حوار مع وليد الخالدي عن كتاب "السيونيزم، أي المسألة الصهيونية أول دراسة علمية بالعربية عن الصهيونية"
نبذة مختصرة: 

أجرت "مجلة الدراسات الفلسطينية" حواراً مع المؤرخ الفلسطيني الأستاذ وليد الخالدي عن كتاب "السيونيزم، أي المسألة الصهيونية: أول دراسة علمية بالعربية عن الصهيونية"، تأليف محمد رُوحي الخالدي (ت 1913) وتقديم وتحرير وليد الخالدي، والذي أصدرته في تشرين الثاني / نوفمبر 2020، مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالتعاون مع المكتبة الخالدية، وفيما يلي نص الحوار.

النص الكامل: 

متى وقعتم على نص روحي الخالدي المخطوط عن الصهيونية، وكيف كان ذلك؟

وجدت نص روحي بين أوراق المرحوم الوالد بُعيد وفاته في شتاته في بيروت في سنة 1951. 

ما هي علاقة روحي بالوالد؟

روحي هو ابن ياسين الخالدي الذي هو ابن محمد علي الخالدي (ت 1864)، ومحمد علي هو الجدّ الأكبر لجدي، أي أن ياسين وجدّ جدّي أخوان من أولاد محمد علي، وكان روحي قد أودع مخطوطته مكتبتنا العائلية (الخالدية) واستعارها الوالد لدراستها، ولم يتم له ذلك قبل وفاته. 

هذا يعني أن معرفتك بمخطوطة روحي تعود إلى سنة 1951.

نعم، كنت حينئذ في سنّ السادسة والعشرين، وها أنا أنشرها وأنا في سنّ الخامسة والتسعين. 

لماذا مرت هذه العقود كلها قبل أن تقرر نشر المخطوطة؟

كما ذكرت في مقدمتي، لفتت المخطوطة نظري منذ اللحظة الأولى، وكنت أعود إليها بين الحين والآخر لسنين وسنين، وكان فيها إشكالات تعود إلى نصها وصفتُها بإسهاب في مقدمتي. وكانت أول دراسة علمية أولية لي عنها في بحث نشرته المؤسسة في سنة 1988 في كتاب تذكاري لها تكريماً للمرحوم الدكتور قسطنطين زريق. 

تقول إن البحث في سنة 1988 كان دراسة أولية.

نعم كانت أولية لأنني كنت بحاجة إلى مزيد من الوقت، بسبب كثرة مسؤولياتي، لسبر أغوار الأوضاع المحيطة بالمخطوطة، وهكذا كنت أعود إليها بين حين وآخر منذ سنة 1988 حتى وصلت منذ عام وأكثر إلى قناعات بشأن إشكالاتها كافة، فقررت نشرها. 

عجيب أنك أمضيت هذه السنين كلها في تأمّل المخطوطة.

هذا ما يتطلبه البحث الأكاديمي الجدّي، وإن كانت ضرورات الحال بالنسبة إلى مخطوطة روحي استثنائية بذاتها. 

ما هي خلفية تولّي روحي كتابة مخطوطته؟

كان روحي من أبرز مفكري العرب العثمانيين في عصره وأغزرهم إنتاجاً (وستصدر قريباً عن المؤسسة مجموعة كاملة لأعماله). وكان إلى ذلك مقدسي المولد وأحد نواب القدس في البرلمان العثماني بدءاً بسنة إعادة الدستور (1908) الذي كان السلطان عبد الحميد قد علّقه في سنة 1878. وانتُخب روحي في سنة 1912 نائباً لرئيس البرلمان، وعاصر عقد المؤتمر الصهيوني الأول وواكب قضية درايفوس خلال إقامته الطويلة في فرنسا (1894 – 1908) طالباً وأستاذاً في السوربون، ثم قنصلاً عاماً للدولة العثمانية في بوردو عاصمة فرنسا الثانية، واطّلع على كتابات الصهيونية الأولية بما فيها مؤلفات أوسشكين، وهيرتسل، وماكس نورداو، ورصد بدايات النشاط الصهيوني الميداني في القدس وسائر البلاد، وكان شديد التأثر بموقف عمه (أخ والده ياسين) ضياء الدين الخالدي، من الصهيونية، والذي كان ربما أول مَن نبّه العرب إلى خطورة أطماعها. 

هل من مزيد بشأن تأثير يوسف ضياء الدين في روحي بالنسبة إلى الصهيونية؟

كان يوسف أسنّ من روحي وتولى رئاسة بلدية القدس ثلاث مرات قبل وفاته في سنة 1906، وكان النائب العربي الوحيد في البرلمان العثماني الأول الذي علّقه عبد الحميد. وكان يوسف صديقاً حميماً لجمال الدين الأفغاني ومن أشد المعارضين لعبد الحميد بسبب تنكّر الأخير لدستور البلاد، وهو ما أدّى إلى نفي يوسف من إستانبول. ويوسف هو العربي الوحيد، على ما نعلم، الذي وجّه رسالة بالفرنسية إلى هيرتسل في سنة 1899 يدعوه فيها إلى إيقاف نشاطاته في فلسطين، ويحذره من أن ثمة مئات الملايين من المسلمين والمسيحيين الذين يقفون في وجهه. وكان يوسف بمثابة المرشد الروحي لروحي، والقدوة التي حذا حذوها. 

هل يمكننا أن نعتبر يوسف وروحي من روّاد الحركة الوطنية الفلسطينية ضد الصهيونية؟

يمكننا حتماً أن نعتبرهما من روّاد المناهضين للصهيونية من العرب العثمانيين، لكن ليس بصفتهما من روّاد الحركة الوطنية الفلسطينية. 

