة فيها، وفصله الأخير يتنبّأ بالسيناريو الذي يحدث الآن. فروايته عن الفوضى الكاملة التي أطلقت عنانَها التجارةُ القرصانية، والعجز الحكومي، والإرباكات الإقليمية والأيديولوجية، والتغير الديموغرافي الهائل، والكلبية الفادحة، تُعتبر سردية فريدة من نوعها. إنها تمنح المرء مُعقلِناً مقنعاً لظهور منظمة التحرير الفلسطينية داخل لبنان (بدلاً من "غزوها" له)، حيث لا يمكن لأحد على الإطلاق من اللاجئين المعدمين والمحاصرين أن يعيش من دون حماية من تنظيم سياسي. ومع ذلك، فإن المرء يشعر بشيء من خيبة الأمل في كتاب غيلمور تجاه السمة الاستعصائية واللا - سردية لمشكلات لبنان، إذ لم يسبق أن مزّق مجتمع حديث نفسه عبر ذلك المزيج المجنون من الوحشية، فقليل من الدول كثّف ضمن حدوده مجموعة من المصالح بالغة التباين، والتي يتخذ معظمُها السيطرةَ المقيتة، والربح، والتلاعب، أهدافاً له.
ثمة إشارة إلى هذا في العنوان الأميركي لكتاب راندال "الذهاب إلى آخر الطريق"، إذ إن كثيراً من مادته ينقل، على نحو مشابه، جنون لبنان: رغبة اللبنانيين الجامحة في تجهيز انفجار سيارة أُخرى (وهذا بالتأكيد صار في مرحلة "ما بعد - السياسة" نوعاً من الفن)، والفانتازيات الأيديولوجية الانتهازية الغبية التي تدشّنها التنظيمات المتنوعة. ومع أن هناك جذوراً فكرية وثقافية لهذه الأمور التي تحرك الموارنة والمسلمين السنّة والشيعة والمسيحيين الأرثوذكس والدروز في لبنان، إلّا إن راندال للأسف لا يبحثها، وخصوصاً أنه يذكر أن ثمة الآن أدبيات متخصصة تعني مجموعة الصحافيين الغربيين المتأثرين بالتحول السريع والمتكرر في أمكنة معقدة كلبنان، وهذه دراسات يجب عدم تجاهلها، كدراسات ألبرت حوراني ودومنيك شوفالييه الرائدة عن لبنان وسورية، والتي جرى استلهامها في أعمال زملاء وتلاميذ أحدث سناً. وبدلاً من ذلك، فإن راندال يعتمد على حدسه في الملاحظات ذات العلاقة، كما أن مقارباته للهزيمة، ولحالات "النفي" المتعددة، بين الجماعات التي نهض عليها لبنان الحديث، جيدة، وكذلك تصويره لجهل الولايات المتحدة، وتلعثمها، وضغوطاتها الخطأ زماناً ومكاناً.
لم يوجد قط سياسة أميركية تجاه لبنان مثلما يمكن لأي شخص أن يلاحظ بسهولة اليوم، غير أن راندال يأخذ الأمر خطوة إضافية إلى الأمام في تشخيص الضعف الأميركي في وجه القوة الإسرائيلية، والذي يرعى بفاعلية تدمير لبنان. ففي أحسن الأحوال، "صار لبنان، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، مكاناً قابلاً للولاءات غير المعروفة والعمل المعقد، والذي لا يمكن الوثوق به بشكل تام." إن قول راندال هذا لا يفسر بأي شكل من الأشكال وجود ألفي جندي من المارينز وأسطول بحري، لكنه يخبرنا أنه ليس ثمة مهمة واضحة لهم ولن تكون أبداً، وأنهم، وبشكل مؤسف بالنسبة إلى اللبنانيين الذين وثقوا بالسياسة العسكرية للولايات المتحدة، واثقون بأنهم سينسحبون من لبنان بشكل غير لطيف في القريب العاجل. ولعل أفضل لحظات راندال هي حين يروي صعود بشير الجميّل إلى السلطة، وهي قصة مرعبة تبدد أي أوهام بشأن ادعاء الكتائب المارونية أنهم يدافعون عن قيم "الحضارة الغربية".
من الصعب تصديق القصة المتداولة عن حياة بشير القصيرة، والتي كان فيها قادراً على قتل أعضاء في جماعته هو، تماماً مثلما كان قادراً على تنظيمهم. وهنا، يساعد راندال المرء في فهم القواعد الأساسية لسياسة إسرائيل في لبنان، وتحالف التحدي الذي أنجزته إسرائيل مؤخراً مع الكتائب الفاشية (من اللافت أن صراعاً داخلياً بين الأجهزة [الأمنية الإسرائيلية] هو الذي أخرج هذه الأمور إلى حيّز العلن، بين الموساد الذي دعم الكتائب، والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية التي شعرت بأن الموساد فقد "موضوعيته" بالتماهي المبالغ فيه مع زبائنه اللبنانيين). يعود كتاب راندال إلى الوراء نحو الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى ليبيّن كيف تصوّر الصهيونيون تكامل الجنوب اللبناني في دولة اليهود المستقبلية، لكن أغلبية قرائنه مؤرخة من الخمسينيات فما فوق، حين أصبح الأمر سياسة إسرائيلية رسمية - الأمر الموثّق على نحو مذهل في "يوميات" موشيه شاريت - تعمل على التدخل بشكل مباشر في الشؤون اللبنانية، ودعم الميليشيات، ورشوة المسؤولين، والتعاون مع الموارنة للحفاظ على اختلال التوازن ما بين الزيادة الدراماتيكية في تعداد السكان المسلمين، والتشدد المتزايد في سيطرة المسيحيين التي أَوْكلها الاستعمار الفرنسي إلى الأقلية المارونية في سنة 1943.[31]
هناك كتابان صحافيان آخران يستحقان الذكر، وأحدهما هو كتاب توني كليفتون "بكى الله"، الذي يروي، مع صور كاثرين ليروي التفصيلية المؤلمة، تأنيب الضمير والتعاطف والغضب الذي أحسّ به مراسل أسترالي ينقل تجربة الفلسطينيين واللبنانيين التي تُوّجت بالحصار.[32] فكليفتون يصبّ جام غضبه على جهد إسرائيل المفصّل والمتطلب لإذلال اللاجئين أنفسهم الذين شردتهم في سنة 1948، والذين ما زالت تواصل دعسهم مُذّاك. وكما في كتاب راندال، فإننا ملزمون في نهاية المطاف بأن نعتمد على شهادة رجل واحد حساس ولديه كثير من المعلومات. ثمة بعض الشبه بين كليفتون وجاكوب تيميرمان الذي انتقد البعض شهادته المشتتة لكن المؤثرة، بشأن يقظة ضمير إسرائيل، بأنها مجحفة في حق إسرائيل، بينما انتقدها آخرون بأنها اختزلت الحرب كلها في مشكلة شاهد يهودي واحد.[33] وفي الحالتين، وعلى الرغم من ذلك، فإن ثمة ضرورة لشعور الكاتب بالذنب تجاه حقيقة أن ما يكتبه تتم مقارنته على نحو ظالم برواية جماعية تم ليّ عنقها لمصلحة إسرائيل.
