"جولة صراع مفاجئة"، هي أكثر صفة لجأ إليها معظم المحللين الإسرائيليين في سياق تناول الهبّة الفلسطينية في أيار / مايو الفائت، والتي اندلعت انطلاقاً من مبدأ حماية القدس وأهلها وممتلكاتهم في مواجهة استمرار سياسة الاستيلاء على الأرض وتطهيرها عرقياً من جانب إسرائيل، واستقطبت على وجه السرعة كلاً من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 48، فهي "جولة صراع" مفاجئة، بتدحرجها حتى وصولها إلى داخل إسرائيل، أو إلى قلبها.
وبمتابعة متأنية يمكن أن نستشف أن ما استدعى اللجوء إلى هذه الصفة، هو تعامل إسرائيل أساساً مع قضية فلسطين، في الآونة الأخيرة، كما لو أنها قضية منسية، لا من طرفها فقط، بل من أطراف أُخرى كثيرة ذات صلة، بينها أطراف عربية تلهث وراء التطبيع مع دولة الاحتلال، وربما تتطلع إلى ما هو أبعد - عقد تحالفات، وهذا فضلاً عن أطراف دولية، وذلك في الوقت الذي كانت الساحة العالمية خاضعة لمواقف إدارة أميركية (سابقة) متماهية مع سياسة اليمين الإسرائيلي وروايته التاريخية، وداعمة بثقلها كله من أجل جرّ أطراف كثيرة إلى تسوية قضية فلسطين وفق خطة تهدف إلى تصفيتها، وعُرفت إعلامياً باسم "صفقة القرن".
وقد أمكن ملاحظة هذا التعامل الإسرائيلي مع قضية فلسطين أيضاً من خلال الأزمة السياسية غير المسبوقة التي شهدتها إسرائيل منذ أكثر من عامَين، والتي اتسمت على نحو خاص بشبه غياب للجدل السياسي حيال موضوعات كانت تحضر بقوة في الأزمات السياسية السابقة، ولا سيما في جولات الانتخابات، وفي مقدمها قضايا الاحتلال والاستيطان والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني ومستحقات عملية التسوية. وفي ضوء ذلك فقط، جاءت الهبّة الفلسطينية لتؤكد أن نسيان إسرائيل لقضية فلسطين، الأمر الذي ربما ساعدت جائحة كورونا عليه، هو ليس أكثر من مجرد تناسٍ سرعان ما بددته الهبّة التي أعادت قضية فلسطين لا إلى موقع متقدم في الأجندة الإسرائيلية العامة فحسب، بل إلى صدارة الاهتمام الإقليمي والعالمي أيضاً.
ويجدر القول إن من السابق لأوانه الحديث عن التداعيات التي ستترتب على جولة الكفاح الحالية، سواء فيما يتعلق بقضية فلسطين عامة، أو بمسألة العلاقة مع الفلسطينيين في إسرائيل وقواهم السياسية خاصة، والتي ازدادت حضوراً في ظل الأزمة السياسية الإسرائيلية الداخلية، والمساعي المحمومة المبذولة تحت وطأتها، سواء لناحية استمرار التمسك بحُكم بنيامين نتنياهو، أو في المقابل لناحية التخلص من هذا الحكم. وقد ظهر بالملموس لدى كتابة هذه المقالة أن تلك المساعي التي تكللت بوضع حدّ لأعوام حُكم نتنياهو التي استمرت منذ سنة 2009، وبتأليف حكومة إسرائيلية بديلة يوم 13 حزيران / يونيو 2021، كانت مرهونة بالاعتماد على قوة أحزاب الفلسطينيين السياسية، وذلك على خلفية ميزان القوى في الحلبة السياسية والحزبية في إسرائيل حيال الموقف من نتنياهو، تأييداً أو معارضة. غير أن ما يمكن قوله الآن هو أن هبّة الفلسطينيين في الداخل أعادت تذكير مَن تناسى بأنهم جزء من الشعب الفلسطيني، وأن قضيتهم نشأت تاريخياً كجزء من قضية فلسطين، فهي هكذا حتى الآن، وهكذا ستبقى.
وستركز هذه المقالة على قراءة مترتبات الهبّة الفلسطينية فيما يتعلق بعلاقة الفلسطينيين في أراضي 1948 مع إسرائيل والأكثرية اليهودية فيها.