كيف كان ذلك؟

يـــا ســـيدي لــم يكـــن هنـــاك قبـــل الحــرب العالميـــة الأولـــى وفـــي ظـــل الإمبراطوريــة العثمانيــــة (وإن كانت في آخر أيامها)، تلك القطريــة العربيــة: فلسطين؛ لبنان؛ سورية؛ شرق الأردن (الأردن)؛ العراق. فهذه التسميات كلها تفرّعت من معاهدة سايكس – بيكو المشؤومة وتوزيع الولايات العربية أنفالاً بين باريس ولندن وقيام ما سُمّي نظــام الانتـــداب الزائـــف الــذي كـــرّس معاهدة سايكس – بيكو، كما كرّس شرعية وعد بلفور وحدد حدوداً دولية لفلسطين لفصلها عن أمها سوريا الكبرى. وكان أساس هذا كله، القوة، قوة الحراب البريطانية ومباركة الولايات المتحدة الوِلسونية (Wilson)، ورغبة الرئيس الأميركي الأخير المذكور والمخادع في إغلاق أبواب بلاده إغلاقاً محكماً ضد الهجرة الجماعية اليهودية إلى بلاده من أوروبا الشرقية. 

ألم يكن هناك كتّاب معاصرون لروحي تصدّوا للصهيونية أبرزهم نجيب الخوري نصّار؟

فعلاً، كان أبرزهم نصّار، فبينما كان العديد من الصحف بما فيها الصحف المصرية وحتى بعض صحف سوريا الكبرى يروّج للصهيونية على اعتبار أن في مشاريعها الزراعية وغيرها بعض الفائدة للدولة، تميّز نصّار منها جميعاً بصفته صاحب جريدة "الكرمل" الصادرة في حيفا، والذي سبق أيضاً عيسى العيسى صاحب جريدة "فلسطين" الصادرة في يافا بتصديه العنيد مبكراً للصهيونية، مشاركاً في ذلك مواقف روحي وزميلَيه شكري العسلي وسعيد الحسيني في مجلس المبعوثان (البرلمان التركي). 

هل اختلفت مواقف كل من العسلي والحسيني ونصّار تجاه الصهيونية عن مواقف روحي؟

اختلفت من حيث إن نصّار كان صحافياً، وكان كل من العسلي والحسيني سياسياً، بينما عكس موقف روحي كونه مؤلفاً ومؤرخاً وبحّاثة. 

هل اختلفت خلفية نصّار عن خلفية روحي؟

طبعاً، هناك اختلاف في الخلفية، فقد وصفتُ بإيجاز خلفية روحي فيما ذكرته لك سابقاً، أمّا نصّار فهو لبناني المولد (عين عنوب) التحق بمدرسة الشويفات الشهيرة، ثم أمضى سنة أو سنتين في الجامعة الأميركية في بيروت على قول ابنه شفيق، وانتقل إلى طبرية بسبب ضيق العيش، حيث عمل في الزراعة، ثم الصيدلة إلى أن تنبّه إلى الخطر الصهيوني عن طريق سائح أميركي – كما يقول ابنه أيضاً – فقرر بعد ذلك تصفية أملاكه في قريته وتأسيس جريدة يومية كانت الرائدة بين الصحف العربية في التصدي للصهيونية. 

هل اختلفت كتابات نصّار عن الصهيونية مقارنة بمخطوطة روحي؟

لم يدّعِ نصّار يوماً أنه مؤرخ، ولم يحاول إعداد دراسة شاملة شبيهة بدراسة روحي، فهو صحافي منهمك في التعليق اليومي على مجريات الأحداث، غير أنه تميّز من روحي في كونه يتقن الإنجليزية التي كان روحي يجهلها. 

ما هي اللغات التي أتقنها روحي؟

إضافة إلى العربية والعثمانية كان روحي ضليعاً بالفرنسية، وله كتاب رائد عن فيكتور هوغو، كما أنه كان يتقن العبرية وله إلمام بالألمانية. 

ألم يكتب نصّار رسالة طويلة عن الصهيونية بعنوان "الصهيونية: تاريخها، غرضها، أهميتها"؟

الرسالة التي نشرها نصّار بهذا العنوان كان معظمها ترجمة مختارة (انتقائية) لمقال عن الصهيونية نُشر في "الموسوعة اليهودية" (The Jewish Encyclopedia) الصادرة في نيويورك في اثني عشر مجلداً. وكان كاتب المقال المؤرخ اليهودي الأميركي غوتهيل (Gottheil) من أقرب المقربين لهيرتسل، ولقد أسدى نصّار بترجمته هذا المقال خدمة كبرى، إذ أتاح للقارىء العربي العادي لأول مرة أن يطّلع على تاريخ الصهيونية وخططها وأطماعها برواية مؤرخ صهيوني، مثلما أراد مرشده هيرتسل روايتها لأتباعه. 

ألم يتولّ نصّار في رسالته هذه دحض كل ما ورد عن الصهيونية في مقال غوتهيل؟

لم تكن غاية نصّار أصلاً من نشر ترجمته للمقال دحض ما ورد فيه، بل بالعكس كان الغرض فضح خطط الصهيونية وأهدافها وكشفها كما هي، من باب "من فمك أدينك يا إسرائيل". أمّا تعقيبه على ما ورد في مقال الموسوعة، فجاء في صفحات قليلة في ذيل الرسالة، ومعظمه من باب "الاستعبار"، أي حثّ المواطن العثماني على أخذ العبرة من همّة الصهيونية وتنظيمها وحسن تدبيرها. 

لماذا اختار نصّار ترجمة مقال "الموسوعة اليهودية" في سنة 1911 بالذات؟

في ربيع تلك السنة قام نصّار بترجمة مقال الموسوعة عقب إثارة روحي وزميلَيه العسلي والحسيني (كان الأول نائباً عن دمشق، والثاني نائباً عن القدس وزميلاً لروحي) مسألة خطورة الصهيونية وأطماعها السياسية في البرلمان في إستانبول. 

هل يعني هذا أن ترجمة نصّار لمقال الموسوعة تلت إثارة روحي وزميلَيه قضية الصهيونية في البرلمان؟

طبعاً. 