ربما يكون هذا النوع من المشكلات هو ما حفّز سليم نسيب وكارولين تِسْدال وكان في ذهنيهما حين صمّما كتابهما: "بيروت: قصة خطّ أمامي"، والذي له تأثير سلسلة ممنتجة، إذ إنه يتضمن مقابلات مع طيف واسع من الشخصيات السياسية، يتخللها مقالات قصيرة عن الحياة اليومية، وأهمها "مشهد من أحد خطوط التماس لمبنى سكني من خمس طبقات في بيروت" نابض بالحياة، سكانه روم أرثوذكس، وموارنة، ومسلمون سنة، وشيعة، ودروز. هذا هو الاجتياح الإسرائيلي مثلما تراه في عالم مصغر نابض بالحياة اليومية، ومعدّل جراحياً: لكن، وكما في رواية زولا، ثمة تعاطف فاعل. مقالات نسيب هي ما كان يكتبه لمجلة Libération، وقد انتهت بعرفات يتحدث عن الحرب وهو على متن مقاتلة أتلانتس اليونانية في طريقه من بيروت إلى أثينا. أمّا صفحات كارولين تِسْدال فوصف لشاهد عيان يستعيد عيش مجازر صبرا وشاتيلا، وتنتهي بهذه الملاحظة الفلسطينية الدالة: "قبل الحرب قالوا إننا كنا إرهابيين، وإننا كنا ندرب الإرهابيين في مخيماتنا. كل مَن يعرفنا يعرف أننا مقاتلون جديرون بالثقة، وأننا أردنا بناء ذهنية تقدمية. لماذا لم يكتبوا ذلك كل يوم؟ الأمر مرتبط بالفلسفة: عندما تبني شيئاً ويأتي العدو ويهدم هذا الشيء مرة بعد أُخرى، فهذا يعني أنك على الطريق الصحيح، مهما تكن طويلة." إن هذه الملاحظة (وخصوصاً مجاز الهدم المتكرر متلواً بمحاولات إعادة البناء) يجب أن تظل في الذهن حين يتابع المرء قراءة بانوراما تشومسكي "المثلث المشؤوم " (The Fateful Triangle) بشأن الغباء وانعدام الأخلاق والفساد، والذي نظراً إلى توثيقيته، ربما يكون الكتاب الأكثر طموحاً عن الصراع بين الصهيونية والفلسطينيين، ودور الولايات المتحدة الأساسي فيه. لكن هذا، أيضاً، ليس هو الرواية المفقودة.
إن كتاب تشومسكي، بلا شكّ، لم يُكتب من وجهة نظر فلسطيني يحاول إعطاء مسحة وطنية لحياة تتذرّر إلى جزيئات مشتتة، بل إنه بدلاً من ذلك، إصرار على كشف الفساد الإنساني، والجشع، وانعدام النزاهة الفكرية. إنه، أيضاً، كتاب عظيم ومهم يتوجب على كل مهتم بالشأن العام أن يقرأه. الحقائق، بالنسبة إلى تشومسكي، مطروحة في الطريق، لكن أحداً قبله لم يلتقطها قط، كما أن مصادره الإسرائيلية والأميركية مكتملة على نحو مذهل، وهو قادر على رصد التناقضات والتمايزات وما بينها من انقطاعات. إلّا إن عمله، مثلما سنرى، ليس فقط متشائماً بشكل حاد وغير مقبول، بل إنه أيضاً عمل غير نقدي وغير تأملي مثلما يجب أن يكون تجاه مقدماته، وسبب هذا، جزئياً، هو أنه لا ينظر، من حيث الرواية، إلى الوراء نحو بدايات الصراع بين الصهيونية والفلسطينيين.
هذه الانتقادات لا يمكن إطلاقها جزافاً، أو من دون اعتراف بالطاقة التي لا مثيل لها لدى تشومسكي، أو بنزاهة إنجازه، بل إن هناك شيئاً مثيراً للمشاعر في الذهن المتّقد بهذه المثل النبيلة، والذي يحركه الظلم والمعاناة الإنسانية. والمرء، في هذا المقام، يفكر في فولتير وبندا وراسل، مع أن تشومسكي، وأكثر من أي واحد منهم، يضع ما يطلق عليه "الواقع" - أي الحقائق - على مسافة كافية من الانفعال. لتشومسكي، في كتابه، هدفان: الأول، تقديم شهادة على جذور الهجوم الإسرائيلي على الفلسطينيين خلال اجتياحه للبنان في سنة 1982، ومن تلك الشهادة يأتي مسح التاريخ الدبلوماسي والفكري والاقتصادي والسياسي الذي يربط هذه العوالم المتداعية بعضها بالبعض الآخر. ادعاؤه الرئيسي هو أن إسرائيل والولايات المتحدة، وخصوصاً هذه الأخيرة التي يرى تشومسكي أنها الشر الأساسي في الرواية، كلتاهما رجعية ومعارضة للسلام، بينما العرب، بمَن فيهم منظمة التحرير الفلسطينية، حاولوا لعدة أعوام، مواءمة أنفسهم مع حقيقة إسرائيل.
أمّا الهدف الآخر من الكتاب، فهو مقارنة التاريخ اللا - إنساني بشكل كبير والساخر والقاسي على نحو متعمد بحقّ الفلسطينيين، بسجلّه المكتوب منهجياً والذي يصونه ويحميه مَن يطلق عليهم تشومسكي، "داعمي إسرائيل". وكما في كتبه الأُخرى، يقول تشومسكي إن المثقفين الليبراليين (إيرفينغ هوي؛ آرثر غولدبيرغ؛ آلان ديرشوفيتس؛ مايكل والزر؛ عاموس عوز؛ جين فوندا؛ توم هايدن؛ شلومو أفنيري؛ مارتن بيرتس) وحتى شرائح من اليسار المنظّم، هم أكثر استحقاقاً للَّوم، وأكثر ميلاً إلى الكذب من المثقفين المحافظين. إن وسائل الإعلام الغربي تظهر أكثر سوءاً إذا ما قورنت بنظيراتها الإسرائيلية، مع أن تشومسكي يلاحظ، بدهاء، أن دقة الإعلام نادراً ما تكون نتيجة حسن نية، أو صادرة عن صحافيين غير منافقين، فـ "العقلية الشمولية" التي تحكم الغرب منذ فييتنام لا تتمكن دائماً من متابعة الحياة المحتشدة بالحقيقة في الديمقراطيات الغربية.
