ما بعد القدس وسيفها
ملف خاص: 
النص الكامل: 

تهدف هذه المقالة إلى تتبع مسار الأحداث في فلسطين وتحليلها منذ التوافق على الانتخابات التشريعية الفلسطينية، ثم إلغائها بذرائع واهية، وصولاً إلى هبّة حي الشيخ جرّاح وباب العمود، وشدّ الرحال إلى المسجد الأقصى والمرابطة فيه، لمواجهة هجمات المستوطنين على أحياء القدس ومسجدها، والتي أدّت إلى معركة "سيف القدس" التي خرج سيفها من غمده في غزة، متجاوزاً حصارها، ليوحدها مع أجزاء الوطن كله، في محاولة لتتبّع تأثير ذلك في مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني.

***

لم تنجح صفقة ترامب - نتنياهو المستندة إلى الرواية الصهيونية التوراتية في أن تجد مَن يؤيدها فلسطينياً، وتمكنت الفصائل الفلسطينية، بعد ترقب وتردد، من توحيد موقفها في مواجهة الصفقة، وعُقد لقاء الأمناء العامين للفصائل على مختلف اتجاهاتهم عبر التقنيات الحديثة، ليسفر اجتماعهم عن برنامج حد أدنى قوامه تأليف إطار قيادي للمقاومة الشعبية السلمية في الضفة الغربية، وعقد انتخابات المجلس التشريعي ورئاسة السلطة التي وُصفت بـ "دولة فلسطين"، مع أن أكثر من نصف الشعب الفلسطيني يقيم خارج حدود تلك "الدولة"، ولا يحقّ له المشاركة في انتخاب رئيس دولته الافتراضية، واستكمال أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، باعتبار أن الأعضاء المنتخبين للمجلس التشريعي هم ممثلو الضفة الغربية وقطاع غزة في المجلس الوطني، من دون توضيح كيفية تحقيق ذلك، وما إذا كان تعيين الأعضاء سيكون عبر المحاصصة الفصائلية أم لا.

منذ اللحظات الأولى لهذا الاتفاق، كان ثمة إدراك مشترك لدى الجميع بأهمية الموقف الفلسطيني الموحد، وإن لم يكن ذلك كافياً لإخفاء التباينات المستمرة في الموقف السياسي؛ فبينما كان البعض يرى في تصعيد المقاومة الشعبية السبيل الأنجع لمواجهة صفقة القرن، وتحقيق وحدة ميدانية حقيقية لجميع القوى والاتجاهات، استمر البعض الآخر في محاولته كسب الوقت، وتجنّب الدخول في مواجهة حقيقية ضد مشروع ترامب - نتنياهو، منتظراً نتائج الانتخابات الأميركية، وداعياً إلى عقد مؤتمر دولي، وإحياء الرباعية الدولية، من أجل العودة إلى حلقة المفاوضات. لذلك، سرعان ما جرى التراجع عن قرارات المجلس المركزي، واجتماع الأمناء العامين، القاضية بوقف التنسيق الأمني وإعادة النظر في جميع الاتفاقات التي عُقدت مع الكيان الصهيوني. ولم تمضِ أشهر معدودة على هذا التوافق حتى أعلن حسين الشيخ، وزير الشؤون المدنية الذي يتولى إدارة التنسيق مع الاحتلال، عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقاً، بعد اجتماعه مع منسق شؤون المناطق في الإدارة الصهيونية التي يطلق عليها الاحتلال مسمى الإدارة المدنية.

على الرغم من هذا التراجع، وعدم تفعيل المقاومة الشعبية التي تساءل الرئيس محمود عباس عن وجودها في خطاب له، مطالباً الآخرين بأن يقولوا له "أين هي"، كأنها ليست ضمن مسؤولياته المباشرة المفترضة للموقع الذي يشغله، فإن الآمال بقيت معقودة على إجراء الانتخابات، وسط رهان على أن نتائجها قد تعيد ترتيب الأوراق من جديد، وتساهم في إنهاء الانقسام أو إدارته إلى حين الاتفاق على طبيعة المشروع الوطني للمرحلة الحالية.