هل كانت غاية نصّار مساندة النواب العرب فيما ذهبوا إليه في البرلمان؟

بكل تأكيد كان غرض نصّار تزويد النواب العرب بالذخيرة في سجالهم في البرلمان بتوفيره لهم نصاً صهيونياً رسمياً لا يمكن دحضه، كما وضع هذا النص أيضاً في تصرف كل مواطن عثماني مهتم. 

هل يمكنك إعطاؤنا مزيداً من التفصيل عن هذا التساند اللافت بين نصّار والنواب العرب؟

في ربيع سنة 1911، أثار روحي وزميلاه في مجلس المبعوثان موضوع خطورة الصهيونية وأهدافها السياسية، وكان ذلك بحضور الصدر الأعظم (أي رئيس الوزارة) حقّي باشا. واسترسل روحي في وصف الحال في "فلسطين"، وكيف أنه أصبح للمجتمع اليهودي (الييشوف) تنظيم داخلي محكم، وأن المستعمرات اليهودية تتمتع بحكم ذاتي، وأن اليهود يتدربون على التمارين العسكرية ويحملون أعلامهم جهاراً، وأصبح لديهم طوابع بريدية عليها صور زعمائهم. وعرض روحي على النواب نماذج من هذه الطوابع، كما لوّح بكرّاس صدر بالألمانية، ووقع عليه لأوسشكين وجاكوب كهان عنوانه "Our Program" (برنامجنا) يثبت أهداف الصهيونية الاستراتيجية والسياسية. فما كان من حقّي باشا إلّا أن سخر من هذا الكلام وسخّفه معلناً أن الصهيونية إن هي إلّا "رواية"، وما القائمون بها إلّا أفراد "مهووسون"، وأن الدول المسيحية الكبرى لن تسمح بإقامة دولة يهودية في الأرض المقدسة، وأن التدابير التي اتخذتها الدولة للحدّ من نشاطات الصهيونية فعّالة وكفيلة بإحباط مساعي الصهيونية كافة. 

هل كان كلام حقّي باشا هذا هو ما أثار غضب نصّار؟

بالضبط، ذلك بأن نصّار كان يتوقع أن يستجيب حقّي باشا لأقوال النواب العرب، ويقرر إرسال لجنة تحقيق لتقصّي النشاطات الصهيونية، فإذا بالباشا يقول ما قاله. وممّا أثار حفيظة نصّار أكثر فأكثر أن صحيفة "طنين"، كبرى الصحف العثمانية في إستانبول، أخذت تردد ما قاله حقّي باشا، بل توجّه التهم إلى مَن يتّهم الصهيونية بسوء النيات. 

إذاً، لا تناقض بين روحي ونصّار.

أبداً، بل ممّا لا شك فيه أن روحي بالذات كمؤرخ، رحّب بترجمة نصّار لمقال الموسوعة لأنها وفرت له مادة أولية في غاية الأهمية لم يتسنَّ له الاطلاع عليها بسبب جهله الإنجليزية، ويمكنه إضافتها إلى سائر المصادر الصهيونية بالفرنسية (هيرتسل، وماكس نورداو)، والألمانية (أوسشكين وكهان) التي اعتمدها في تحرياته. 

هل كان روحي ينوي نشر دراسته عن الصهيونية في كتاب؟

أغلب الظن أن هدفه الأول لم يكن النشر، وإنما وضع تقرير شامل عن الصهيونية وينابيعها وتاريخها وأهدافها ونشاطاتها، كي يقدّمه إلى البرلمان بدعم من زملائه العرب للضغط على حقّي باشا لتعديل نظرته إلى الصهيونية عن طريق استجواب يقدمه ضده في البرلمان، بصفته نائباً لرئيسه على غرار ما سبق أن فعل في قضية تتعلق بالقدس. 

هل كان بين روحي وحقّي باشا خلاف سياسي؟

نعم، كان روحي في موقعه نائباً لرئيس البرلمان، ومعارضاً سياسياً لحقّي باشا، ولا سيما بالنسبة إلى مواقف الأخير تجاه الصهيونية، كما استهجن استهجاناً كبيراً تردد حقّي باشا وأنصاره على صالون جريدة "جون تورك" الصادرة بالفرنسية ذات الانتشار الواسع في إستانبول. وكانت مؤسسة مالية كبرى صهيونية قد تملكت الجريدة المذكورة التي كان صالونها يقع في أفخم حيّ في المدينة تُقدم فيه المشروبات والمرطّبات، وكان حقّي باشا يتردد عليه استخفافاً بمنتقديه. وسبق أن أحبط روحي أيضاً من موقعه في البرلمان، مشروعاً صهيونياً لعقد أحد المؤتمرات الصهيونية في إستانبول ذاتها. 

ما هو الحيّز الذي احتّله مقال "الموسوعة اليهودية" في مخطوطة روحي؟

من حيث الكم لم يتعدَّ مقال الموسوعة نحو 15% من نص مخطوطة روحي، إنما أهمية المقال من حيث المضمون كانت أكثر كثيراً من ذلك. 

كيف كان ذلك؟

لأن أهمية مقال الموسوعة عن تاريخ وأهداف الصهيونية أتت كونه من تأليف المؤرخ غوتهيل أقرب المقربين لهيرتسل، وليس من عنديات نصّار أو روحي. 

هل أوضحت ما اقتبسه روحي من مقال الموسوعة في كتابك؟

طبعاً، وزيادة في الإيضاح جعلت كل فقرة اقتبسها روحي من المقال في أحرف مائلة لتمييزها من سائر المتن. 