ولذا، يمكن قراءة الكتاب كحرب مستمرة بين الحقيقة وسلسلة من الأساطير الإسرائيلية: الديمقراطية؛ طهارة السلاح؛ الاحتلال الحميد؛ عدم وجود عنصرية ضد العرب؛ الإرهاب الفلسطيني؛ سلامة الجليل. ومع أن نموذج تشومسكي لهذه الأساطير هو نموذج [جورج] أورويل، لتضليل الساسة والكلام المتناقض (وتلك جوانب، مثلما يقول، من مراجعة التاريخ فيما بعد الحقبة الفييتنامية)، إلّا إن عملية التفنيد التي تتعرض الأساطير لها هي عملياً نوع من التفكيك، ذلك بأن جميع المواد التي يستخدمها في مواجهة نصوص مثل "نيو ريبابلك"، و"نيويورك تايمز"، و"جيروساليم بوست"، هي نفسها نصّية. فأينما يلتفت تقريباً، يجد إمّا تكميم أفواه، وإمّا اعتذاريات سافرة للعِصابية (مثلما حدث حين نشرت "نيو ريبابلك" في 27 تموز / يوليو 1977 "الدفاع الصريح الأول عن التعذيب الذي ظهر في الغرب بمعزل عن هياجات اليمين المتطرف في فرنسا خلال الحرب الجزائرية")، وذلك كله من أجل الإبقاء على الهيمنة الإسرائيلية والأميركية. وبعد أن تمرّس بالرواية "الرسمية"، فإنه يفنّدها بكمّ هائل من القرائن المضادة، آخذاً إيّانا إلى الاستنتاج أن الشرق الأوسط، شأنه شأن بقية العالم، هو في الطريق إلى معركة نهاية العالم (أرمجدون).
هنا، لا يسعني إلّا أن أشير إلى بعض أساليب تشومسكي ومصادره الفاعلة على نحو مذهل، وسخريته الساخطة في معظم الأحيان، وتعاطفه مع الضعفاء والمنسيين والمفترى عليهم. فهو يخبرنا عن الجنود الإسرائيليين الأكبر سناً، والذين يشهدون على أنهم حتى خلال خدمتهم العسكرية الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية لم يروا ما يمكن مقارنته بدمار مخيم عين الحلوة، أو تلك "التحقيقات الطويلة التي يرافقها الضرب المتواصل أو مهاجمة الكلاب"، أو كيف يُجبر حرسُ الحدود الإسرائيلي الناس على الزحف والنباح والهتاف لبيغن، أو أنه خلال العقاب الجماعي لبلدة حلحول في الضفة الغربية "أُمر الأهالي بالتبوّل واحدهم على الآخر، وغناء الـ (هاتيكفا)... ولحس التراب"، أو أن المدير العام لسلطة البثّ الإسرائيلية كتب مقالة في سنة 1974 أعرب فيها عن تفضيله استخدام اسم الجنوبية على أفريقيا السوداء، منهياً مقالته "باقتباسات من أبحاث تؤكد دونية السود الجينية."
بينما يذكر تشومسكي هذه الأحداث، ويعطي، حرفياً، آلاف الأمثلة من التفصيلات المروعة، فإنه يلاحظ صمت "نيو ريبابلك"، وامتداح طهارة السلاح الإسرائيلي، والدفاع عن سياسات الاحتلال (الاعتقال الجماعي، والتعذيب، والقتل)، والإطراء الكبير على قيم إسرائيل، وشهادة المرجعيات الأخلاقية، مثل سول بيلو الذي يرى في إسرائيل مكاناً "حيث كل واحد، تقريباً، عقلاني ومتسامح، وحيث الحقد على العرب أمر نادر." والأسوأ من ذلك، أن ثمة كثيراً من الحالات التي تجاهل فيها اعتذاريو الصهيونية والاشتراكية، مثل إيرفينغ هوي، قتلَ اليهود على أيدي الإرغون، متحدثين عن شرور بيغن (مع أن أغلبية قرائن تشومسكي هي أن حزب العمل كان سيئاً بمقدار سوء حزب الليكود)، ومستطردين بالتعليق على "العنف الفطري" في السياسات العربية. فتشومسكي يولي الاضطهاد العرقي المنظم ضد العرب أو اليهود "الشرقيين" اهتماماً كبيراً، علاوة على العنف الذي تحرّض عليه مرجعيات دينية ومثقفة، أو شخصيات مثل إيلي فايزل الذي يغالي في استخدام الهولوكوست. ويلاحظ تشومسكي أن لا أحد من داعمي إسرائيل الليبراليين لديه ما يقوله في شأن هذا.
تشومسكي ليس لطيفاً على نحو خاص مع منظمة التحرير الفلسطينية التي لا يطيق "تدميرها لذاتها" و"طبيعتها الانتحارية" بقدر ما لا يوافق على برنامجها في الكفاح المسلح وعنفها العشوائي. أمّا الأنظمة العربية، فيقول عنها إنها ليست "محترمة"، وكان في إمكانه إضافة أنها ليست شعبية كذلك. لكن هذا، وليس من قبيل المصادفة، هو إحدى الفجوات في هذا الكتاب المكتمل على نحو مذهل، وهنا أشير إلى إغفاله النسبي للعالم العربي. ولا شك في أنه على حقّ في القول إن ثمة ممارسة غربية ثابتة، عنصرية في جذورها، في استبعاد المصادر العربية على أنها كتب لا يمكن الاعتماد عليها، ويضيف أن عدم توافر أعمال عربية مكتوبة في الغرب ناتج، جزئياً، من رقابة "ديمقراطية" مماثلة لتلك التي تلمّع صورة إسرائيل. لكن، نعم، إن دينامية كتاب "المثلث المشؤوم" كان لها أن تكون أكثر جدوى لو اشتمل الكتاب على بعض الشهادات عن الاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم العربي، أو لو أنه تغيّر إلى شكل المربع أو الدائرة بدلاً من المثلث. وبين هذه الاتجاهات كان يمكن الحديث عن الاعتماد الاقتصادي للدول العربية على الولايات المتحدة (الذي يصل، في حالات معينة، إلى تعاون واضح مع إسرائيل)؛ الغياب شبه الكامل تقريباً، للحريات الديمقراطية في العالم العربي؛ العلاقات الغريبة التي تجمع الفلسطينيين، أو حتى منظمة التحرير، بعدة دول عربية؛ الاختراق الثقافي الغربي للعالم العربي وما ولّده من ردات فعل إسلامية؛ دور اليسار العربي والاتحاد السوفياتي. فالأنظمة العربية، وعلى الرغم من إعرابها عن رغبتها في السلام، لم تستطع أن تحقق السلام، أو أن تحشد مجتمعاتها للحرب. هذه الحقائق المذكورة أعلاه، والتي لم تكن بأكملها نتيجة الرفض الإسرائيلي - الأميركي، لا يأخذ بها تشومسكي.