في 15 كانون الثاني / يناير صدرت المراسيم الرئاسية بإجراء الانتخابات بشكل متتابع، بعد غياب دام 15 عاماً، وبعد أن وافقت حركة "حماس" وفصائل أُخرى على عدم إجرائها تزامنياً، تلبية لرغبة الرئيس محمود عباس الذي بدا واضحاً أنه يريد الاحتفاظ بخط الرجعة إذا لم تتطابق نتائج انتخابات المجلس التشريعي مع توقعاته. وكانت المفاجأة في إقبال الفلسطينيين الشديد على التسجيل للمشاركة في الانتخابات، إذ ترشحت 36 قائمة لخوضها. لكن ثمة أوراق اختلطت، ومخاوف ظهرت، بعد أن تراجعت احتمالات تشكيل قائمة وطنية موحدة تضم "فتح" و"حماس" وفصائل أُخرى، وهو ما سعت له حركة "فتح" بداية، لضمان نتائج الانتخابات التي كانت ستتحول إلى انتخابات متفق عليها ومحسومة النتائج. إلّا إن الحدث الأبرز كان في قرار ناصر القدوة ومروان البرغوثي، عضوَي اللجنة المركزية لحركة "فتح"، تشكيل قائمة مستقلة، وإعلان مروان البرغوثي ترشحه لانتخابات الرئاسة في مواجهة محمود عباس، الأمر الذي نسف اتفاقاً ضمنياً بين القوى السياسية بعدم وجود مرشح منافس لمحمود عباس في انتخابات الرئاسة، فكيف إذا كان هذا المرشح هو مروان البرغوثي، الأسير في سجون الاحتلال، والذي أشارت الاستطلاعات إلى احتمال فوزه بفارق كبير، فيما لو جرت الانتخابات!

أمام هذا التطور، لجأ الرئيس محمود عباس بقرار منفرد، وخارج الأطر القيادية، إلى إصدار مرسوم جديد يقضي بتأجيل الانتخابات إلى إشعار آخر، بذريعة مفتعلة وواهية هي عدم وصول رد إسرائيلي على إجراء الانتخابات داخل ستة مراكز بريدية في القدس، شارك عبرها في الانتخابات السابقة نحو 6000 مقدسي، بينما شارك أكثر من 85,000 مقدسي في ضواحي القدس. ومعلوم أن إجراء الانتخابات عبر صناديق البريد لا يعبّر عن أي مظهر من مظاهر السيادة الفلسطينية، وأن هذا القرار جعل من إجراء الانتخابات أو عدمها قراراً إسرائيلياً، مع أنه كان ممكناً تجاوز ذلك، واعتبار الانتخابات في القدس معركة وطنية في مواجهة الاحتلال، عبر وضع صناديق الاقتراع في الكنائس والمساجد، وأمام القنصليات الأجنبية، ومكاتب الأمم المتحدة.

أعاد إلغاء الانتخابات الساحة الفلسطينية إلى ما قبل مواجهة صفقة ترامب - نتنياهو، مكرّساً حالة الفردانية في اتخاذ القرار، في ظل غياب المؤسسات، وضعف تأثير الفصائل وتراجعها، إذ فضّل الرئيس محمود عباس، والدائرة الضيقة المحيطة به، بقاءهم في السلطة، على إنقاذ الوضع الفلسطيني من المأزق الذي يكتنفه، على أمل عودة السلطة إلى المشهد السياسي بعد خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض.

لم ينتهِ المشهد الفلسطيني عند إسدال الستار على عملية الانتخابات، وإنما تتابعت مفاجآته التي كان أولها في القدس عبر هبّاتها المستمرة لمقاومة الاستيطان والتهجير في حي الشيخ جرّاح وفي سلوان، وباب العمود، ومن خلال التصدي لاعتداءات المستوطنين على المسجد الأقصى، والتوافد الكثيف إليه وإلى حي الشيخ جرّاح، من جميع قرى فلسطين ومدنها المحتلة منذ سنة 1948، والمرابطة في المسجد الأقصى لحمايته، ومنع المستوطنين اليهود من اقتحامه. وتدحرجت كرة الثلج التي انطلقت من القدس وكبرت لتصل إلى غزة ناقلة إياها من دائرة الحصار المفروض عليها إلى دائرة الوطن كله، بعد أن أعلنت حركة "حماس" أنها ستقصف القدس بصواريخ المقاومة إذا ما استمرت اعتداءات المستوطنين عليها. آنذاك، تساءل بعض النخب عن جدوى هذا الإعلان، ومدى تأثيره، مستنكراً السعي لما وصفه هذا البعض بـ "عسكرة الانتفاضة"، باعتبار أن الفعل العسكري المنطلق من قطاع غزة سيؤدي إلى إجهاض الحراك الشعبي، وغير مدرك أن قواعد الاشتباك تغيرت، وأن المقاومة لم تعد تقاتل من أجل فكّ الحصار المفروض على غزة فقط، بقدر ما أصبحت جزءاً أصيلاً من المعركة المفتوحة في الوطن الفلسطيني، وأن لديها القدرة على التأثير فيها، وهو ما برزت أولى نتائجه حين طلبت حكومة بنيامين نتنياهو من المحكمة الصهيونية العليا تأجيل تنفيذ قرارها في شأن حي الشيخ جرّاح، كما منعت مسيرات المستوطنين في القدس وأجّلتها مراراً. بذلك، أصبحت ملفات الاستيطان والقدس والمسجد الأقصى والاعتداء على الفلسطينيين في المناطق المحتلة جميعها تنذر في كل لحظة باستئناف القتال مع انخراط المقاومة في قطاع غزة فيه.

