محو المحو: تأملات في هبّة القدس ومداراتها
ملف خاص: 
النص الكامل: 

يؤسس ما جرى في القدس وغزة وفلسطين التاريخية في نيسان / أبريل – أيار / مايو 2021 لثقافة سياسية جديدة سِمَتها الأساسية تكوين الحرية واستعادة الكرامة، عبر الممارسة التحررية التي أنجزتها وستنجزها الذات الفلسطينية الفاعلة. الأمل كبير بأن يثمر الانتفاض الفلسطيني المعاصر، ثورة في فلسطين التاريخية تؤدي إلى الحرية والتحرر من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. إن المقاومة تولد من الأمل بالخلاص من الاستعمار، وتعيد بعث روح الهوية الوطنية المقاومة، لتقول "آن للنكبة ألّا تستمر" بعد نكبات متراصة ومتعاقبة على مدار 73 عاماً.

انتفاضة القدس أساساً لعملية التحرير

لماذا ينتفض المقدسيون؟ ومتى ينتفضون؟

إن فعل الانتفاض والتمرد في القدس لم يتوقف يوماً، فالمقدسي كفرد والمقدسيون كجماعة مارسوا النضال والصمود المقاوم، وواصلوا عيش حياتهم اليومية كفعل نضالي، منذ الأيام الأولى للاحتلال، واستمروا في ذلك، مؤسسين - بصبرهم ورباطهم وتحمّلهم المعاناة والمأساة والإرهاب الصهيوني - مفاهيم جديدة في الممارسة التحررية الفلسطينية: الحياة اليومية هي مقاومة، والصمود هو مقاومة، وإرادة النصر هي مقاومة، مُخرجين المقاومة ومفهومها واستراتيجيتها من إفك الثنائيات (مقاومة مسلحة - مقاومة شعبية)، جامعين بينهما تارة، وقادرين تارة أُخرى على اجتراح نماذج جديدة، وأُخرى قديمة، كالرباط والدعس والطعن والسخرية من المستعمِر.

إن التأمل في القدس وممارستها التحررية خلال العقدين الماضيين على الأقل، يجعلنا نتبيّن أن القدس كانت على صفيح ساخن: هبّة الشهيد محمد أبو خضير (2014)، وهبّة السكاكين (2015 - 2016)، وهبّة باب الأسباط في سنة 2017 (هبّة البوابات الإلكترونية)، وهبّة باب الرحمة (2019)، وجاءت هبّة القدس في سنة 2021 على مسار مراكمة فعل التمرد والمقاومة ورفض ثقافة الهزيمة، ومراكمة لانتصارات هبّتَي باب الأسباط وباب الرحمة، ولثقافة العصيان والتمرد والمقاومة في القدس.

ينتفض المقدسي لذاته وعليها ولفلسطين وللكرامة، رافضاً سياسات الأسرلة والتطبيع، وخطط بلدية الاحتلال في القدس و"المراكز الجماهيرية" (مراكز مجتمعية تتبع الشرطة الإسرائيلية) ووزارة المعارف ومناهجها؛ ينتفض المقدسي لشعوره بالظلم أو بسبب الظلم الذي تمارسه بُنية الإرهاب الصهيوني بأفعالها المتعددة، مثل الاعتقال والضرب والسحل وهدم البيوت والمخالفات وسحب الإقامة وطمس الهوية والتهجير القسري الصامت؛ ينتفض المقدسي دفاعاً عن هويته ورموزها كالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وباب العمود وساحته، والوطن والذكريات والأمل والمستقبل؛ ينتفض المقدسي كي يتنفس الحرية، ويعيش بلا سياط "الأرنونا" (ضريبة المسقوفات)، ورخص البناء الباهظة، وسياسات الفصل العنصري والاضطهاد، وسياسات التهجير والاقتلاع والمحو والاستغلال واقتلاع الوجود الفلسطيني من القدس "مدينة الله".