ثمة بعض الالتباس في الكتاب، وبعض التباين على مستوى المبدأ. فالصورة المعيارية التي يقترحها تشومسكي، والتي أتفق معه عليها، هي أن فلسطين يجب أن تقسّم إلى دولتين، وأن منظمة التحرير الفلسطينية ومعظم الدول العربية، كانا يفكران في ذلك على الأقل منذ بداية السبعينيات. أعتقد أنه مصيب بالمطلق في قوله إن إسرائيل التي يقول المحللان الإسرائيليان يهوشواع بوراث وداني روبنشتاين إنها تخشى من الفلسطينيين المعتدلين والمسؤولين أكثر من خشيتها من الإرهابيين، والتي تحظى بدعم من الولايات المتحدة الأميركية، هي التي حالت دون أي تحقيق لهذه الخطة المعقولة، حتى إن لم تكن مثالية. لكن ليس من الواضح لي كيف يمكنك الاعتراف بأن الصهيونية أقصت العرب دائماً وميّزت ضدهم، وهو ما تعارضه، وأن اليهود، على الرغم من ذلك، لهم حقوق جماعية بالقدوم من العالم للاستيطان في فلسطين. ما أود قوله هنا هو أنه ينبغي لك أن تعرّف بوضوح أكبر ما هي هذه الحقوق، وبأي شكل يمكن لتعريفك لهذه الحقوق أن يختلف عن تعريفات الصهيونيين الذين تجاهلوا وجود سكان عرب قبلهم في فلسطين. كيف يمكنك صوغ حقّ جلب أناس إلى فلسطين بخلاف رغبات الفلسطينيين الأصليين، من دون أن تشير إلى، أو تكرر، في الآن نفسه، دائرة العنف والعنف - المضاد المأسوية بين الفلسطينيين واليهود؟ كيف تستطيع تجنّب ما حدث من قبل إن لم تقم بإعادة الانسجام بين الادعاءات المشروعة على نحو أكثر صرامة؟
إن تشومسكي، بتركه هذه المشكلة من دون حل، ينقاد إلى واحدة من الصعوبات الرئيسية في الكتاب، وهي النظرة التشاؤمية القائلة: إن أي حل معقول ومقبول "بات متأخراً جداً". فالحقائق، بطبيعة الحال، هي إلى جانبه: نسبة الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية تجاوزت أي درجة يمكن العودة عنها، ومثلما قال ميرون بنفينستي ومناوئون آخرون لليكود، فإن نضال الفلسطينيين من أجل تقرير المصير في المناطق المحتلة انتهى الآن، وتمت خسارة المعركة. إنه تشاؤم العقل، وتشاؤم الإرادة... لكن الفلسطينيين، في معظمهم، سيردّون بالقول: إذا كانت هذه هي الحقائق، فأبشروا بمزيد من الحقائق السيئة. فالحقيقة التي لا مراء فيها أن الصراع بين الصهيونية، في صورتها الحالية، وبين الفلسطينيين، بعيد جداً عن النهاية، كما أن الوطنية الفلسطينية كان لها، وسيبقى، وجودها المتكامل الخاص بها، وهو، في تصوّر كثير من الفلسطينيين الذين يعيشون الصراع، ليس محكوماً بالزوال أو الاستسلام للخراب الذي أحدثته الصهيونية وداعموها. ولعل هذا، على وجه الدقة، هو ما لا يراه تشومسكي، أو ما لا يستطيع رؤيته، مع أنه على حق في التنبؤ بالوضع الآخذ في السوء: تصاعد مستويات العنف؛ مزيد من الاستقطاب؛ العسكرة؛ اللاعقلانية. إن تشومسكي، بقبوله المبدأ الصهيوني الأول بالحق في توطين اليهود في فلسطين، بخلاف رغبات السكان الأصليين، يكون، وبشكل لا - واعٍ، قد انتقل إلى الخطوة التالية في الافتراض أن النضال الفلسطيني انتهى، وأن الفلسطينيين استسلموا، ربما لأن وجودهم التاريخي لم يقنعه بديمومته. قد يكون الاستسلام خياراً عقلانياً، غير أن (وهنا طاقات تشومسكي المتصارعة تناقضه) الظلم هو الظلم، ولا ينبغي لأحد أن يذعن له، وتشومسكي، في هذا الكتاب الكبير، هو مثال لذلك.
