أشار توماس ل. فرديمان، في مقالة له نُشرت في الطبعة الدولية لصحيفة "نيويورك تايمز" عن "لحظة كيسنجرية"[1] وفّرتها الحرب الإسرائيلية الإجرامية الأخيرة ضد قطاع غزة، إلى الاختراق السياسي الذي حققه وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر في إثر حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973 العربية – الإسرائيلية، والذي تُوّج بعد ستة أعوام بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل.
يبدو للمتابع أن هناك، على الأقل، محاولة تقودها واشنطن، بدعم من أطراف دولية وإقليمية، لتحويل معركة "سيف القدس" وانتفاضة أيار / مايو الفلسطينية الشاملة إلى ما يشبه حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973 من حيث نتائجها، وما يشبه "اللحظة البيكرية"، إذا ما استخدمنا التعبير نفسه لما حدث في سنة 1991، أي تعامل وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر سياسياً مع الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى وفق الرؤية الأميركية – الإسرائيلية، والذي تُوّج بـ "مؤتمر مدريد" (1991)، و"اتفاق أوسلو" (1993).
فالتحركات السياسية المكثفة التي تشهدها المنطقة منذ الأيام الأخيرة لحرب التدمير، وعقب المقتلة الوحشية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، تستهدف بثّ الحياة مجدداً في "العملية السياسية"، أو بكلمات أُخرى إعادة إنتاج اتفاق أوسلو، وبالتالي المفاوضات المباشرة برعاية أميركية منفردة، أو برعاية "الرباعية الدولية"، لا فرق إذ إن المضمون هو ذاته.
وهذا المسار لم يعد في دائرة اهتمام المستعمرين الصهيونيين إلّا بمقدار ما هو متعلق بالوظيفة الأمنية للسلطة الفلسطينية، وبالحفاظ على الوضع القائم، والذي يعني إدارة الصراع واستمرار السيطرة الاستعمارية على كامل أراضي فلسطين التاريخية، بما يشمل التنفيذ الفعلي المتواصل والمتدرج لصفقة القرن التي أبقت إدارة بايدن على أحد مكوناتها الرئيسية المتمثلة في الاعتراف الأميركي بالقدس الموحدة عاصمة أبدية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وفي نقل سفارة الولايات المتحدة إليها.
وفي الواقع، فإن إدارة بايدن عادت إلى تبنّي منهج الحزبَين الديمقراطي والجمهوري الموحد إزاء الصراع في المنطقة، وفي القلب من ذلك، ليس فقط الانحياز الكامل إلى الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، بل التحالف استراتيجياً معه أيضاً، وحمايته أمنياً وعسكرياً وسياسياً في المؤسسات الدولية.
لقد كان لافتاً وذا مغزى أن المكالمة الأولى للرئيس بايدن مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي جرت في ذروة العدوان الاستعماري على قطاع غزة، وبعد أربعة أشهر من تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة، مستهدفة الطلب منه المساعدة في وقف هجمات المقاومة، والوصول إلى وقف لإطلاق النار. وفي الوقت ذاته باشرت واشنطن إعادة علاقاتها مع السلطة الفلسطينية في مسعى لتعزيز دورها ودور الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، بما يؤسس للعودة إلى المفاوضات المباشرة مع الاحتلال برعاية أميركية، فضلاً عن ترجمة التوجه الدولي الذي تصرّ عليه إسرائيل بشأن التعامل مع السلطة مباشرة كعنوان لتمويل إعادة إعمار القطاع، وهو الموضوع الذي تربطه السلطة الاستعمارية بالوصول إلى تهدئة طويلة الأمد في القطاع، وبإنجاز صفقة تبادل أسرى. هذه الموضوعات الثلاثة: الإعمار، والتهدئة، والأسرى، مع مساعي استئناف المفاوضات السياسية المباشرة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، هي محور الحراك المصري المكثف عقب وقف إطلاق النار، والذي على ما يبدو يحظى بدعم أميركي وأوروبي وعربي.
شهر فلسطيني بامتياز
نظراً إلى مواقف حكومة المستعمرين الاستيطانية في أعقاب وقف إطلاق النار، يمكن القول إن تلك الحكومة تسعى لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه في حربها التدميرية الإجرامية ضد القطاع وبُنيته التحتية ومؤسساته ومساكنه ومواطنيه ومقاومته، بوسائل أُخرى في مقدّمها إحكام الحصار والخنق الاقتصادي، ومحاولة فرض شروط لإعادة الإعمار ترفضها فصائل المقاومة التي أكدت مجدداً معادلة الردع، وأن غزة ليست فقط سيفاً للقدس، بل لكل فلسطين أيضاً.
بذلك، ليس مبالغة القول إن أيار / مايو 2021، كان شهراً فلسطينياً بامتياز، حمل معه عدة إنجازات نوعية أرست مداميكها الأساسية بطولة أبناء شعبنا في القطاع وتضحياتهم وصمودهم وإبداعهم، كما أبناء شعبنا في القدس والضفة وداخل الداخل والشتات. فالمعركة خاضها الفلسطينيون في مختلف أماكن وجودهم بقبضة واحدة موحدة ميدانياً، ومدعومة من أحرار العرب وأحرار العالم، مؤكدين أنهم يواجهون استعماراً استيطانياً صهيونياً يمارس ضدهم جميع أصناف القمع والتنكيل والقتل والتطهير العرقي والتمييز العنصري، وينكر حقّهم في الحرية والاستقلال والعودة إلى ديارهم التي شُردوا منها.