هل يمكنك إعطاء مزيد من التفصيل عن موقع مقال الموسوعة في مخطوطة روحي؟

شكلت مقتبسات روحي من الموسوعة جزءاً أساسياً من سردية روحي عن تاريخ الصهيونية الحديثة التي بعثها هيرتسل في سنة 1897، غير أنها توقفت عند المؤتمر الصهيوني السابع في سنة 1905، أي أن مقال الموسوعة لم يغطِّ الفترة ما بين سنة 1905 حتى وفاة روحي في سنة 1913، وهو ما اضطر روحي إلى إتمام السردية لغاية 1913 من مصادر غير مقال الموسوعة. 

ما كان موقع مقتبسات روحي من مقال الموسوعة بصورة عامة في مجمل سردية روحي عن الصهيونية في مخطوطته؟

مخطوطة روحي لم تقتصر على نشوء الصهيونية الحديثة على يد هيرتسل، وإنما تناولت في قسمها الأول التاريخي ينابيع الصهيونية ومواردها الأصيلة في التوراة والمعتقدات الدينية وديمومة هذه المعتقدات والدوافع عبر القرون مع التأريخ لصعود وهبوط الاعتقاد بـ "العودة" بحسب تقلبات موازين القوى بين المجتمع اليهودي والمجتمعات السائدة المحيطة، بحيث جاء مقال الموسوعة متوسطاً بين هذا السرد التاريخي في الجزء الأول من المخطوطة، وبين أبحاث روحي الميدانية في الجزء الثالث من مخطوطته عن المستعمرات وخطط الصهيونية للتحايل على تدابير الدولة العثمانية للحدّ من نشاطاتها. 

هل هذه الشمولية في معالجة روحي للصهيونية هي ما جعلتك تصف المخطوطة بأنها "أول دراسة علمية بالعربية عن الصهيونية"؟

بكل تأكيد. 

هل أشار روحي إلى مقال الموسوعة بصورة خاصة؟

نعم أشار إليه في موقع واحد، إذ أضاف تفصيلات عن المقال لم ترد في ترجمة نصّار. 

هل اعتمد روحي على مصادر أُخرى غير مقال "الموسوعة اليهودية" عند تأريخه للصهيونية الحديثة؟ وما هي هذه المصادر؟

لم يكن مقال "الموسوعة اليهودية" (بترجمة نصّار) المصدر الوحيد لروحي حتى عن الصهيونية الحديثة منذ هيرتسل، فقد اعتمد أيضاً على كتاب هيرتسل "الدولة اليهودية" وكتابات أوسشكين وجاكوب كهان وماكس نورداو (كما ذكرنا) ومنشورات منظمة (ICA) والأليانس (Alliance) وجمعية "عزرا" الألمانية ومدرسة الجمناز العبرية بيافا. وكان روحي أول مَن استشهد من العرب بما قيل داخل المؤتمر الصهيوني (العاشر من آب / أغسطس 1911) وذلك نقلاً عن جريدة Le Monde الفرنسية الصادرة في باريس، وعن جريدة "جون تورك" الصادرة أيضاً بالفرنسية في إستانبول. واعتمد روحي أيضاً، عن الفترة الزمنية إياها، كلاً من الجرائد التالية: "أورور"، و"أوريان"، الصادرتين في الآستانة، وكذلك "النصير" السورية و"النفير" القدسية و"الأخبار" اليافوية؛ أمّا عن الفترة السابقة للصهيونية الحديثة، فقد تعددت مصادر روحي إضافة إلى مقال الموسوعة، ومنها التوراة، والعهد الجديد، والقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والشعر الجاهلي (بحسب تسلسل ذكرها)، وكُتُب: "تقويم" أي محاضر مجلس المبعوثان، و"إظهار الحق" لرحمة الله بن خليل العثماني الكيرواني، و"المختصر في تاريخ البشر" لأبي الفداء، و"مختصر تاريخ الأمم القديمة الشرقية" لفان دين برغ،[1] و"التلمود: أصله وتسلسله وآدابه" الذي ترجمــه عن العبريــة شمعون يوسف مويال (مصر 1909)، و"كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لابن أبي أُصيبعة، و"الصهيونية" لداود فريسكو بالفرنسية[2] (إستانبول 1909)، و"الأغاني"، و"قاموس الأعلام"، و"معجم البلدان" لياقوت الحموي، و"صاحب الإحاطة في أخبار غرناطة"، وشرح كتاب "فصول الآباء" لداود حفيد ابن ميمون بالعربية،[3] و"تاريخ روسيا" بالفرنسية لألفريد رامبو ناظر المعارف في فرنسا. 

هل ذكر روحي جميع هذه المصادر التي نقل عنها؟

طبعاً. فهذا ما يتطلّبه البحث الأكاديمي بداهة، وروحي خرّيج السوربون ومحاضر فيها تتلمذ على يد أبرز أساتذتها. 

هل أحال روحي إلى الموسوعة كل مقطع اقتبسه منها؟

ممّا لا شك فيه أنه كان سيحيل أهم هذه المقاطع إلى مظانّها في الموسوعة عند انتهائه من إتمام مخطوطته، فالإحالة إلى الموسوعة تعزّز حجته على حقّي باشا وأنصاره، لأن ما ورد فيها ليس من عندياته كما قلت سابقاً، ولأنها، طبعاً، من أولى متطلبات البحث العلمي. 

هل ثمة اعتبارات أُخرى غير الشمولية التي ذكرت جعلتك تصف مخطوطة روحي بما وصفتها به؟

تميزت مخطوطة روحي في تفصيلاتها (عدا شموليتها) من كل الكتابات المعاصرة لها بالعربية عن الصهيونية. 

هل يمكن إعطاء فكرة عن هذه التفصيلات؟

يمكن لكل قارىء هادىء متأنّ فقير إليه تعالى وطالب للعلم والمعرفة الاطلاع عليها في مقدمتي في الكتاب. 