هنا تبرز مشكلة أُخرى: فعزلة تشومسكي عن الساحة الفعلية للصراع، ونَأيه عن السلطة كمثقف حادّ لا يهادن، وقدرته على قول الحقيقة الموضوعية (أخذاً في الاعتبار أنه لم يعد في وسعه الكتابة في الأمكنة التي رحّبت به سابقاً مثل "نيويورك ريفيو أوف بوكس") مكّنته من تجنّب المصائد الأيديولوجية وعدم النزاهة التي يراها في اعتذاريي إسرائيل والولايات المتحدة. وبطبيعة الحال، ليس هناك حصة للدولة لدى تشومسكي، ولا تلميع لحقائق مزعجة أو ممارسات لا - أخلاقية تحدث في معسكر المرء نفسه. لكن هل العزلة، والاهتمام بالعدالة، والشغف بتوثيق الظلم، كافية لضمان تحرر المرء من الأيديولوجيا؟ فحين يزعم تشومسكي أنه يتعامل مع الحقائق، فإنه في الحقيقة يتعامل مع حقائق أكثر من تلك التي يتعامل معها خصومه. لكن، أين هي الحقائق إن لم تكن مخبوءة في التاريخ، ثم يعاد كشفها وبناؤها على أيدي فواعل من البشر مدفوعين برواية مدرَكة أو مرغوب فيها أو مأمول بها يكون هدفها المستقبلي أن تحقق العدالة للمظلومين؟ بكلمات أُخرى، إن المراسلين الذين يكشفون الحقائق، شأنهم في ذلك شأن تشومسكي، والذين يُخفون الحقائق، و"داعمي إسرائيل"، إنما يتعاملون مع التاريخ تبعاً لقواعد في التمثيل يمكن تصنيفها، في سياق تتنافس فيه القيم الأيديولوجية والفكرية. وحين يتناول تشومسكي الحقائق، على اتساعها ووضوحها واكتمالها كأي شخص حيّ، فإنه لا يؤدي محض روتين ميكانيكي في كتابة تقرير استناداً إلى منظور أرخميدي خارج الدعاية والكليشيه، بل يقوم بأمر بالغ الدقة، تدعمه قواعد السجال والوضوح والاستدلال غير المشتقة من "الحقيقي" المحض. لكن المفارقة أن تشومسكي لا يتأمل نظرياً فيما يقوم به، وإنما يقوم به فقط. فهو، من ناحية، يتركنا نفترض أن قول الحقيقة هو أمر هيّن، بينما، يسوق، من ناحية أُخرى، قرائن هائلة تفيد بأن لا أحد يمكنه التعامل مع الحقائق. ولذا، كيف يمكننا الافتراض أن شخصاً واحداً يمكنه قول الحقيقة؟ هل يعتقد أنه إن ألّف هذا الكتاب فإنه سيقود آخرين إلى قول الحقيقة أيضاً؟ وما الذي يجعله ممكناً لنا كبشر أن نواجه الحقائق، فنخترع حقائق جديدة، ونتجاهل بعضها ونركز على بعضها الآخر؟
إن الإجابات عن هذه الأسئلة يجب أن تجد لها مكاناً في نظرية التلقي، وفي نظرية الفاعلية الثقافية، وفي خُطاطة معرفية للبُنى الأيديولوجية في علاقتها بمشكلات محددة، شأنها شأن الظروف التاريخية والجغرافية. فهذه الأمور لا يستطيع شخص وحده القيام بها بمفرده، ولا شيء منها ممكناً من دون إحساس أو التزام جماعي ينسبها إلى أكثر من صدقية فردية، وهذا الالتزام هو ما تمثله السرديات الوطنية، مع أن تردد تشومسكي، الذي يمكن تفهّمه، في الامتثال لأي خطّ قومي أو دولاتي، يحول دون اعترافه به. لكن في وضع كالذي هو موجود بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فإنه يصعب على أي شخص أن يُسقط الرغبة في هوية وطنية، ويذهب مباشرة إلى عقلانية كونية متجاوزة للتاريخ، ذلك بأن كلاً من الجماعتين [القوميتين]، بقدر ما يمكن أن تكون مضلَّلة، فإنها معنية بجذورها وتاريخها ومعاناتها وحاجتها إلى النجاة. إن الاعتراف بهذه الضرورات (بصفتها مكونات للهوية الوطنية، مع محاولة تحقيق الانسجام بينها، عوضاً عن إنكارها كأيديولوجيا غير - واقعية)، يجعلني أقول إنها المهمة التي يتوجب القيام بها الآن.
* نُشرت هذه المقالة بالإنجليزية في كل من:
Edward Said, “Permission to Narrate: A Reconstruction of the Siege of Beirut”, London Review of Books, vol. 6, no. 3 (16 February 1984), pp. 16-29; Edward Said, “Permission to Narrate”, Journal of Palestine Studies, vol. 13, no. 3 (Spring 1984), pp. 27-48; Edward Said, The Politics of Dispossession: The Struggle for Palestinian Self-Determination, 1969-1994 (New York: Pantheon Books, 1994), pp. 247-268.
وأجرى سعيد في الكتاب الثالث بعض التعديلات الطفيفة في العنوان والهوامش. وتعتمد هذه الترجمة النسخة الصادرة في "مجلة الدراسات الفلسطينية" (Journal of Palestine Studies)، وتستفيد من النسختين الأُخريين في بعض الإحالات.
ترجمة وتقديم عبد الرحيم الشيخ.
المصادر:
[1] Sean MacBride and others, Israel in Lebanon: The Report of the International Commission (London: Ithaca Press, 1982).
[2] يكتنف مفهوم "طهارة السلاح"، وهو أحد عناصر العقيدة القتالية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، كثيراً من الغموض، وسوء الفهم، إذ يُفترض أن يُظهر "أخلاقية" الجيش في التعامل مع غير المقاتلين، لكنه في الواقع عكس ذلك تماماً. ينص البند السادس من العقيدة المكونة من عشرة بنود والمنشورة في موقع الجيش الإسرائيلي، بعنوان: "النظرية القتالية"، والمتعلق بـ "طهارة السلاح"، على التالي: "على جنود جيش الدفاع الإسرائيلي ومجنداته أن يستخدموا أسلحتهم وقوتهم فقط، لتحقيق مهمتهم، وبالقدر الضروري، على أن يحافظوا على إنسانيتهم حتى خلال المعركة. على جنود جيش الدفاع ألّا يستخدموا أسلحتهم وقوتهم للمساس بأناس ليسوا محاربين أو أسرى حرب، وعليهم أن يعملوا جميع ما في وسعهم لتجنّب المساس بحياة هؤلاء، أو أجسادهم، أو كرامتهم، أو ممتلكاتهم." غنيّ عن القول أن "المبدأ"، فضلاً عن خرقه يومياً من طرف جيش الاحتلال، هو "نظرية" فقط، ولا تكاد تظهر في الموقع الإلكتروني للجيش، وليست مرجعية مكتوبة ومعتمدة ضمن "قواعد الاشتباك"، وهي خاضعة للتغيير المستمر. وقد بلغ الاستهتار بها إلى حدّ قول بعض القادة العسكريين، في عدة مناسبات: "إن طهارة السلاح تعني نظافة السلاح، وصلاحيته الدائمة للاستعمال." وقد شهد تاريخ الصراع العربي - الصهيوني آلاف الحوادث التي تناقض ما ورد في هذه العقيدة، بل إن الصهيونيين بدأوا بوضع استثناءات لعدم مراعاة "مبدأ طهارة السلاح" منذ حادثة "القافلة 35" التي وقعت في 16 كانون الثاني/ يناير 1948، والتي قرنت "طهارة السلاح" بإمكان التطهير العرقي، لا العكس. تروي القصة مصير مجموعة من مقاتلي عصابة الهاغاناه اليهود الذين لم يريدوا قتل امرأتين عربيتين صادفوهما، بين قريتَي الجبعة وصوريف، في أثناء تقدمهم نحو قاعدة "غوش عتصيون" لفكّ حصار الثوار العرب، من رفاق عبد القادر الحسيني، عنها، الأمر الذي أدى، عقب ذلك، إلى مصرعهم جميعاً بعد أن أخبرت الامرأتان (وفي رواية أُخرى راعٍ عربي) الثوار الفلسطينيين عن قافلة المستعمرين.