جاء انتفاض المقدسيين وتمردهم في نيسان / أبريل وأيار / مايو 2021 في باب العمود والشيخ جرّاح والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وباب الواد، مراكمة لفعل التمرد والمقاومة اللذين اجترحهما المقدسيون وأهالي الأراضي الفلسطينية المستعمَرة منذ سنة 1948، عبر الرباط والوجود في المسجد الأقصى في العقود الماضية. فالمقدسيون وأهالي داخل الداخل ومَن استطاع من الضفة الغربية لم يتركوا المسجد الأقصى وحيداً، ونظموا فاعليات للرباط فيه اتخذت ملامح ثلاثة أنواع: الرباط شبه البنيوي أو الموسمي (في رمضان وأيام الجمعة والمناسبات الدينية)؛ الرباط البنيوي المعتمد على حركات اجتماعية (مرابطون منتظمون)؛ الرباط اللابنيوي الفردي. وساهمت الحركة الإسلامية الشمالية والشيخ رائد صلاح في مأسسة الرباط في المسجد الأقصى، لكن حُظر الرباط بشكله البنيوي بقرار إسرائيلي في سنة 2015.[1] ويمكن التماس رمزية حضور اسم الشيخ رائد صلاح في هتافات المرابطين والمعتصمين في المسجد الأقصى، والهتاف له ونعته بـ "شيخ الأقصى"،[2] كونه ساهم في مأسسة الرباط، ونسج العلاقة ما بين أهل المثلث والمسجد الأقصى، الأمر الذي أدى إلى تعزيز أواصر العلاقات والمشاعر الوطنية والدينية بين أنحاء الجغرافيا الفلسطينية. وشكلت أم الفحم ومحيطها ومنطقة المثلث ظهيراً شعبياً ورافداً للقدس والمسجد الأقصى في الهبّات ضد الاستعمار الإسرائيلي.

يستند الرباط والتمرد والمقاومة والفزعة للمسجد الأقصى إلى بُعد وطني وديني وروحي واجتماعي وثقافي، إذ يُعتبر الأقصى رمزاً بحسب وصف عزمي بشارة، كونه مقدساً "للمتدينين وغير المتدينين كرمز وطني فلسطيني."[3] وهذه الرمزية لُمست بشكل واضح في هبّة باب الأسباط في سنة 2017 عندما رفض المقدسيون والفلسطينيون تركيب البوابات الإلكترونية، وانتصرت الهبّة وتبيّن أن "سر تماسك الجماهير وقوتها قد تمثل في مكانة المسجد الأقصى ورمزيته في وعي ووجدان الفلسطينيين كمقدس وطني وديني وثقافي حيث يشكل المسجد الأقصى جزءاً من الهوية الفلسطينية."[4]

لقد أسست الانتصارات في هبّة باب الأسباط وهبّة باب الرحمة والصمود المقاوم في عموم القدس، لثقافة مقاومة وتمرد وعصيان مقاوم. وساهمت بلدة العيساوية الثائرة[5] في بقاء شعلة التمرد والمقاومة قائمة في القدس خلال الأعوام الماضية، بحيث أضحى هناك ثقافة مقاومة ترفض أي اعتداء إسرائيلي بحقّ المسجد الأقصى، أو بحقّ المقدسيين وصمودهم في بيوتهم وعلى أرضهم.

هبّة القدس: في منهج ثقافة التحرير

إذا تأملنا مجموعة من ملامح هبّة القدس في سنة 2021، نرى أنها في جزء منها تشبه سمات وملامح هبّة باب الأسباط، كون هبّة القدس نتاج تراكم وامتداد وتطور لهبّتي باب الأسباط وباب الرحمة. وربما أخطأ بعض المحللين في وسم الهبّة بأنها عفوية، لأن لا شيء يولد من العدم، ذلك بأن الهبّة تراكمية وامتداد لسابقتَيها، وما بين العفوية والمفاجأة فروق مربكة، فالهبّة العفوية لا يصل صداها ومداها إلى غزة وفلسطين المستعمَرة منذ سنة 1948 والضفة الغربية والشتات الفلسطيني. إن المفاجأة كانت درساً من دروس الهبّة التي فشل الاستعمار الإسرائيلي في التنبؤ بها، أو في وعي مداراتها وطاقاتها المتفجرة من باب العمود إلى الشيخ جرّاح والمسجد الأقصى وغزة واللد وحيفا والناصرة والجليل والجولان وأمكنة وأزمنة سابقة ولاحقة في مسيرة التحرر الوطني.