لكن هل يمكن إيجازها لنا مشكوراً؟

حسناً، تميزت نظرة روحي إلى الصهيونية بتفسيرات ولمحات واجتهادات مبتكرة لافتة، فهو أولاً: يركّز على الينابيع الدينية والتوراتية للصهيونية وديمومة دعوتها الأصيلة إلى "العودة" عبر القرون. وثانياً: يربط بين صعود الدعوة إلى "العودة" وهبوطها وبين موازين القوى. وثالثاً: يميّز بين موقف الإسلام والدول الإسلامية المتعاقبة المبني على العدل على الرغم ممّا ورد في القرآن الكريم من عداوة اليهود للإسلام، وبين المسيحية الغربية بدءاً بقسطنطين (ت 337) ومروراً بمحاكم التفتيش وانتهاء بكرومويل (ت 1658) وباغتيال القيصر الروسي في سنة 1881. ورابعاً: يعزو روحي صراحة عداء المسيحية الغربية لليهودية إلى الشعور المسيحي بالغضب والهياج كلما "تصوروا آلام المسيح وعذابه وتحميله الصليب"، ولا يتوانى عن التعقيب على ذلك بقوله "فتظهر من ذلك الحكمة البالغة فيما ورد في القرآن الكريم ﴿وما قتلوه وما صلبوه....﴾ [سورة النساء، الآية 157]." وخامســاً: يعتبـــر روحـــي ظهــــور مـــوزس مندلســــون (ت 1786) ودعوته إلى التفريق بين الدين والقومية نقطة تحول فاصلة، وخصوصاً بالنسبة إلى العودة، وذلك بعد أن تبنّى جمهور الحاخامين (ascama) نظرية مندلسون هذه. وسادساً: يشدد روحي على حركة ما سمّاه "التشبيه"، أي الاندماج (assimilation)، والتي نتجت من نظرية مندلسون وأدت إلى خروج اليهود من الغيتوات (ghetto) واندماجهم أكثر فأكثر في المجتمعات الأوروبية المسيحية. وسابعاً: يعزو روحي ظهور اللاسامية الحديثة إلى ردة  فعل النظام القيصري الروسي على اغتيال القيصر إسكندر الثاني في سنة 1881، ويستفيض في سبر أغوار اللاسامية الروسية فيُرجعها إلى عدة جذور منها نظام الإقطاع الذي حرّم على اليهود ملكية الأرض، وعزوفهم أصلاً عن الزراعة بسبب قساوة أوامر ونواهي المشناة (Mishneh) في أعمال الزراعة، الأمر الذي دفعهم إلى التجارة والربا والجوهرة ]العمل في المجوهرات[ وقناعة اليهودي العادي بالكسب القليل والأجرة اليسيرة مقارنة بالمسيحي الروسي، وجهل الفلاح الروسي (muzhik) وإدمانه الفودكا. وثامناً: يركّز روحي على أن حركة "شفوفي زيون" (محبي صهيون) التي برزت في أواخر القرن التاسع عشر لم يكن مصادفة أنها ظهرت أول ما ظهرت في روسيا وانتشرت منها إلى دول أوروبا الشرقية دون أوروبا الوسطى أو الغربية، ويعتبر أن اقتصار انتشارها في الدول الأوروبية الشرقية ذو أهمية قصوى ذلك بأن "أعظم مجتمع لليهود في العالم" يوجد في روسيا (3,500,000 يهودي)، وبولونيا (1,200,000 يهودي). وتاسعاً: يعتبر روحي أن هيرتسل كان "عديم المبالاة بالمسائل المذهبية"، ولم يشتغل بعلوم الدين ولا بالتلمود ولا بالعبرية، إلّا إن حادثة درايفوس خلال إقامته في فرنسا نبّهته إلى وجود اللاسامية، فوضع كتاباً لم يقصد أصلاً توزيعه إلّا على أقرب المقربين إليه. وشدّد روحي على قناعة هيرتسل بأن المسألة اليهودية ليست مسألة دينية ولا اجتماعية، وإنما هي مسألة قومية، وهو في ذلك يناقض مندلسون التناقض كله. ويؤكد روحي أن فلسطين لم تكن من أولويات هيرتسل، وأن هدفه إنما كان إيجاد مكان ما لتأسيس دولة يهودية فيه ليكون ملجأً لشعبه، أمّا ميله اللاحق نحو فلسطين فكان الدافع إليه استقطاب أتباع "شفوفي زيون" إليه. 

شكراً على هذا التفصيل الشيّق، وأخال أن ما ذكرت من تفصيلات هو ما جعلك تصف مخطوطة روحي بما وصفتها به.

الواقع أنك لن تجد في الكتابات المعاصرة لروحي، وحتى في كتابات مَن تبعه، ما يقترب في دقته وشموليته ممّا ورد في مخطوطته. نعم، ما نقلته عنه هو بعض ما دعاني إلى وصف مخطوطته بما وصفتها به. 

هل تعني أن هناك اعتبارات أُخرى؟

نعم. 

لكن ألم يتساوَ نصّار مع روحي في موقفه من الصهيونية؟

تساوى نصّار في قوة التزامه، وفي حرصه على فضح الصهيونية استناداً إلى مصادرها الرسمية، وفي صلابة عدائه لحقّي باشا وأنصاره، وفي نقده لتقصير موظفي الدولة في تطبيق تدابيرها ضد الصهيونية، على أن نصّار – كما قلت للتو – لم يكن مؤرخاً، ولم يحاول التأريخ للصهيونية. 

نعود إلى سؤالنا عن الاعتبارات الأُخرى.