للاطلاع على بنود "النظرية القتالية"، انظر موقع جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ولمزيد من التفصيلات، انظر: محمد علي الخالدي، "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم: الشرعة الأخلاقية الجديدة للجيش الإسرائيلي والحرب على غزة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 83 (صيف 2010)، ص 61، 77؛ دان ياهف، "طهارة السلاح: أخلاق وأسطورة وواقع 1936 – 1956"، ترجمة وتقديم: جوني منصور (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية/ مدار، 2004)؛
Michael Prior, Zionism and the state of Israel: A Moral Inquiry (London: Routledge, 1999), pp. 176-210.
[3] MacBride and others, op. cit., p. 222.
[4] Michael Adams and Christopher Mayhew, Publish It Not: The Middle East Cover-Up (London: Longman, 1975).
[5] لمزيد من هذه "الطرائف" العنصرية التي تشبه الخيال، انظر: إسرائيل شاحاك، "الديانة اليهودية وتاريخ اليهود: وطأة 3000 عام"، ترجمة رضى سلمان (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1997).
[6] "الطبّالة الصغيرة"، رواية نشرها جون لو كاريه في سنة 1983، وحوّلها جورج روي - هيل إلى فيلم بالعنوان ذاته في سنة 1984، بينما أخرجها بارك تشان - ووك كمسلسل تلفزيوني على شبكة بي. بي. سي. في سنة 2018. أمّا فيلم "حنّه ك"، فأخرجه كوستا غافراس في سنة 1983. ويحاول العمَلان أنسنة اليهودي، أكان ضابط موساد أم ناجياً من الهولوكوست، وشيطنة الفلسطيني، وإن كان مقاتلاً من أجل الحرية، ضمن عمليات مركّبة تهدف إلى بلوغ "التفوق الأخلاقي" للأول على الآخر، وفي أحسن الأحوال تحقيق "تكافؤ أخلاقي" بينهما.
John Le Carré, The Little Drummer Girl (London: Hodder & Stoughton, 1983); Costa-Gavras, Hanna K (Universal Pictures, 1983) (111 min.).
[7] إن سعيد، ومن دون أن يصرّح، يشير هنا إلى مشروع "الدولة الديمقراطية" الذي طرحه الميثاق الوطني الفلسطيني لسنة 1968، ثم جرى التعديل عليه في خطاب الرئيس ياسر عرفات في الأمم المتحدة في سنة 1974. وقد تناول سعيد ذلك بشيء من التفصيل في كتابه "القضية الفلسطينية"، ممتدحاً مشروع الدولة التي يشكل فيها يهود ما قبل - استيطان فلسطين صهيونياً جزءاً من المكوِّن الديموغرافي الفلسطيني شأنهم شأن أقرانهم من الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين، والتي ينعم مواطنوها بحقوق جماعية، ويلتزمون بواجبات جماعية مبنية على أساس المفهوم العلماني لفكرة المواطنة من دون أي تمييز لأحد بناء على الدين أو الإثنية أو اللون، بحيث لا تتميز الصهيونية بالحصرية. للمزيد، انظر:
Edward Said, The Question of Palestine (New York: Times Books, 1979), p. 53.
[8] لم يورد سعيد نصاً حرفياً لما قالته غولدا مئير، في أي من نسخ المقالة المنشورة في ثلاثة كتب، لكن رشيد الخالدي أورد الاقتباس كالتالي: "لم يكن هناك شيء يدعى الشعب الفلسطيني. إنهم لم يكونوا موجودين." وأحال إلى المصدر في "صنداي تايمز":
Golda Meir, “Interview with Frank Giles”, The Sunday Times (London), 15 June 1969, p. 12.
ولمزيد بشأن هذه المقولة ومقولات صهيونية مشابهة، انظر:
Rashid Khalidi, Palestinian Identity: The Construction of Modern National Consciousness (New York: Columbia University Press, 1997), p. 147; Janice J. Terry, “Zionist Attitudes toward Arabs”, Journal of Palestine Studies, vol. 6, no. 1 (Autumn 1976), pp. 67-78; Marie Syrkin, Golda Meir: Israel’s Leader (New York: G. P. Putnam’s Sons, 1969), p. 355.
[9] Bruno Kreisky, “L’Echec d’Arafat, c’est notre faute”, Les Nouvelles (December 1983).
[10] يشير سعيد إلى كتاب: روزماري صايغ، "الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة"، تقديم إبراهيم أبو لغد، ترجمة خالد عايد (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1980).
[11] لمزيد من المعلومات عن المؤتمر الذي يشير إليه سعيد، انظر:
“Report of the International Conference on the Question of Palestine”, 1983.
[12] ومع ذلك، فإن سعيد نشر هذه الدراسة في مونوغراف مستقل، وكفصل، بالعنوان ذاته، في كتابه المحرَّر، مع كريستوفر هيتشينز: "لوم الضحايا". للاطلاع على الدراسة، انظر:
Ibrahim Abu Lughod and others, A Profile of the Palestinian People (Chicago: Palestine Human Rights Campaign, 1983); Edward Said and Christopher Hitchens, eds., Blaming the Victims: Spurious Scholarship and the Palestinian Question (London and New York: Verso Books, 1988), pp. 235-296.
[13] يشير سعيد في مقدمة كتابه المصوَّر "ما بعد السماء الأخيرة"، إلى قصة أُخرى من المؤتمر نفسه، الذي عمل فيه مستشاراً للأمم المتحدة، فقد كلّف سعيد آنذاك المصور السويسري جون مور بالتقاط صور للفلسطينيين في أمكنة متنوعة، لكن النتيجة، بعد التقاط الصور، كانت مخيبة للآمال. يقول سعيد: "اقترحت أن يتم تعليق صور الفلسطينيين في ردهة الاستقبال لموقع المؤتمر في جنيف [....] غادر مور في رحلة خاصة مموّلة من الأمم المتحدة إلى الشرق الأدنى. كانت الصور التي عاد بها فعلاً رائعة، لكن الرد الرسمي كان مربكاً، ولشخص يمتلك حسّ السخرية، كان الرد مبهراً. يمكنكم تعليقها، قيل لنا، لكن يجب عدم عرض أي كتابة معها. لا مفاتيح، ولا توضيحات." ويشير سعيد، إلى أن دولاً عربية أعضاء في الأمم المتحدة، ساهمت في ذلك الإسكات لصوت الفلسطيني المصاحب لصورته، إذ ان تلك الدول تستضيف لاجئين فلسطينيين، وترغب في إبقائهم رهائن صورة يمكنهم هم، لا الفلسطينيون، السيطرة عليها، لأن تحويل الصور البصرية إلى صور نصّية من خلال التعليق يربك هذا الوضع. للمزيد، انظر:
Edward Said and Jean Mohr, After the Last Sky: Palestinian Lives (New York: Pantheon Books, 1986), p. 3.