لقد أسس المقدسيون بفعل المقاومة وتمردها، ثقافة الانتصار بدلاً من ثقافة الهزيمة التي أدمنها بعض النخب السياسية والثقافية الوظيفية، فقد أسقط المقدسيون والفلسطينيون في أماكن وجودهم في فلسطين التاريخية بارادايم (paradigm) الخوف، إذ لم تعد تجدي سياسات الرعب الاستعماري وممارساته السادية، فالجيش الإسرائيلي الذي صُوّر على أنه "جيش لا يُقهر"، قُهر على درجات باب العمود والشيخ جرّاح والمسجد الأقصى وفي أم الفحم واللد وأمكنة تمتد من رأس الناقورة إلى أم الرشراش جنوباً، وقُهر عند حد "سيف القدس" ومعادلة الردع الفلسطيني الجديدة. انكسرت الإرادة الاستعمارية وسياساتها، ونهض خطاب التحرر والوحدة والكرامة بعد عقود من التيه السياسي الفلسطيني.

وساهمت الهبّة في إعادة الاعتبار إلى الفلسطيني وفاعليته، بعد عقود من الترويج المسموم بأن الفلسطيني "فاعل لا يفعل" بسبب سياسات الهندسة الاستعمارية، وسقط مشروع "الفلسطيني الجديد" الذي جُندت له أموال وطاقات وخبرات أوروبية وأميركية وإسرائيلية، والذي يهدف إلى سلخ الفلسطيني عن هويته الوطنية ومشروعية مقاومته للمستعمِر الإسرائيلي، سواء في الضفة الغربية وفي القدس أو في أراضي فلسطين المستعمرة منذ سنة 1948؛ فالهبّة اختبرت الأمل، وأعادت تأكيد الهوية الوطنية الجماعية للشعب الفلسطيني. وإلى جانب سقوط مشروع "الفلسطيني الجديد"، خُلخلت الحواجز النفسية والصور النمطية التي فصلت ما بين التجمعات الفلسطينية، والتحم النضال الجماهيري في فلسطين على أهداف مشتركة، فلم تعد سياسات التقسيم والتجزئة والشرذمة فاعلة في صدّ الشعور الوطني الهوياتي المقاوم؛ فالتضامن مع غزة خلال العدوان الإسرائيلي، ونجاح الإضراب العام في 18 أيار / مايو 2021، والتوافد إلى القدس والشيخ جرّاح والمسجد الأقصى وغيرها من المقاومات الثقافية والإعلامية والفنية التي تؤكد فاعلية الفلسطيني المقاوم، أمور كلها تشكل اختباراً أولياً لسقوط الجغرافيا الاستعمارية، ولإمكان استعادة الوحدة المكانية ووحدة النضال والمصير، بفعل الانتفاض الجماعي الفلسطيني.