إضافة إلى ما ذكرت، كان روحي أول مَن كشف وجود شبكة المصارف في الديار العثمانية التابعة لمؤسسات صهيونية مركزية، والتي كانت تحمل أسماء تمويهية تخفي أهدافاً سياسية. وكان أول مَن كشف وجود شبكة صحف بالعربية والتركية والفرنسية ممولة من مؤسسات صهيونية تتبادل خلسة المقالات المؤيدة للصهيونية. وهو أول مَن اكتشف وجود مافيا (Mafia) في سنجق القدس[4] قوامها بعض كبار الموظفين الأتراك المحليين المرتشين، وموظفون وسماسرة من العرب دأبهم الاستيلاء قسراً وتزويراً على أراضٍ عربية تُنتزع من قرويين بسطاء لبيعها لمؤسسات صهيونية. وهو أول مَن انتبه إلى خطورة سرعة وتيرة انتشار المدارس اليهودية في البلاد وازدياد عدد خرّيجيها. وهو أول مَن درس بإمعان برامج التدريس في المدارس اليهودية، إذ اكتشف تركيزها على التثقيف الديني والقومي الهادف. 

ماذا عنيت بقولك إن بعض ما كتبه روحي يتميز من بعض كتابات مَن تبعه؟

خذ مثلاً المقال عن الصهيونية في الجزء الثالث من "الموسوعة الفلسطينية" (ص 64) الصادر في سنة 1984، أي بعد سبعين سنة من تاريخ مخطوطته، وقابِله بنصّ روحي الذي نشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأنا هنا أترك للقارىء الحكم على النصّين. 

ألا يمكنك تلخيص الأمر لنا؟

حسناً، سأكتفي بمقطعين وردا في "الموسوعة الفلسطينية"، أولهما عن المسيح اليهودي المخلّص جاء فيه: "لكن الدارسين للدين اليهودي يعلمون أن الارتباط اليهودي بـ 'العودة إلى الأرض المقدسة' [لاحظ التعبير] هو ارتباط توراتي مشروط، إذ إن الدين اليهودي يحرّم العودة إلى أرض الميعاد [لاحظ التعبير]، ويعتبر أن مثل هذه المحاولة هـــي مـــن قبيل التجديـــف والهرطقـــــة لأن 'عودة' اليهود [....] لا يمكنها أن تتم إلّا على يد مبعوث من لدن الخالق."

قابل هذا التفسير "بحركية" نظرية روحي، ورأيه بأن الدعوة إلى "العودة" إنما ارتبطت بموازين القوى. أمّا إن الدعوة إليها من قبيل "التجديف والهرطقة" في غياب المسيح فهذا كلام لا صحة له. 

كيف نعلم أن هذا الكلام لا صحة له؟

يا سيدي لا شك في أنك سمعت بأبي عمران موسى بن ميمون القرطبي (ت 1204)، فالدارسون للدين اليهودي يعلمون بأنه أكبر مجتهدي اليهودية بلا منازع بعد التوراة، وأنه استنبط من التوراة والتلمود 613 أمراً ونهياً (mitzvot) يومياً على المؤمن اليهودي أن يتقيّد بها وإلّا اعتُبر مارقاً. ومُلاحظ في هذا الصدد أن الأمر رقم 20 يأتي مباشرة في سلسلة المئات من الأوامر والنواهي المرقّمة بحسب أهميتها بعد الأوامر الـ 19 الداعية إلى الإيمان بوحدانية الخالق وبصفاته الأزلية، أمّا مضمون الأمر 20 فهو إعادة بناء الهيكل.

وبديهي أن إعادة بناء الهيكل لا تكون إلّا بعد "العودة"، وأنها تعني فيما تعنيه هدم المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة. واللافت بصورة كبيرة جداً أن أبا ميمون يدعو بني دينه سراً إلى هذا، وهو الذي تمتع بالحظوة كلها من السلطان صلاح الدين، وأن دعوته إلى إعادة بناء الهيكل تزامنت مع الفتح الصلاحي للقدس الشريف. 

قلت إن ثمة مقطعين في "الموسوعة الفلسطينية" تريد التعليق عليهما، فما هو المقطع الثاني؟

يتعلق المقطع الثاني بموضوع نشوء اللاسامية في روسيا في أواخر القرن التاسع عشر: تقول "الموسوعة الفلسطينية" إن المجتمعات في هذا "الجزء من العالم كانت تمر بتحوّل سريع من الإقطاع إلى الرأسمالية، صاحَبها انفجار سكاني نتج عنه وجود أعداد كبيرة من اليهود لم يكن من الممكن استيعابها بسرعة في الاقتصاد الرأسمالي الصناعي الجديد، الأمر الذي سبّب خلق المشكلة المعروفة باسم 'المسألة اليهودية' "؛ أترك للقارىء المقارنة بين هذا التفسير وتفسير روحي الذي أوردناه. 

كنت قد ذكرت أن كلاً من نصّار وروحي آمن بقدرة الدولة العثمانية على التصدي للصهيونية على الرغم من تخاذل بعض قادتها، فهل يمكن تفصيل ذلك؟

يعتدّ نصّار بالدولة العثمانية ويعوّل عليها ويقول عنها "لنا جامعة عثمانية وراية تخفق فوق رؤوسنا، وهناك خلافة تضم إلينا شعائر 250 مليوناً من المسلمين غير العثمانيين [....] فكلمتنا إذن قوية"، أمّا روحي فيستفيض في شرح أسباب عدم قدرة الصهيونية على تحقيق أهدافها. 