دلالة الهدف المزدوج
أول ما يمكن أن نستقرئه من الهبّة، أنها كانت حراكاً شعبياً ذا هدف مزدوج: ضد سياسة إسرائيل من جهة، وضد الوضع القائم في الحلبة السياسية الفلسطينية في الداخل، من جهة أُخرى.
وفيما يتعلق بهذا الوضع القائم الأخير، فإن ما يستلزم القول استهلالاً، هو أنه يُنعت في أدبيات الأبحاث الإسرائيلية المتخصصة بشؤون السكان العرب في الداخل، بأنه بمثابة "فترة وردية" في علاقة الدولة بالمواطنين العرب.[1] وهي فترة ناجمة عن تطورين لافتين، وفقاً لتلك الأدبيات، كان لهما تأثيرهما في علاقة السكان العرب بدولة إسرائيل في العقد الأخير:
التطور الأول، عملية الاندماج الواسعة للعرب في إسرائيل في الاقتصاد الإسرائيلي، وقد تجلّى ذلك بصورة عملية ورمزية في قرار الحكومة الإسرائيلية رقم 922 (في كانون الأول / ديسمبر 2015)، والذي خصص المليارات لمعالجة المسائل الاجتماعية - الاقتصادية الملحّة في المجتمع العربي، واعتبر دمج الأقلية العربية في الاقتصاد الإسرائيلي هدفاً وطنياً وعاملاً مهماً للازدهار.
التطور الثاني تجلّى في توجّه العرب في إسرائيل نحو براغماتية سياسية، وتضاؤل الاهتمام بالقضايا الوطنية.[2]
ويجب القول إن هذه الخلاصة الأخيرة غلبت على جلّ القراءات الإسرائيلية لحراك الأحزاب السياسية الفاعلة في صفوف السكان العرب في الداخل في أثناء جولات الانتخاب الأربع التي شهدتها إسرائيل خلال الفترة 2019 - 2021، وهي خلاصة لا تتقاطع مع الخلاصات التي تتمسك بها تلك الأحزاب، والتي تقف في صلبها الادعاءات بأنه ليس ثمة تناقض بين الدفع قدماً بقضايا مدنية، وبين التمسك بالقضايا الوطنية.
على الرغم من ذلك، فإن قراءات عدة باحثين فلسطينيين تؤكد أن الوضع القائم داخل المجتمع الفلسطيني في أراضي 1948 تأثر إلى درجة كبيرة بتداعيات هبّة سابقة في تشرين الأول / أكتوبر 2000، والتي كانت جزءاً من الانتفاضة الفلسطينية الثانية في حينه. فقد خرج الفلسطينيون في إسرائيل آنذاك في احتجاجات واسعة تضامناً مع إخوانهم في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وتصدّت لها القوات الأمنية والشرطية الإسرائيلية بعنف شديد، الأمر الذي أدى إلى استشهاد 13 مواطناً فلسطينياً.
دفعت تلك الأحداث إسرائيل إلى تبنّي مجموعة من سياسات العصا والجزرة، الترهيبية والاحتوائية، من أجل منع انتفاضة أو هبّة شعبية مماثلة في المستقبل، ولإضعاف التنظيم الفلسطيني في الداخل. وحملت الانتفاضة آنذاك في طياتها معاني تؤشر إلى أن قضية فلسطينيي 48 تمثل جزءاً لا يتجزأ من جوهر القضية الفلسطينية.[3]
ويفيد ما نقلناه عن أدبيات البحث الإسرائيلية بشأن الفلسطينيين في الداخل فيما يتعلق بملامح الفترة الحالية، بمضمون استراتيجيتين تبنّتهما إسرائيل في سياق التعامل مع المجتمع الفلسطيني داخلها منذ الهبّة السابقة، وهما: 1 - استراتيجيا تجريم العمل السياسي الوطني؛ 2 - استراتيجيا دمج الفلسطينيين كأفراد في المجتمع الإسرائيلي. ولعل ما ساعد في ذلك هو التوجهات النيوليبرالية في الاقتصاد الإسرائيلي التي تبنّتها الدولة بعد صعود اليمين إلى سدّة الحكم.[4]
ولئن كان في هذا الوضع القائم ما يفسر الرسالة الاحتجاجية التي حملتها الهبّة على المستوى الفلسطيني الداخلي، فإن ثمة عوامل أُخرى تُعتبر في اجتماعها معاً أسباباً مباشرة لاندلاع الهبّة، ولما انطوت عليه من جوهر احتجاج ضد سياسة إسرائيل. من هذه العوامل: الأوضاع في القدس، ولا سيما في حيّ الشيخ جرّاح وفي المسجد الأقصى، وانطلاق حراكات شبابية ضد تخاذل الشرطة الإسرائيلية في مكافحة الجريمة والعنف في المجتمع الفلسطيني، وهي حراكات انبثقت منها مبادرات تجاوزت في تنظيمها ومثابرتها النضالية الأحزاب والقيادات السياسية، وأنتجت جهوزية كفاحية في بلدات فلسطينية عديدة تنتظر الإشارة كي تنطلق. ومع هذه الأسباب المباشرة لا يمكن إغفال الأسباب المتراكمة والمرتبطة بتلك السياسة.