[14] Yoav Karni, “Dr. Shekel and Mr. Apartheid”, Yediot Ahronot, 13 March 1983.
ولمزيد بشأن التقاطعات والفروقات بين الهولوكوست اليهودي والهولوكوست الأرمني، انظر العمل اللافت لمارك نيشانيان، وبالتحديد مفهوم "الحقيقة" و"الحقيقة التاريخية" التي يناقشها سعيد. يقارب نيشانيان مشهدية المأساة منطلقاً من الإبادة الأرمنية كأنموذج أمثولي (Archetype) للمظلمة التاريخية التي لا تزال إسرائيل تنافق الأتراك بشأنها، وتنفي "ارتقاءها" إلى حدّ الإبادة. وعوضاً عن بساطة استدعاء الحقائق الحَدثية لتلك المأساة، يتساءل نيشانيان عمّا يمكن أن يشكل في البداية "حقيقة تاريخية"، ليكون، فيما بعد، "واقعاً تاريخياً". وعليه، فإن الكاتب، ومن خلال سياق المحكمة الفرنسية بشأن هذه الإبادة الجماعية، يتقصى المفهومَين القضائيين للضحية والجلاد، وكيف يؤثر كل منهما في الإرادة الجماعية لتشكيل الذاكرة، ليخلص إلى التساؤل عن الكيفية التي ندشّن من خلالها ذاكرة المآسي الكبرى في إطار التاريخ. للمزيد، انظر:
Marc Nichanian, The Historiographic Perversion, translated by Gil Anidjar (New York: Columbia University Press, 2009).
[15] Amnon Kapeliouk, Sabra et Chatila: Enquête sur un Massacre (Paris: Le Seuil, 1982).
[16] Hayden White, “The Value of Narrativity in the Representation of Reality”, Critical Inquiry, vol. 7, no. 1 (Autumn 1980), pp. 5-27.
[17] ثمة دراسة مقنعة لمارك هيلير المتخصص بالعلوم السياسية من مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، عن الدولة الفلسطينية وتبعاتها على إسرائيل، وهي دراسة تمثل استثناء في هذا السياق. فهيلير يجادل بأن دولة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة ستكون مصلحة كبرى لإسرائيل، وأن هذا أمر مقبول أكثر من ضمّ المناطق أو إعادتها إلى الأردن.
Mark Heller, A Palestinian State: The Implications for Israel (Cambridge, Massachusetts & London: Harvard University Press, 1983).
[18] Norman Podhoretz, “J’Accuse”, Commentary (September 1982).
[19] Richard Poirier, “Watching the Evening News: The Chancellor Incident”, Raritan, vol. 2, no 2 (fall 1982), p. 8.
[20] Claire Sterling, The Terror Network: The Secret War of International Terrorism (New York: Henry Holt & Company, 1981); Arnaud de Borchgrave and Robert Moss, The Spike (New York: Crown Publishers, 1980).
[21] الإشارة هنا إلى كتب على شاكلة كتاب "شبكة الإرهاب" (The Terror Network) المذكور آنفاً.
[22] يذكّر هذا التصريح بشذرة روائية، بعنوان: "مشتبه بهم"، ينقلها عوز شيلاح الذي كان مراسلاً فعلياً لإذاعة "صوت الجيش". يقول: "في بداية الانتفاضة الأولى كانت تقاريرنا في أخبار إذاعة الجيش تعلن عن مقتل (سكان محليين). وعندما بدأت فرق الموت السرية بالعمل، كنا نفيد بمقتل (محليين مطلوبين). وعندما أصبح من الواضح أن ثمة بعض حالات الخطأ في التشخيص التي تقع بانتظام تقريباً، حدَّثْنا المصطلح إلى (سكان محليين مشتبه بكونهم مطلوبين). في هذه الأيام تتكشف سلسلة طويلة من التحقيقات في تهم رشاوى لمسؤولين عامّين، ولأن أحداً من هؤلاء لم يُعزَل، حتى مؤقتاً، من منصبه، فقد جاءت التوجيهات، من الدائرة القانونية، مرشدة إيّانا بالإحالة إلى كافة المشتبه بهم في تحقيقات الشرطة بوصفهم (مشتبهاً بهم على ما يبدو)، وكافة الاتهامات الموجهة إليهم على أنها (اشتباهات على ما يبدو). وعليه، فقد حدَّثْنا، نحن أيضاً، مصطلحاتنا وبدأنا الإخبار عن مقتل رجال (مشتبه بكونهم، على ما يبدو، محليين)." انظر: عوز شيلاح، "أراضٍ للتنزه: رواية في شذرات"، ترجمة وتعقيب عبد الرحيم الشيخ (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية/ مدار، 2010)، ص 47.
[23] إن خلفية التعاون بين أفراد وجماعات صهيونية وفاشيين أوروبيين مدروسة في كتاب:
Lenni Brenner, Zionism in the Age of the Dictators: A Reappraisal (London: Croom Helm, 1983).
كما يمكن للقارىء العربي مراجعة الكتابَين القيّمين: عبد الرحمن عبد الغني، "ألمانيا النازية وفلسطين 1933 - 1945" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1995)؛ عبد الوهاب المسيري، "الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: رؤية حضارية جديدة"، تقديم محمد حسنين هيكل (القاهرة: دار الشروق، 1997).
[24] Noam Chomsky, The Fateful Triangle: Israel, the United States and the Palestinians (London: Pluto Press, 1983), p. 106.
[25] Ibid., p. 102.
[26] هناك استثناء واحد لا بدّ من ذكره، فهو ينقل شهادة لبنانية - فلسطينية عن الحياة في بيروت خلال الحصار:
Lina Mikdadi, Surviving the Siege of Beirut: A Personal Account (London: Onyx Press, 1983).
[27] Jonathan Randal, The Tragedy of Lebanon: Christian Warlords, Israeli Adventurers and American Bunglers (London: Chatto & Windus, 1983); John Bulloch, Final Conflict: The War in The Lebanon (London: Century, 1983); Selim Nassib and Caroline Tisdall, Beirut: Frontline Story with photographs by Chris Steele-Perkins (London: Pluto Press, 1983); Tony Clifton and Catherine Leroy, God Cried (London & New York: Quartet Books, 1983).
[28] Kamal Salibi, The Modern History of Lebanon (New York: Praeger, 1965); Kamal Salibi, Crossroads to Civil War: Lebanon 1958-1976 (London: Ithaca Press, 1976).
[29] Elie Salem, Modernization without Revolution: Lebanon’s Experience (Bloomington: Indiana University Press, 1973).
[30] David Gilmour, Lebanon: The Fractured Country (Oxford: Martin Robertson, 1983).