برزت ملامح أفعال فلسطينية فردية وجماعية ناضلت بأشكال متعددة وبإمكاناتها المحدودة في سبيل القدس وقضيتها، فمنى الكرد ابنة حي الشيخ جرّاح أبدعت في الحديث عن قضيتها وهي قضية الحي وعائلاته، بينما أكمل المشهد شقيقها محمد الكرد في حديثه مع مذيعة شبكة CNN الأميركية عندما كسر هيمنة الخطاب الاستعماري تجاه الفلسطيني وقضيته، وتحدث بلغة المستعمَر المقاوم الرافض للهزيمة وخطابها، كونه يدافع عن حقوقه المشروعة. لقد غاب عن ساحات الهبّة الممتدة هذه، النخب بمعناها السياسي الكلاسيكي في الحالة الفلسطينية، ونشط شباب وفتيات تلقوا تدريبهم الأكاديمي والمهني في الجامعات والمعاهد، وتتراوح أعمارهم ما بين العقدين الثاني والثالث من العمر، معبّرين عن خطاب فلسطيني وحدوي وتحرري، ويسانهم أكاديميون وباحثون وإعلاميون، وحزبيون سابقون، ومعارضون لنهج الأحزاب القائمة، وطلبة جامعيون، ونساء ورجال وأطفال من فلسطين التاريخية.

أكد المقدسيون والفلسطينيون ببعض الأفعال الانتفاضية، هشاشة المنظومة الاستعمارية وبؤسها، فقد قام بعض الأفراد بأفعال لافته في النضال مثل الشاب من بئر السبع الذي وثب في باب العمود على رؤوس الجنود المدججين بالسلاح، وشاب فلسطيني استهزأ بشرطي إسرائيلي بأن شباب القدس يضربونه وينصحه بالابتعاد عن مواجهتهم، وشاب آخر دحرج شرطياً صهيونياً على درج داخل المسجد الأقصى.. ولم يقصّر الأطفال والشيوخ والنساء في إذلال جنود الاحتلال والشرطة، وغيرها كثير من المشاهد والأفعال، ضمن الإمكانات المتاحة، والتي شكلت حالة رمزية لاقت انتشاراً واسعاً في الأوساط الإعلامية الفلسطينية والعربية.

لقد أبدع المقدسيون والفلسطينيون في خطابهم الوطني إعلامياً وسياسياً، وأوصلوا رسالة الفلسطينيين عامة من أماكن وأحياز المعاناة والانتفاض والمقاومة، عبر أدوات الإعلام الرقمي الجديد، ومن خلال وسائل معتادة كرسم الجداريات والشعارات التي لاقت انتشاراً واسعاً مثل شعار "لن نرحل" المكتوب على جدار في الشيخ جرّاح.

وعبّر بعض الشعارات التي رُفعت في الإضراب العام في 18 أيار / مايو 2021 عن المطالب الفلسطينية بلغة شعبية، وخصوصاً اللافتة التي رُفعت في رام الله والمكتوب عليها: "عشان يجي اليوم وولاد مجد الكروم يلعبوا مع ولاد غزة في القدس"، وهذا الشعار هو تأكيد وحدة الشعب في فلسطين التاريخية ومصيره المشترك.

ورُسمت في ساحات المسجد الأقصى بعد فشل الاقتحامات المتكررة، قبّة الصخرة وخريطة فلسطين من مخلفات القنابل الإسرائيلية، وكُتب بجوارهما "لن تمروا"، وهذه البلاغة الخطابية هي تعبير عن الثقافة المقاومة والفن المقاوم، وتأكيد لمقولة إن الثقافة جزء أصيل وأساسي في المعركة والوعي المقاوم.

تقاطعت الهبّة الأخيرة في القدس مع الهبّات التي سبقتها، وخصوصاً تجاوزها للحزبية والمناطقية، وتفوّقها على المقولات السياسية الموروثة من الاستعمار ومعاهداته، ومن بؤس المآلات السياسية الفلسطينية وهشاشة طروحاتها. فلم تعد فاعلية الانتفاض في فلسطين مقتصرة على التنظيمات والأحزاب والمنظمات الجماهيرية، بل ربما تجاوزت الفاعلية الانتفاضية الفلسطينية البنى الحزبية والجماهيرية القائمة، وبرزت الهبّة كحراك جماهيري واسع وعريض فوق الحزبية والمناطقية والانتماءات الضيقة، كون الهبّة نضالاً للتعبير عن الهوية الفلسطينية الجماعية، وللدفاع عن الفلسطيني في وجه دولة الاستعمار الاستيطاني التي تعمل على اقتلاعه من بيته وفضائه الخاص، وبهذا تكون الهبّة قد أعادت الصراع إلى مربعه الأول كصراع شعب يسعى للتحرر من الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.