ومن دون الاستغراق في التفصيلات، نشير إلى أن الأعوام الأخيرة، وخصوصاً في إثر سنّ "قانون القومية" الإسرائيلي في سنة 2018، كشفت عن أن جوهر الدولة الإقصائية ضد المواطنين العرب ما زال مثلما هو عليه، وإن تغيرت أدواته، وأن الدولة ماضية في نهجها القائم على إقصاء المواطنين العرب عن الموارد السياسية، والأرض، والميزانيات. فمنذ هبّة 2000 ظهر جيل جديد حملت عدة أجزاء منه معها توقّعات كبيرة في ظل السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في إسرائيل، وكان يبدو أن هذه الأجزاء خضعت لواقعها الدوني في تراتبية المواطنة والحقوق، نظراً إلى أنها لم تشهد القمع الذي كان في سنة 2000، وراهنت على الاندماج السياسي والاقتصادي في الخروج من حالة المأزق التي وصلت إليها، غير أن السياسات الإسرائيلية كانت في كل مرة توصل إليها رسالة فحواها أنها مواطنة منقوصة الحقوق مهما تفعل وتعمل.
يشار هنا إلى أن جيل ما بعد هبّة تشرين الأول / أكتوبر 2000 هو أكثر مَن وقف وراء الهبّة، وهو الذي راكم سياسات الغضب تجاه سياسات المؤسسة الإسرائيلية.[5] وفي هذا الصدد يقتبس شلومو ساند عن المفكر الليبرالي ألكسيس دي توكفيل قوله ضمن كتابه "الديمقراطية في أميركا"، إن "حبّ المساواة يتصاعد من دون حدود مع المساواة نفسها"، والذي ينطبق إلى حد كبير، في رأيه، على أوضاع الأجيال الجديدة من فلسطينيي 1948 في الحيّز الإسرائيلي الذي يشهد تقدماً في المكانة الاجتماعية لأجزاء واسعة منهم في أماكن العمل، وفي وسائل الاتصال، على سبيل المثال لا الحصر.
كيف واجهت إسرائيل الهبّة في أراضي 1948؟
واجهت إسرائيل الهبّة في أراضي 1948 بردّات فعل عنيفة عبر أدوات متنوعة يمكن إجمالها على النحو التالي: قمع عنيف استعملت خلاله الشرطة الإسرائيلية الرصاص المطاطي والحيّ، وهو ما أدى إلى استشهاد شابين أحدهما في اللد برصاص مستوطن، والآخر في أم الفحم برصاص الشرطة؛ توسيع صلاحيات الشرطة الإسرائيلية ومنحها إمكان فرض حظر تجول، وإغلاق بلدات فلسطينية في الداخل ووضع حواجز على مداخلها؛ استدعاء قوات حرس الحدود من الضفة الغربية إلى البلدات الفلسطينية في الداخل من أجل المساهمة في قمع الهبّة الشعبية، وهي وحدات معروفة بعنفها تجاه الفلسطينيين؛ تنفيذ عمليات اعتقال مكثفة في حقّ الشباب الفلسطيني، بلغ عددها أكثر من 1500، علاوة على تقديم النيابة العامة لوائح ضد كثيرين منهم.