هل يمكن ذكر هذه الأسباب بإيجاز؟

الإيجاز صعب، وسأحاول: أورد روحي ثمانية أسباب رئيسية: أولاً، إن الكثافة السكانية اليهودية موجودة في روسيا وأوروبا الشرقية حيث نمت اللاسامية الحديثة، وإن ثمة هجرة جماعية يهودية من روسيا وأوروبا الشرقية في اتجاه القارة الأميركية، وإن عدد اليهود الذين هاجروا إلى القارة الأميركية في الخمس والعشرين سنة الأخيرة بلغ 1,800,000، بينما كان عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين من روسيا وأوروبا الشرقية لا يتعدى 2000 مهاجر في السنة، وإن مجموع عدد سكان المستعمرات اليهودية في البلد خلال العشرين سنة السابقة لم يتجاوز 8000 مستعمر، فاستنتج من ذلك أن جاذبية القارة الأميركية تفوق أضعافاً بأضعاف جاذبية فلسطين، على الرغم من انتشار حركة "شفوفي زيون" وظهور هيرتسل. كما استنتج أن استمرار الهجرة الجماعية اليهودية من روسيا وأوروبا الشرقية على الوتيرة نفسها كفيل بإفراغ يهود أوروبا الشرقية وصبّهم في القارة الأميركية بعيداً عن فلسطين خلال فترة زمنية قصيرة جداً. ثانياً، بقي روحي على قناعته، على الرغم من حادثة درايفوس (وذلك استناداً إلى إقامته الطويلة في فرنسا واندماجه الكلي في مجتمعها)، بأن حركة التشبيه اليهودية (assimilation) في أوروبا الوسطى والغربية حركة ثابتة راسخة، وأن اللاسامية الحديثة ستظل محصورة في أوروبا الشرقية. وممّا عزّز هذه القناعة لديه إحصاءات تشير إلى عدم انتشار جمعيات "شفوفي زيون" في أوروبا الوسطى والغربية. ثالثاً: نظر روحي إلى أهم مؤسستين مركزيتين يهوديتين ناشطتين في الدولة العثمانية وأوفرهما موارد، وهما منظمة الأيكا (ICA) التابعة للبارون دو هيرش، وجمعية الأليانس (Alliance) التعليمية اليهودية الفرنسية، فلاحظ أن هيرش (الذي كانت له مصالح ضخمة في الدولة العثمانية) قد أسس جمعية Territorialists بهدف إيجاد وطن يهودي غير فلسطين اختاره في الأرجنتين، وأنه كان يدفع الهجرة الجماعية اليهودية دفعاً إلى الأرجنتين بعيداً عن شواطىء فلسطين. هذا إلى أن البارون روتشيلد الذي كان قد أسس عدداً من المستعمرات في فلسطين، حوّل إدارة مستعمراته في البلاد إلى منظمة الأيكا بسبب استيائه الشديد من نمط حياة سكان مستعمراته. أمّا الأليانس فلاحظ روحي أنها رفضت إحلال العبرية محل الفرنسية في شبكة مدارسها الواسعة الانتشار في ولايات الدولة العثمانية. رابعاً، اعتبر روحي أن لا دولة من دون شعب يعمل في الزراعة، وأن الزراعة من مقومات أي قومية، بينما يتنافى العمل الزراعي ومشاقّه مع الجبلّة اليهودية لأسباب تاريخية وتراثية. وما رسّخ هذه القناعة في ذهن صاحبنا ملاحظته عزوف معظم المتخرجين اليهود عن العمل في الزراعة حتى بعد تخرّجهم من المدرسة الزراعية الكبرى في نيتر بالقرب من يافا. خامساً، اعتبر روحي أن اللغة الواحدة حجر الزاوية لأي قومية فاعلة، ولاحظ أن اللغة العبرية لسان ميت اندرس قبل ميلاد سيدنا عيسى، وأن ألسنة اليهود تختلف باختلاف ممالكهم، وأن حتى المؤتمرات الصهيونية ذاتها تعتمد الألمانية والجاركونية بدلاً من العبرية. سادساً، لاحظ صاحبنا ما تعاني جرّاءه الحركات القومية الناشئة (الصرب واليونان) من ضغوط الدول العظمى (الإمبراطورية النمساوية والروسية)، على الرغم من أن هؤلاء الشعوب استمروا ماكثين في أرضهم حافظين للسانهم وقوميتهم خلافاً لليهود. سابعاً، اعتبر روحي أن تعليق العودة بظهور المسيح المخلّص الذي حاز إجماع (ascama) كبار الحاخامين في أعقاب فتاوى مندلسون واجتهاداته التي ذكرت، ما زال سائداً في أوروبا الوسطى والغربية، على الرغم من ظهور اللاسامية في روسيا وأوروبا الشرقية. وممّا عزّز هذه القناعة لديه تلقّيه بصفته نائباً لرئيس البرلمان العثماني العديد من البرقيات المتعاقبة من كبار حاخامي الدولة من عدة ولايات تشجب الصهيونية بشدة وتتنصل منها وتعتبرها مارقة. ثامناً، اعتبر صاحبنا أن المشروع الصهيوني مشروع "صناعي"، أي اصطناعي "لأنه قائم على غير ناموس العمران." 

شكراً على هذا التفصيل، أخال أن هذه الأسباب وما سبق أن ذكرت عن روحي هي التي دفعتك إلى وصف مخطوطته بأنها "أول دراسة علمية بالعربية عن الصهيونية".

بكل تأكيد وتشديد. 

لقد أتعبناك بأسئلتنا، لكن ما زال لدينا سؤالان آخران نعدك بأنهما آخر أسئلتنا.

لا، تفضلوا. إنما لديّ ملاحظة عامة على ما ساق صاحبنا من أسباب لقناعته بقدرة الدولة العثمانية على التصدي للصهيونية، وتعود هذه الملاحظة إلى أهمية مخطوطته القصوى كوثيقة تاريخية فريدة، بل يتيمة في قيمتها ذلك لكونها صورة بالأشعة السينية (X-Ray) لتفكير رجل دولة عربي عثماني على عتبة الحرب العالمية الأولى. فلو تأملت في الأسباب التي ساقها روحي لوجدتها جميعاً بلا استثناء في غاية الوجاهة والمعقولية من منظار سابق للحرب العالمية الأولى. فسبحانه وحده عالم بالغيب، وأنّى لصاحبنا في سنة 1913 أن "يعلم" أن الحرب هذه ستجعل خلال أربع سنوات الشمس تشرق في المغرب وتغيب في المشرق، وأن أكثر مظاهر ذلك هولاً سيكون سقوط إستانبول والقدس في يد بريطانيا وحلفائها، وإغلاق أبواب الولايات المتحدة أمام الهجرة الجماعية اليهودية من أوروبا الشرقية، وإحياء اللغة العبرية بحماية نظام انتدابي قائم على ما سُمّي كذباً "عصبة الأمم" يدفع الهجرة الجماعية اليهودية من شرق أوروبا دفعاً في اتجاه فلسطين بحجة إنشاء وطن قومي يهودي فيها. فما هما سؤالاكما الأخيران؟ 