أفشلت هبّة المقدسيين المدعومة من أهالي الضفة الغربية وأهالي أراضي فلسطين المستعمَرة منذ سنة 1948 جميع محاولات الاستعمار الإسرائيلي في فرض هيمنته على باب العمود، ومحاولة فرضه استمرار وضع الحواجز الحديدية. وأفشل المقدسيون مخطط إخلاء عائلات من حي الشيخ جرّاح، كما أفشلوا اقتحامات الشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود المتكررة للمسجد الأقصى، وبرباطهم وصمودهم أفشلوا دخول مسيرة الأعلام التي قام بها المستوطنون إلى باب العمود والمسجد الأقصى. ووسّعت الهبّة مدارات القدس وفلسطين والنضال التحرري لتصل إلى مدن عربية وعالمية نزلت شعوبها إلى الشوارع والميادين العامة، وبعضها زحف إلى حدود فلسطين مثلما حدث على حدود فلسطين المحتلة مع الأردن ولبنان، حيث زحفت الجماهير إلى تلك الحدود، كما شهدت بغداد واحدة من أكبر التجمعات الجماهيرية المنددة بالاحتلال والمناصرة لفلسطين.

نفي الانقسام عبر ممارسة التحرر

ما بعد هبّة القدس ليس كما قبلها، فقد أسست الهبّة لقطيعة مع الثقافة السياسية الفلسطينية السائدة والقائمة على الثنائيات ما بين الفعل العسكري والفعل الشعبي، وبرزت ملامح ثقافة سياسية شعبية فكّت السحر عن الفعل المقاوم، ولم تتركه حبيس الثنائيات، وإنما مزجت الفعل العسكري والشعبي والسياسي والإعلامي والثقافي والفني والاجتماعي معاً في تجربة نضالية مشتركة، أي أن الهبّة ومساندة فصائل المقاومة لها فضّت الجدل بشأن الخوف من تغوّل العسكري على الشعبي، وعقدت تصالحاً بينهما في الممارسة الانتفاضية والثورية.

لقد عادت إلى الفعل المقاوم جماهيريته، وانخرطت الجماهير المتنوعة سياسياً وثقافياً واجتماعياً وتعليمياً وجغرافياً في الفعل المقاوم بأشكال وأدوات متعددة ومتنوعة كالرباط، والصمود، والتضامن، والصلاة، والغناء، والرسم، والدبكة، ولعب الشطرنج، وإطلاق الصواريخ، والدعس، والإضراب، وإطلاق الرصاص، والعمليات الفردية، وغيرها من الأدوات التي تكاملت في معركة الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى من عتبات باب العمود إلى قطاع غزة مروراً بأم الفحم والجليل واللد وحيفا والنقب، ليتكامل وطن الشهداء في فلسطين التاريخية.

وجّهت الممارسة التحررية في فلسطين في سنة 2021 رسالة بأن التحرر ممكن وهو قاب قوسين أو أدنى؛ فسؤال الحرية والتحرر وزوال الاستعمار رهين فعل المقاومة، وهو الفعل الممكن في ظلال الوحدة الفلسطينية، ولم تعد الوحدة الوطنية شعاراً أو مقولات نخبوية باهتة، وإنما أضحت ممارسة تحررية ميدانية اختُبرت بالدم والبارود في فلسطين التاريخية، مُسقِطة جميع التقسيمات ومحاولات التشظية والتفكيك للجغرافيا - الثقافة الفلسطينية، بحيث إنه لم يعد للفلسطينيين خصوصيات في أماكن وجودهم في فلسطين. وما اختبرته الميادين العامة في إضراب 18 أيار / مايو 2021، في الجليل وحيفا والقدس ورام الله والخليل وبيت لحم وغزة وأمكنة كثيرة أُخرى، هو استفتاء فلسطيني على إمكان سقوط تقسيمات الاستعمار وتقسيمات أوسلو، وعودة على بدء إلى المقولات الأولى للهوية الفلسطينية وخطاب التحرير الوطني الجماعي.