وترافق ذلك مع إطلاق حملة تحريض إعلامي وسياسي ضد الهبّة وصفها بأنها عمل تخريبي وإرهابي لتبرير قمعها، كما ترافق مع تنظيم مجموعات يهودية مسلحة وغير مسلحة في ميليشيات، كتلك التي دخلت المدن الساحلية واللد والرملة، وفي مدن يهودية أُخرى، قمعت الفلسطينيين ولاحقتهم واعتدت عليهم بالضرب، وحرقت ممتلكاتهم ومحلاتهم التجارية. وعملت هذه الميليشيات التي استُجلب أغلب عناصرها من البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية عبر حافلات، تحت نظر الشرطة، وفي بعض الأحيان بحمايتها، لقمع الفلسطينيين في الشوارع، ومهاجمة محلاتهم وبيوتهم.[6]
ورصد تقرير بعنوان "إرهاب الاعتقالات الإسرائيلي" صادر عن مبادرة شبابية في الداخل باسم "حقوقيات للدفاع عن معتقلي الانتفاضة"، أنه في الأسبوع الأول فقط من انتفاضة الوحدة الفلسطينية، سجلت الحقوقيات والحقوقيون داخل أراضي 1948، حالات عنف مروعة، وانتهاكات حقوقية سافرة مارستها قوى القمع الإسرائيلية، من شرطة، ووحدات خاصة، وحرس حدود، وشرطة سرّية ومستعربين، وكذلك الأذرع القانونية متمثلة في القضاة والمدّعين. وبموجب التقرير شملت هذه الحالات ما يلي: اعتقالات عشوائية؛ اقتحامات البيوت والمحال التجارية؛ مهاجمة واعتقال مَن يصوّر ويوثّق الاعتداءات؛ عنف جسدي خلال الاعتقال والنقل إلى مراكز الاعتقال؛ تهديدات بالقتل؛ جمع أدلة زائفة؛ حشر أعداد من المعتقلين وخنقهم في مركبات ضيقة؛ انتهاك حقوق القاصرين في التحقيق؛ الاعتداء داخل مراكز التحقيق؛ منع نقل المعتقلين إلى المستشفى قبل التحقيق؛ الاعتداء على طواقم المحامين؛ إطلاق سراح مشروط.
واستخدم الادعاء تهماً متنوعة، منها تهم التحريض التي حاولوا من خلالها خلق صورة كاذبة بأن الاحتجاجات عنصرية و"معادية للسامية"، وذلك من خلال التشديد على الادعاء الزائف بأن المعتقلين حرّضوا على "قتل اليهود". كما استخدم الادعاء عدداً من التهم الواهية، مثل استخدام المواد المتفجرة، وجرائم عنصرية، ومخالفة قوانين مكافحة الإرهاب.
وبرز في جلسات تمديد الاعتقال الدور السياسي الذي أداه القضاة الذين تجاهلوا، بشكل متعمد، جميع الجوانب الحقوقية شديدة الأهمية، فقد أكد محامٍ في منطقة النقب أن أحد القضاة تحدث عن صدور "تعليمات عليا" إلى الجهاز القضائي. كما تجاهل القضاة بشكل شبه تام الاعتداءات على المعتقلين وآثار العنف الجسدي المروعة عليهم، وتجاهلوا في أحكام تمديد الاعتقال الانتهاكات كلها التي سُجلت، مثل منع الاستشارة القانونية أو انتهاك حقوق القاصرين، علاوة على تجاهلهم جميع الادعاءات الدستورية بشأن الحقّ في التظاهر، فضلاً عن تجاهل الإهانات التي وجّهها ممثلو الادعاء إلى المحامين في قاعة المحكمة.[7]
وتكررت خلال الهبّة ادعاءات فحواها أن الشرطة الإسرائيلية أبدت عجزاً عن مواجهة ومعالجة ووقف ما وصفته بـ "الاضطرابات وأعمال خرق النظام" التي شهدتها القرى والبلدات الفلسطينية في داخل إسرائيل، وفي مقدمها المدن التي تسمى "مدناً مختلطة"، والتي أصبح اليهود يشكلون أغلبية السكان فيها عقب النكبة الفلسطينية.