يُكثر روحي إضافة عبارة "عليه السلام" كلما ذكر أحد أنبياء بني إسرائيل، أليس هذا نوعاً (ولو غير مقصود) من إضافة الشرعية على ادعاءات اليهود بأحقّيتهم في البلاد؟

أبداً، لا علاقة لهذا بذاك، فصاحبنا نفسه حسم أمر ما تسمّيه الأحقّية باختصار ناجز موجز عندما صرّح في مقابلة مع جريدة "هتسفي" العبرية المقدسية في سنة 1909، ما يلي: "لسنا مدينين لكم بشيء، فقد فتحنا هذه البلاد من البيزنطيين وليس منكم"؛ أمّا عبارة "عليه السلام"، فيا سيدي لقد ذكر سبحانه في كتابه العزيز خمسة وعشرين رسولاً يجب الإيمان بهم تفصيلاً، بمعنى أنه يتعين التصديق برسالتهم وبأشخاصهم، وقد وردت أسماء ثمانية عشر منهم في ثلاث آيات (الأنعام، 83 - 85)، بينما وردت أسماء سبعة آخرين في آيات متفرقة. والذين وردت أسماؤهم في سورة الأنعام هم: آدم؛ نوح؛ إبراهيم؛ إسماعيل؛ إسحاق؛ يعقوب؛ داود؛ سليمان؛ أيوب؛ هود؛ شعيب؛ صالح؛ لوط؛ الياس؛ أليسع؛ ذو الكفل؛ عيسى؛ محمد؛ ومعظمهم كما تلاحظ من بني إسرائيل. ولا تنسَ أن القرآن الكريم خلافاً للتوراة ذاتها يؤكد عصمة هؤلاء الرسل، أي أن الله حفظ هؤلاء من الوقوع في الذنوب والمعاصي، وأن العقيدة الإسلامية تقول بتحريف بني إسرائيل لكتبهم، وهو ما جعلهم يقعون في هذا الخطأ الفادح. 

شكراً على هذا الإيضاح. سؤالنا الأخير: هل في مخطوطة روحي أي رسالة إلينا اليوم؟

ماذا تعني بـ "رسالة"؟ 

أقصد هل فيها ما له علاقة بمجريات زمننا الحالي، أم إن أهميتها تكمن في أنها تؤرّخ لفترة معينة سابقة فقط؟

في الواقع، يتناول روحي مباشرة العلاقة بين الأديان الثلاثة، المسيحية واليهودية والإسلام، ويؤكد القربى بين المسيحية والإسلام بسبب ما بينهما من ترابط روحي على الرغم من الخلافات اللاهوتية، كما يؤكد غياب هذا الترابط بين الإسلام واليهودية. 

هل لنا بمزيد من الإيضاح؟

يلاحظ روحي أن مَن يتلو العهد القديم لا يجد فيه شيئاً عن أخبار نعيم الجنة ولا عذاب جهنم الواردة في القرآن الكريم، ولا عن أخبار الحياة الأبدية وملكوت السماوات الواردة في الإنجيل الشريف. كما يلاحِظ أن اليهودية لم تفلح في الانتشار بين الشعوب بسبب فقدان الاستعداد لديها لأن تكون ديانة لعموم بني الإنسان، ذلك بأن اليهودية بعيدة عن تلك الصفة العمومية الإنسانية الموجودة في الإسلام والنصرانية، لأنها قومية الجوهر وتختص بأمّة منتخبة وشعب خاص فوق الشعوب كافة.

فهذه الملاحظات لصاحبنا من سبعين سنة مرتبطة أوثق الارتباط بما يُسمى اليوم "الإبراهيمية" نفاقاً وزيفاً وتدليساً، إذ إن هذا العنوان غدا ورقة تين لجأ إليها بعض مَن بيدهم الحل والربط في بعض الحواضر العربية لستر عوراتهم السياسية وأهدافهم البعيدة كل البعد عن أي مفهوم أو معتقد ديني. غير أن هذا الموضوع الخطر غاية الخطورة يحتاج إلى حوار مستقل، فإلى حوار آخر بشأنه قريباً إن شاء الله. 

سؤال أخير: هل وردت هذه التفصيلات التي ذكرتها في حوارنا في مقدمتك للكتاب؟

نعم وردت جميعها وبتفصيل أكثر باستثناء واحد هو ما ذكرته عن ابن ميمون.

 

المصادر:

[1] Emmanuel Van Den Berg, Petite histoire ancienne des peuples de l’Orient (Paris: Hachette, 1883).

[2] David Fresco, Le Sionisme (Constantinople: Fresco, 1909).

[3] أبو عمران موسى بن ميمون القرطبي، طبيب الملك صلاح الدين الأيوبي وابنه الملك الأفضل، ولُقّب بالرئيس، وهو مؤلف كتاب "فصول الآباء" وله حفيد اسمه داود كتب شرحاً على كتاب جده. ولـ "فصول الآباء" أهمية كبرى عند الإسرائيليين، وقد اعتادوا تلاوتها في أيام السبت الفاصلة بين عيد الفصح وعيد شابوعوت (عيد الأسابيع).

[4] سنجق: اصطلاح عثماني لوحدة إدارية أقل من "الولاية"، تضم أكثر من "قضاء" واحد. وقد جُعلت القدس في أواخر ستينيات القرن التاسع عشر عاصمة لسنجق ضم أقضية يافا وغزة والخليل وبئر السبع لغاية الحدود الدولية مع مصر في سيناء، ورُبط السنجق مباشرة بإستانبول احتراماً لمقام القدس.