لقد ساهم جزء من الفلسطينيين من أكاديميين وإعلاميين وطلبة وباحثين وسياسيين من تجمعات الجغرافيا الاستعمارية في فلسطين والشتات، في صناعة خطاب سياسي ومقولات التحرر من ميادين الانتفاض والاشتباك وليس من خلف المكاتب، أي أنهم أسسوا لمعرفة تحررية، ولخطاب تحرري نقدي يُعلّي من صوت الجماهير ودورها، بعيداً عن هشاشة خطابات النخب السياسية والأحزاب والمنظمات والاتحادات النقابية وغيرها من البنى التي تراخت عن فاعليتها ودورها النضالي والتحرري.

تؤكد تجربة انتفاض الفلسطيني في القدس وقطاع غزة والضفة الغربية وفي أراضي فلسطين المستعمَرة منذ سنة 1948، أن الذات الفلسطينية الفاعلية عبر ممارستها التحررية لديها القدرة على بناء المشروع الوطني الفلسطيني الجمعي من تحت، ومن دون الارتهان للانقسام الجغرافي والاقتسام السياسي. فالهوية الفلسطينية وتجلياتها الثقافية المتعددة كالشعر والرواية والفنون وغيرها، ساهمت في المحافظة على أواصر التواصل ما بين التجمعات الفلسطينية، وفي التأسيس لثقافة الانتصار ووعيه ومحاربة ثقافة الهزيمة ووعيها.[6]

حاولت النخب السياسية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة على مدار عقد ونيف من الزمن، التأسيس لشراكة وطنية واستعادة الوحدة وإنهاء الانقسام، لكن محاولاتها ما بين مدّ وجزر لم تؤسس لشراكة حقيقية أو ممكنة، بينما كشفت الهبّة والعدوان على غزة وانتفاض الشعب الفلسطيني في أراضي 1948، أن الانقسام الفلسطيني انتهى وينتهي بفعل الممارسة التحررية، أي انتهاء الانقسام ونفيه يكون عبر ممارسة التحرر الوطني.

كان الانتفاض في ساحات القدس وباب العمود والشيخ جرّاح والمسجد الأقصى ضد الاستكانة والضعف والتسليم بالأمر الواقع، وانتصر المقدسيون على إرادة الاستعمار الإسرائيلي وكسروها، كما انتصروا في إزالة البوابات الحديدية في باب العمود، ومنعوا التفرد بعائلات الشيخ جرّاح وأبطلوا محاولات طردها، وصدوا الاقتحامات التي حاولت الشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود والمستوطنون القيام بها في المسجد الأقصى. وعلى مدار اندلاع المواجهات والانتفاض في القدس كان أهلها ومرابطوها يستجيرون بغزة ومقاومتها، وقد أكدت رسالة محمد الضيف (القائد العام لكتائب القسام) للمرابطين أنهم ليسوا وحدهم في المعركة، وفي اليوم الذي انتصر فيه الفعل الشعبي الفلسطيني في القدس في إفشال مخطط إخلاء الشيخ جرّاح واقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى، دخلت المقاومة الفلسطينية في غزة معركة "سيف القدس" بتحديدها ساعة صفر البداية، واشتعلت مدارات الهبّة في اللد وأم الفحم وفلسطين كلها.

لقد ارتكبت دولة الإرهاب الإسرائيلي مجازر كبيرة في قطاع غزة، وأعلنت "إسرائيل" وقف إطلاق النار من طرف واحد، بعد حمام الدم في غزة، إلّا إن الفلسطينيين بوحدتهم الشعبية واشتباكهم في اللد وأم الفحم ورام الله والخليل وبيت لحم اعتبروا منجزات معاركهم الممتدة من القدس إلى غزة انتصاراً على إرادة الاستعمار ومخططاته، وتأسيساً لمرحلة مقبلة في الممارسة التحررية، وما دشّنه الشعب الفلسطيني في الشوارع وساحات الاشتباك يؤكد إمكان نفي الانقسام في ممارسة التحرر.