وفي ضوء ذلك طُرحت فكرة استقدام وحدات من الجيش الإسرائيلي إلى داخل المدن المختلطة، وفي مقدمها مدينة اللد، لتسدّ الفراغ وتعوّض عن العجز الشُّرَطي. فقد أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، خلال جلسة طارئة عقدها المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية - الأمنية يوم 12 أيار / مايو 2021، أن "الشرطة فقدت السيطرة على مجريات الأحداث"، ولذا فإنه "يعمل على الدفع قدماً بتشريع قانوني خاص يمكّن من استخدام جنود الجيش الإسرائيلي لتقديم العون إلى الشرطة في حالات الضرورة القصوى، كتلك التي نشهدها في الأيام الأخيرة، وخصوصاً في مدينة اللد"، مضيفاً أن "جنود الجيش الذين سيتم استجلابهم لهذا الغرض سيحصلون على التأهيل الخاص والملائم كي يكونوا قادرين على تنفيذ هذه المهمة." إلّا إن "رئيس الحكومة البديل" ووزير الدفاع، بني غانتس، رفض هذا "الحل" معلناً، خلال الجلسة نفسها، أنه "يعارض، بالمطلق، إدخال جنود الجيش إلى المدن الإسرائيلية وشوارعها"، موضحاً: "هذه ليست وظيفة الجنود. فهذه المهمة من اختصاص الشرطة وحرس الحدود." وهذا الموقف هو ذاته الذي تبنّاه غانتس أيضاً في قضية فرض الإغلاق في إبان جائحة كورونا، إذ أصرّ على إلغاء قرار كانت الحكومة اتخذته آنذاك، وقضى بـ "إعارة مئات من جنود الجيش إلى الشرطة الإسرائيلية لمساعدتها في فرض الإغلاق في الشوارع." فقد عارض غانتس إقحام الجنود في فرض الإغلاق. وعلى الرغم من ذلك، فإن نتنياهو واصل طرح فكرة هذا التشريع القانوني الخاص، مُجرياً بشأنها سلسلة من المشاورات، وقد انضم إليه في توجهه هذا ثلاثة وزراء آخرون، غير أن نتنياهو اضطر إلى التراجع عن مسعاه هذه بعد أن تأكد له أن ثمة مشكلات قانونية جدية تعترض هذا المسعى، وتحول دون التقدم في هذا المسار.
"عدو داخلي"!
كُتبت هذه المقالة في إثر انتهاء عهد نتنياهو كرئيس للحكومة الإسرائيلية، والذي استمر نحو 12 عاماً. ولا بُد من الإشارة إلى أن السمة الغالبة على موقف المؤسسة الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين في الداخل خلال معظم أعوام العهد الآفل، هي أنهم "خطر أمني" أو "عدو داخلي". ومع أنها سمة متأثرة، إلى حد بعيد، بالموقف الإسرائيلي الثابت، إلّا إنها شهدت تصعيداً خطراً منذ سنة 2000 التي شهدت هبّة تشرين الأول / أكتوبر. وفي مراجعة لتلك الفترة، نستطيع أن نرى أن الجهد الأساسي الذي بذلته حكومات نتنياهو كان موجّهاً نحو غاية واحدة: قمع التطلعات السياسية للمجتمع الفلسطيني في إسرائيل. وما زلنا نذكر أن ألوف بن، رئيس التحرير الحالي لصحيفة "هآرتس"، أكد منذ أعوام كثيرة أنه على الرغم من أن تصعيد التوتر الداخلي مع الفلسطينيين في الداخل يقترن عامة بعدد من الوزراء في حكومات نتنياهو، فإن هؤلاء ليسوا أكثر من مجرد حاملين للراية يختبىء وراءهم رئيس الحكومة نفسه. وشدد بن على أن هذا الأخير هو المبادر والمحرك لهذه السياسة، مع أنه يقلل من الحديث عن الموضوع، ومن التحريض ضد العرب.
وأوضح بن آنذاك أن "نتنياهو يرى أن إسرائيل جزء لا يتجزأ من الغرب وثقافته، فتاريخ العرب وثقافتهم ولغتهم لا تثير فضوله"، مشيراً إلى أن نتنياهو كشف عن سياسته ودوافعه خلال الدورة الثالثة لمؤتمر هيرتسليا بشأن ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي، في سنة 2003، عندما كان وزيراً للمال في حكومة أريئيل شارون، لكن أقواله لم تحظَ بصدى كبير في ذلك الوقت، إلّا إن التدقيق فيها الآن من شأنه أن يوضح المقاربة التي يتم تطبيقها من جانب حكومته إزاء العرب في الداخل.