فاجأت المقاومة في غزة الجميع، وشملت مفاجأتها العدو قبل الصديق، فهذا العدو لم يتمكن من تقدير نياتها، وتعامل مع تهديداتها باستخفاف، لكنه بوغت بذلك التطور الكمي والنوعي الكبير في قدراتها. ولعل مقارنة بسيطة بين حرب 2014 وحرب الـ 11 يوماً في سنة 2021 توضح هذا الفارق؛ ففي سنة 2014 أطلقت المقاومة 2500 صاروخ بمديات مختلفة خلال 51 يوماً، أمّا في المواجهة الأخيرة فأطلقت أكثر من ضعفَي هذا العدد في عشرة أيام فقط، علاوة على التغير النوعي في المدى، والرأس المتفجر، ودقة الإصابة، والقدرة على تجاوز منظومة القبة الحديدية المضادة للصواريخ، وفضلاً عن استخدام الطائرات المسيرة، وقذائف الكورنيت المضادة للدبابات، والتحديد المسبق لساعات القصف وأماكنه، من دون أن يتمكن العدو الذي يتمتع بسيطرة جوية مطلقة وقدرة نارية هائلة من وقف القصف أو إعاقته.

على الرغم من الحصار الخانق، وقلة الموارد المتاحة، فإن المقاومة في غزة عملت بصمت وتفانٍ على تطوير قدراتها وتحسينها، غير عابئة بالاتهامات التي توجَّه إليها، بينما كانت السلطة الفلسطينية منهمكة في فرض العقوبات عليها، واللهاث خلف مشاريع التسوية المزعومة. وقد زعم العدو الصهيوني أنه دمّر 100 كم من الأنفاق، أي ما يعادل 20% من الشبكة التي سماها مترو غزة، والتي تمتد - بتقدير العدو - إلى مسافة 500 كم، في حين أن مساحة قطاع غزة تبلغ 365 كم2، الأمر الذي يشير إلى أن المقاومة تمكنت من بناء شبكات كاملة، وبمستويات متعددة، تحت الأرض. ومع ذلك، كان إنجاز العدو المتمثل في تدمير الأنفاق محدوداً، على الرغم من استخدامه أكثر من 300 طائرة في الغارة الواحدة، وهو ما يزيد على عدد الطائرات التي استُخدمت في أي حرب عربية – إسرائيلية سابقة.

كان العدو عاجزاً عن رصد هذا التطور، على الرغم من التقنيات الحديثة التي يمتلكها، وانعكس ذلك على نضوب بنك أهدافه التي تركزت على الأبراج السكنية ومكاتب المؤسسات الإعلامية التي كانت تنقل أولاً بأول ما يجري على الأرض، كما فشلت استخباراته في تضليل المقاومة بإيهامها أنه يجري الإعداد لهجوم بري يهدف إلى خلق مناطق قتل لحشود المقاومين، بحيث بات في حكم المؤكد أن يتم تشكيل لجان تحقيق يُطاح فيها برؤوس أمنية وسياسية وعسكرية صهيونية، وذلك بسبب تقصيرها الفادح في تقدير الموقف، ورصد تطور المقاومة ومواجهتها.

أججت الحرب الحراك الجماهيري في فلسطين كلها، ولم تجهضه، كما أن أجهزة الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية لم تتمكن من وقف تقدم التظاهرات في اتجاه الحواجز الصهيونية، والتي أدى شبيبة "فتح" دوراً رئيسياً فيها. لكن التطور اللافت كان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1948 حين خرج آلاف الشباب الفلسطيني، ممّن لم يشهدوا النكبة ولم يعاصروا توقيع اتفاق أوسلو، في المدن العربية والمختلطة ليعلنوا في الذكرى 73 للنكبة، أن سياسات الأسرلة لم تنجح، وأنهم جزء أصيل من الشعب الفلسطيني. لقد قلب هؤلاء المعادلة، وأعادوا الاعتبار إلى قضيتهم الوطنية، وفتحوا جبهة جديدة كان يظن الاحتلال أنه تمكن من إخمادها، فارتبكت جميع حساباته، واضطر إلى إنزال الجيش وحرس الحدود لقمع هذه الانتفاضة، بعد أن عجزت قوى الأمن عن مواجهتها، وسيسجل أن ما حدث كان نقطة تحول كبرى في النضال الفلسطيني، إذ توحد الشعب الفلسطيني على أرضه كلها، من بحرها إلى نهرها، ليعلن أن قضيته واحدة، ومعركته واحدة، ومصيره واحد.