[31] لمزيد عن هذه المذكرات، انظر: ليفيا روكاش، "إرهاب إسرائيل المقدس من مذكرات موسى شاريت، وزير الخارجية ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق"، تقديم ناعوم تشومسكي، ترجمة ليلى حافظ (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2009).
[32] Clifton and Leroy, op. cit.
[33] Jacobo Timerman, The Longest War (London: Chatto & Windus, 1982).
المراجع:
بالعربية
- الخالدي، محمد علي. "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم: الشرعة الأخلاقية الجديدة للجيش الإسرائيلي والحرب على غزة". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 83 (صيف 2010)، ص 61، 77.
- روكاش، ليفيا. "إرهاب إسرائيل المقدس من مذكرات موسى شاريت، وزير الخارجية ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق". تقديم ناعوم تشومسكي. ترجمة ليلى حافظ. القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2009.
- شاحاك، إسرائيل. "الديانة اليهودية وتاريخ اليهود: وطأة 3000 عام". ترجمة رضى سلمان. بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1997.
- يلاح، عوز. "أراضٍ للتنزه: رواية في شذرات". ترجمة وتعقيب عبد الرحيم الشيخ. رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية/ مدار، 2010.
- صايغ، روز ماري. "الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة". تقديم إبراهيم أبو لغد. ترجمة خالد عايد. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1980.
- عبد الغني، عبد الرحمن. "ألمانيا النازية وفلسطين 1933 - 1945". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1995.
- المسيري، عبد الوهاب. "الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: رؤية حضارية جديدة". تقديم محمد حسنين هيكل. القاهرة: دار الشروق، 1997.
- ياهف، دان. "طهارة السلاح: أخلاق وأسطورة وواقع 1936 - 1956". ترجمة وتقديم: جوني منصور. رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية/ مدار، 2004.
بالأجنبية
- Abu Lughod, Ibrahim and others. A Profile of the Palestinian People. Chicago: Palestine Human Rights Campaign, 1983.
- Adams, Michael and Christopher Mayhew. Publish It Not: The Middle East Cover-Up. London: Longman, 1975.
- Brenner, Lenni. Zionism in the Age of the Dictators: A Reappraisal. London: Croom Helm, 1983.
- Bulloch, John. Final Conflict: The War in The Lebanon. London: Century, 1983.
- Chomsky, Noam. The Fateful Triangle: Israel, the United States and the Palestinians. London: Pluto Press, 1983.
- Clifton, Tony and Catherine Leroy. God Cried. London & New York: Quartet Books, 1983.
- De Borchgrave, Arnaud and Robert Moss. The Spike. New York: Crown Publishers, 1980.
- Gilmour, David. Lebanon: The Fractured Country. Oxford: Martin Robertson, 1983.
- Heller, Mark. A Palestinian State: The Implications for Israel. Cambridge, Massachusetts, & London: Harvard University Press, 1983.
- Kapeliouk, Amnon. Sabra et Chatila: Enquête sur un Massacre. Paris: Le Seuil, 1982.
- Karni, Yoav. “Dr. Shekel and Mr. Apartheid”. Yediot Ahronot. 13 March 1983.
- Khalidi, Rashid. Palestinian Identity: The Construction of Modern National Consciousness. New York: Columbia University Press, 1997.
- Kreisky, Bruno. “L’Echec d’Arafat, c’est notre faute”. Les Nouvelles (December 1983).
- Le Carré. John. The Little Drummer Girl. London: Hodder & Stoughton, 1983.
- MacBride, Sean and others. Israel in Lebanon: The Report of the International Commission. London: Ithaca Press, 1982.
- Meir, Golda. “Interview with Frank Giles”. The Sunday Times (London), 15 June 1969.
- Mikdadi, Lina. Surviving the Siege of Beirut: A Personal Account. London: Onyx Press, 1983.
- Nassib, Selim and Caroline Tisdall. Beirut: Frontline Story with photographs by Chris Steele-Perkins. London: Pluto Press, 1982.
- Nichanian, Marc. The Historiographic Perversion. Translated by Gil Anidjar. New York: Columbia University Press, 2009.
- Podhoretz, Norman. “J’Accuse”. Commentary (September 1982).
- Poirier, Richard. “Watching the Evening News: The Chancellor Incident”. Raritan, vol. 2, no. 2 (fall 1982).
- Prior, Michael. Zionism and the state of Israel: A Moral Inquiry. London: Routledge, 1999.
- Randal, Jonathan. The Tragedy of Lebanon: Christian Warlords, Israeli Adventurers and American Bunglers. London: Chatto & Windus, 1983.
- Said, Edward. The Question of Palestine. New York: Times Books, 1979.
- ____________. “Permission to Narrate”. Journal of Palestine Studies, vol. 13, no. 3 (Spring 1984), pp. 27-48.
- ____________. “Permission to Narrate: A Reconstruction of the Siege of Beirut”. London Review of Books, vol. 6, no. 3 (16 February1984), pp. 16-29.
- ____________.The Politics of Dispossession: The Struggle for Palestinian Self-Determination, 1969-1994. New York: Pantheon Books, 1994.
- Said, Edward and Christopher Hitchens, eds.. Blaming the Victims: Spurious Scholarship and the Palestinian Question. London and New York: Verso Books, 1988.
- Said, Edward and Jean Mohr. After the Last Sky: Palestinian Lives. New York: Pantheon Books, 1986.
- Salem, Elie. Modernization without Revolution: Lebanon’s Experience. Bloomington: Indiana University Press, 1973.
- Salibi, Kamal. The Modern History of Lebanon. New York: Praeger, 1965.
- ___________. Crossroads to Civil War: Lebanon 1958-1976. London: Ithaca Press, 1976.
- Sterling, Claire. The Terror Network: The Secret War of International Terrorism. New York: Henry Holt & Company, 1981.
- Syrkin, Marie. Golda Meir: Israel’s Leader. New York: G. P. Putnam’s Sons, 1969.
- Terry, Janice J. “Zionist Attitudes toward Arabs”. Journal of Palestine Studies, vol. 6, no. 1 (Autumn 1976), pp. 67-78.
- Timerman, Jacobo. The Longest War. London: Chatto & Windus, 1982.
- White, Hayden. “The Value of Narrativity in the Representation of Reality”. Critical Inquiry, vol. 7, no. 1 (Autumn 1980), pp. 5-27.
المواقع الإلكترونية
- "تقرير حول المؤتمر الدولي للأمم المتحدة حول القضية الفلسطينية"، موقع الأمم المتحدة، 1983.
- "النظرية القتالية - طهارة السلاح". موقع جيش الاحتلال الصهيوني.
الأفلام
- Costa-Gavras, Hanna K, Universal Pictures (1983), (111 min.).