يقول نتنياهو في خطابه في هيرتسيليا: "إننا نواجه مشكلة ديموغرافية أيضاً، لكنها غير متركزة في عرب فلسطين، وإنما في عرب إسرائيل. لا يوجد لدينا أي نية للسيطرة على السكان الفلسطينيين، ولذا فإن المشكلة الديموغرافية لن تكون قائمة هناك عندما ينتقل هؤلاء السكان إلى السيادة الفلسطينية. وقد حددنا في وثيقة الاستقلال أننا نقيم دولة يهودية وديمقراطية. دولة يهودية أولاً وقبل أي شيء، وبعد ذلك ديمقراطية. وكي لا تلغي الديمقراطية الطابع اليهودي للدولة، يجب ضمان أغلبية يهودية. إن مسألة العلاقة بين الأغلبية اليهودية والأقلية العربية هي قبل أي شيء مسألة مزدوجة، مسألة نسيج العلاقات والقدرة على دمج هذه الأقلية في حياة الدولة وفي الاقتصاد والمجتمع من جهة أولى، ومسألة العدد من جهة أُخرى. وإذا ما اندمج السكان العرب بشكل رائع (في الدولة)، ووصل عددهم إلى 35% أو 40% من مجمل عدد سكان الدولة، عندها ستصبح الدولة اليهودية ملغاة، وستتحول إلى دولة ثنائية القومية. ولو بقيت نسبتهم مثلما هي عليه الآن، أي نحو 20%، أو حتى أصبحت أقل، ولو بقيت العلاقات متسمة بالصرامة والتحدي والعنف وما إلى ذلك، فإنه في هذه الحالة أيضاً سيتم مسّ ادعائنا بشأن النسيج الديمقراطي. ولذا، نحن بحاجة إلى انتهاج سياسة توازن بين هذين الأمرين. وقبل أي شيء يتعين علينا أن نضمن أغلبية يهودية في دولة إسرائيل."[8]
وبطبيعة الحال لا تنحصر هذه المقاربة الصهيونية حيال الفلسطينيين في أراضي 1948 في نتنياهو، بل تشمل كثيراً من رؤساء الحكومة الإسرائيلية السابقين. ومثلما كتب المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف في الماضي، فإن الحركة الصهيونية، ومنذ اليوم الأول لبدء مشروعها في فلسطين، أدركت أنها ستواجه مقاومة عربية. ومنذ اللحظة الأولى التي وصل فيها الطلائعيون لم يكفّ اليهود في البلد عن السجال فيما بينهم عن أفضل السبل للتعايش مع "المشكلة العربية"، بل إنهم درسوا كل احتمال يقع بين ترحيل العرب إلى مناطق أُخرى، وبين إقامة دولة ثنائية القومية، كما استشرفوا الاحتمالات كلها لتقسيم البلد، لكنهم (في خضمّ ذلك) أجمعوا على مبدأ أساسي: أرض أكثر وعرب أقل.[9]
المصادر:
[1] دورون ماتسا، "اضطرابات أيار / مايو 2021 وتداعياتها"، نشرة "مختارات من الصحف الإسرائيلية"، 11 / 6 / 2021، موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في الرابط الإلكتروني.
[2] المصدر نفسه.
[3] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، "تقدير موقف: الهبّة الشعبية في مناطق الـ 48 المحتلة.. أسبابها وتداعياتها"، 26 أيار / مايو 2021، في الرابط الإلكتروني.
[4] أنطوان شلحت، "الهبّة الشعبية لفلسطينيي الداخل (2021) في مواجهة القمع والدمج الإسرائيلي"، مركز "الجزيرة" للدراسات، 23 أيار / مايو 2021، في الرابط الإلكتروني.
[5] شلومو ساند، "اليهود يفضلون التظاهر بدولتهم (اليهودية الديمقراطية)"، "هآرتس"، 20 / 5 / 2021.
[6] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، "تقدير موقف..."، مصدر سبق ذكره.
[7] حقوقيات للدفاع عن معتقلي الانتفاضة، "تقرير حتى فجر 15 أيار / مايو 2021: إرهاب الاعتقالات الإسرائيلي"، حيفا، فلسطين، أيار / مايو 2021 (نسخة خاصة وصلت بالبريد الإلكتروني).
[8] أنطوان شلحت، "بنيامين نتنياهو: عقيدة اللاحل" (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار، 2015).
[9] توم سيغف، "أرض أكثر، عرب أقل"، "هآرتس"، 11 / 1 / 2006.