ترافقت هذه الجولة مع حملة تضامن جماهيرية واسعة مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، شملت دول العالم العربي والإسلامي والدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وكندا ودول أميركا الجنوبية، وفاقت ما سبقها من حملات، وقد تزامن ذلك مع صدور تقارير دولية وصفت النظام الصهيوني بأنه نظام فصل عنصري (أبارتهايد)، يعرّفه القانون الدولي بأنه جريمة ضد الإنسانية يجب معاقبة مرتكبها، ومَن يتعاون معه أو يصمت عنه. وفي هذا السياق، صدر تقرير منظمة بيتسيلم الإسرائيلية، وتبعه تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش التي اختتمته بتوصيات وجّهتها إلى الأمم المتحدة والدول الأعضاء والاتحاد الأوروبي ودوله، كما خصت الولايات المتحدة من رئيسها إلى أعضاء الكونغرس، إلى وزارتَي الدفاع والمالية، بتوصيات تتعلق بمراقبة المساعدات الأميركية للكيان الصهيوني ووقفها، أمّا السلطة الفلسطينية، فطالبها التقرير بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني، باعتباره مساعداً له في تنفيذ جرائمه، كما طالبت منظمة التحرير بإعادة النظر في المسار السياسي الذي تنتهجه. وأعقب صدور ذلك التقرير بأيام صدور تقرير مؤسسة كارنيغي من واشنطن الذي تضمن نقطتين مهمتين، هما: وصف إسرائيل بأنها نظام أبارتهايد، ومطالبة المجتمع الدولي بتغيير المسار السياسي الحالي الذي أثبت فشله، وبأن يستبدل به مساراً قائماً على إحقاق الحقوق. وتنبع أهمية هذين التقريرين من كونهما صدرا عن واشنطن، وأن الباحثين فيهما والمسؤولين عنهما على صلة قريبة بالإدارة الأميركية، في الوقت الذي تشهد قواعد الحزب الديمقراطي تغيرات مهمة على صعيد النظرة إلى القضية الفلسطينية، وإن كان ذلك لا يزال في بداياته. ولعلنا نذكر أن الولايات المتحدة الأميركية كانت الدولة الأخيرة التي قاطعت نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

أمّا السلطة الفلسطينية فكان موقفها مرتبكاً بعد إلغائها الانتخابات، إذ صمتت هي ووسائل إعلامها، في الأيام الأولى للحرب؛ ومع أن تلك الوسائل لم يكن لها دور فاعل فيها، إلّا إنها على الأقل لم تصف الصواريخ بأنها عبثية. وفي الأيام الأخيرة ضخّ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية بعض الدماء في عروق السلطة الجافة، عندما تحدث مسؤولون هناك، بمَن فيهم الرئيس جو بايدن، إلى الرئيس محمود عباس، وعاد الكلام مجدداً على حل الدولتين، وإدانة الاستيطان، واستئناف المساعدات إلى السلطة الفلسطينية، والعودة إلى المفاوضات من جديد، الأمر الذي شكّل قناعة لدى السلطة باستمرار دورها المعهود، من دون أن تستفيد من التجارب السابقة أو تستخلص الدروس والعبر منها، وهو ما برز من تكرار الرئيس عباس دعوته إلى استئناف عمل اللجنة الرباعية، داعياً إلى تشكيل حكومة وفاق، مشترطاً حصولها على موافقة المجتمع الدولي، ليعيد بذلك اشتراطات الرباعية على الحكومات الفلسطينية السابقة، وضرورة اعتراف مَن ينضم إليها بإسرائيل والاتفاقات المعقودة معها، الأمر الذي ساهم في تكريس الانقسام واستمراره، فضلاً عن كونه يُعَدّ مسّاً بما يُسمى سيادة فلسطين واستقلالها في ظل الاحتلال.

مضت عشرات الأعوام ولم تتحرك الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لفرض حل الدولتين، أو إزالة المستعمرات أو على الأقل تجميد الاستيطان، وهذا موقف ساهم في جعله حلاً مستحيلاً بحكم المتغيرات المستمرة على الأرض، وبواقع تحويل المناطق المحتلة إلى كانتونات متفرقة. وجاء التحرك الآن بهدف إعادة الهدوء ومنع تدهور الأوضاع، لتعود المنطقة مثلما كانت، ويستمر المخطط الصهيوني في الابتلاع المتدرج للأرض الفلسطينية، فإسرائيل لا تبيعنا سوى الوهم الذي لا تزال السلطة الفلسطينية تعيش عليه.