بعد أن وضعت الحرب أوزارها في قطاع غزة، وعقب انتصار الفلسطينيين على آلة العدوان والاستعمار الاستيطاني في باب العمود والمسجد الأقصى وفي اللد وفي غزة، دخل الفلسطينيون المسجد الأقصى فجر الجمعة 21 أيار / مايو 2021 بهتافات وتكبيرات رافعين العلم الفلسطيني، وكان بريق النصر يشع من عيونهم وتتعالى من حناجرهم أصوات النصر، بينما كانت علامات الذلة والمسكنة على وجوه الشرطة الإسرائيلية صاغرين لهالة النصر عند أبواب المسجد الأقصى. ولم تتوقف الممارسة الانتفاضية الاحتجاجية في الشيخ جرّاح بعد، وهناك دعوات إلى انتفاض ضد التهجير في بلدة سلوان، وما زال الانتفاض والتمرد في القدس بين المستعمِر والمستعمَر وجهاً لوجه، فالمحو الاستعماري لا يزول إلّا بمحو المحو.

خلاصة

أكدت الممارسة الانتفاضية الفلسطينية أن الفلسطينيين يستطيعون التحرر من الاستعمار واستعادة كرامتهم وحريتهم، من خلال تفعيل جميع الطاقات الفلسطينية الممكنة في فلسطين والشتات، وبتضافر الأدوات والفواعل الفلسطينية كلها، وأن العمل الجماعي الفلسطيني المشترك والتوحد على أهداف مشتركة وقرارات مشتركة يعبّد الطريق إلى فلسطين، وما درسُ القدس وهبّتها إلّا تأكيد لبصيرة الشهيد ناجي العلي الذي قال يوماً ما: "إن الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، بل إنها بمسافة الثورة." والثورة فعل الخروج والتمرد والتغيير، وصناعة الذات المقاومة، وتكوين الحرية، وانبعاث الكرامة الوطنية الفلسطينية.

 

المصادر:

[1] أحمد عز الدين أسعد، "السوسيولوجي والسياسي في حراك / لا حركة المرابطين في المسجد الأقصى 2000 - 2019"، ورقة قُدمت في مؤتمر "القدس تحديات الواقع وإمكانيات المواجهة"، الذي نظمه المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع الجامعة الأردنية ومؤسسة الدراسات الفلسطينية في عمّان بتاريخ 15 - 17 حزيران / يونيو 2019. وسستُنشر الورقة قريباً في كتاب عن المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات، والترجمة الإنجليزية في مجلة Jerusalem Quarterly.

[2] لمزيد عن نشاطات الشيخ رائد صلاح، انظر: وائل أبو هلال، "حوارات في تاريخ الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة سنة 1948 مع الشيخ رائد صلاح" (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2018)، في الرابط الإلكتروني.  

[3] عزمي بشارة، "لئلا يُفقد المعنى: مقالات من سنة الانتفاضة الأولى" (رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية/مواطن، 2002)، ص 63.

[4] أحمد عز الدين أسعد، "سوسيولوجيا المقاومة والحراك في فضاءات مدينة القدس المستعمَرة" (رام الله: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 2018)، ص 80 - 81.

[5] انظر: أحمد عز الدين أسعد، "العيساوية: روايات العزل والفصل" (القدس: مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، 2020).

[6] انظر: عبد الرحيم الشيخ، "المقولة الثقافية تنتصر على السياسة والتقسيم"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 85 ( شتاء 2011)، ص 126 – 134.

السيرة الشخصية: 

أحمد عز الدين أسعد: باحث فلسطيني في الدراسات العربية والإسرائيلية.