باء اجتماع القاهرة بفشل ذريع إزاء تمسّك السلطة الفلسطينية بهذا المسار، وطلبها أن تكون عملية إعادة الإعمار في قطاع غزة من خلالها. وفي مواجهة ذلك، اقتُرح مسار بديل قائم على إعادة بناء منظمة التحرير، وتحديد قيادة ميدانية للمقاومة الشعبية، وتولّي إطار قيادي موحد قيادةَ الساحة الفلسطينية، إلى حين إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني الذي سيعيد انتخاب الهيئات القيادية لمنظمة التحرير، ويجدد ملامح المشروع الوطني الفلسطيني، فبات من الواضح أننا أمام خطين متوازيين لا يلتقيان.

ربما يمكن القول إن ما حدث يشبه معركة الكرامة التي وقعت في 21 آذار / مارس 1968، والتي نتج منها تسلّم الفصائل المسلحة قيادة الشعب الفلسطيني، إذ تهاوى المشروع الحالي للسلطة الفلسطينية أمام تغوّل الاستيطان وعقم المفاوضات، وأثبتت الجولة الأخيرة أن في إمكان الشعب الفلسطيني استخدام وسائل متنوعة من أجل دحر الاحتلال، وأن المفاوضات ما عادت وحدها وسيلة مقبولة لتحقيق ذلك، بل يجب وقفها والتوقف عن محاولة اللحاق بها. وعند تغير موازين القوى، فليس ثمة إلّا مفاوضات واحدة مقبولة، وهي لتحديد إجراءات دحر الاحتلال وبلا شروط، تماماً مثلما تفعل حركة طالبان اليوم، ومثلما فعل الفييتناميون قبلهم.

في الجولة الأخيرة، لم يعد لزاماً التمسّك بأسلوب وحيد في مقاومة الاحتلال، وإنما أصبح ممكناً المزج بين المقاومة المسلحة في غزة، والمقاومة الشعبية في الضفة، ونضال الفلسطينيين في فلسطين المحتلة منذ سنة 1948، ضد نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري الذي يشمل الفلسطينيين كلهم، بمَن في ذلك الذين طُردوا من أراضيهم، ومُنعوا من العودة إليها، والذين يقع على عاتقهم دعم إخوانهم في الداخل، واستمرار تمسكهم بحق العودة، والنضال مع جميع الأصدقاء في العالم من أجل تحقيق العزلة الكاملة لدولة الاحتلال، وقطع العلاقات معها، ومحاكمة مجرمي الحرب الصهيونيين، فهذه جميعها خطوات تتكامل على طريق تحرير فلسطين وتحقيق العدالة لشعبها.

ما بعد القدس وسيفها ليس كما قبلها؛ فثمة مهمات عاجلة يجب الاستعداد لها، فضلاً عمّا سبق ذكره في سياق هذه المقالة، وبالتالي، فإن على حركة "فتح" التي كانت أول الرصاص وأول الحجارة، والتي كان لشبيبتها دور بارز في الهبّات الأخيرة، أن تنفض الغبار عن نفسها، وأن تستعيد دورها، وتوحد قواها، وتعزل من صفوفها دعاة التنسيق الأمني المقدس، ليس بمعارك داخلية، وإنما بتصعيد المقاومة ضد الاحتلال، فهذا الطريق وحده هو الذي يجنّبنا الفتن، ويقصي مَن يستمر في التعاون مع العدو. وعلى حركة "حماس" وفصائل المقاومة أن تعي أن المرحلة هي مرحلة الجبهة الوطنية المتحدة التي تضم الكل الفلسطيني، عبر إعادة بناء منظمة التحرير ومؤسساتها وهيئاتها، كما أن عليها ألّا تنجر وراء تلك الدعوات التي تحاول إعادتها إلى الطريق ذاته الذي سارت عليه السلطة الفلسطينية، وأن تدرك أن البرنامج المرحلي الوحيد، إن وُجد، إنما هو برنامج دحر الاحتلال بلا قيد أو شرط، وتكامل وسائل المقاومة، والنضال ضد نظام الأبارتهايد الصهيوني، وحينها نكون فعلاً أمام كرامة جديدة.

السيرة الشخصية: 

معين الطاهر: كاتب وباحث فلسطيني، والقائد السابق للكتيبة الطلابية في حركة "فتح".