لقد حققت معركة أيار / مايو الفلسطينية الشاملة عدداً من الإنجازات يمكن إيجاز أبرزها على النحو التالي:
- تعزيز قوة ردع المقاومة الفلسطينية وتطويرها في مواجهة الآلة العسكرية الاستعمارية الصهيونية الأقوى في المنطقة.
- إعادة القضية والحقوق الفلسطينية إلى مركز الصدارة في عواصم الدول الكبرى والمؤسسات الأممية والحقوقية والدولية باعتبارها قضية تحرر وطني وحقّ تقرير مصير، وذلك على الرغم من دعم واشنطن وعواصم أوروبية أُخرى للعدوان.
- ارتفاع منسوب دعم ومناصرة الرأي العام الدولي لحقوق شعبنا العادلة، وتبنٍّ أوسع للرواية الفلسطينية، ودعم أكبر لحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها (BDS). ومع أن الحراك الشعبي العربي لم يكن بالمستوى المأمول، إلّا إنه يؤسس لحراك أوسع لا يريده المطبعون والساعون للتطبيع.
- تعزيز الهوية الوطنية الجامعة للشعب الفلسطيني ووحدته النضالية الميدانية في مختلف أماكن وجوده، الأمر الذي يؤكد فشل 73 عاماً من مساعي أسرلة فلسطينيي داخل الداخل، وأن القدس كانت وستبقى عربية فلسطينية.
- تثبيت عدالة النضال الفلسطيني وتفوّقه الأخلاقي في مواجهة ادعاءات حكومة المستعمرين بأن جيشها هو الجيش الأكثر أخلاقية في المنطقة، فهذه أكذوبة متكررة تدحضها الحقائق التاريخية، وحقيقة أن قصف طائرات "الجيش الأخلاقي" للقطاع أدى إلى شطب أسر فلسطينية كاملة من السجل المدني، وإلى استشهاد 67 طفلاً و39 امرأة، وعدد آخر من المسنين وذوي الحاجات الخاصة، بما يؤكد مجدداً أن جيش المستعمرين هو جيش فاشي ارتكب مجزرة جديدة وجريمة حرب مكتملة الأركان.
تلك البطولات والتضحيات والوحدة النضالية الميدانية، تتطلب البناء عليها بمسؤولية عالية من خلال طرح أسئلة صحيحة، بهدف الوصول إلى إجابات صحيحة تقرّبنا كشعب، من تحقيق أهدافنا بالخلاص من الاستعمار، والظفر بالحرية والاستقلال والعودة.
استخلاص الدروس وإعادة بناء المشروع الوطني
لعل نقطة البدء، بعد توقف المعركة العسكرية واستمرار الحراك الشبابي في الشارع، تكمن في إجراء حوار استراتيجي شامل في إطار "مؤتمر وطني" يراجع بعمق مسيرة العقود الثلاثة الماضية بهدف استخلاص الدروس وإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني كمشروع تحرري يواجه واقعاً استعمارياً.
والمقصود هنا حوار معمق تشارك فيه جميع الفصائل الوطنية والإسلامية وفاعليات المجتمع المدني والحركات الشبابية وممثلو مختلف التجمعات الفلسطينية، كذلك مثقفون وكفاءات أكاديمية؛ حوار لا يقتصر فقط على عقد جلسة أو اثنتين يُلقي خلالهما ممثلو الفصائل كلمات مقتضبة، ويصاغ في إثرهما بيان يحمل في سطوره رؤية وقرارات انفرادية، بل حوار تكون نتيجته أيضاً إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني.
لقد أكدت الوحدة الميدانية على الأرض خلال معركة وانتفاضة أيار / مايو الشاملة، أن الشعب الفلسطيني توّاق إلى أن يرى انعكاساً لوحدته الميدانية والنضالية على المستوى السياسي، وذلك بإنهاء الانقسام والوصول إلى وحدة وطنية حقيقية تتجسد في شراكة سياسية ونضالية في مختلف المجالات، بعيداً عن التفرد بأي قرار، وبعيداً عن سياسات الهيمنة بمختلف أشكالها.
من البديهي أن معركة التحرر الوطني تحتاج إلى جبهة وطنية عريضة وبرنامج توافقي يلتزم به الجميع، وفي واقعنا، فإن إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس وطنية ديمقراطية وكفاحية بمشاركة الجميع، تكتسب أهمية خاصة باعتبار المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، وتشكل تجسيداً لهويته الوطنية.
في هذا الإطار، يمكن لوثيقة الأسرى للوفاق الوطني وقرارات المجلس المركزي في اجتماعه الأخير أن تشكل أساساً لانطلاق الحوار الوطني الاستراتيجي الشامل الذي يُفترض أن يجيب عن الأسئلة الكبرى الصحيحة والخاصة بالبرنامج الائتلافي المتوافق عليه، وبوسائل المقاومة والإطار التمثيلي الجامع، والشراكة السياسية والنضالية، وتحديد ما إذا كانت وظيفة السلطة الوطنية سياسية أو أمنية، أو أن وظيفتها هي تعزيز الصمود الشعبي، باعتبارها أداة لمنظمة التحرير صاحبة الدور السياسي المهم والأساسي. كذلك هل يمكن أن يقترب شعبنا من انتزاع الحد الأدنى من حقوقه عبر إعادة إنتاج مسار أوسلو والمفاوضات المباشرة برعاية واشنطن ومع حكومة صهيونية بدأت تتشكل ولن تقلّ يمينية عن حكومة نتنياهو؟
لقد اختبر شعبنا خيار إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية للسلطة، وتلك الخاصة بالمجلس الوطني، كمدخل لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وذلك قبل إجراء حوار وطني شامل، وكانت النتيجة تأجيل إجرائها بقرار متفرد وبناء على حسابات خاصة، مع أن معظم القوائم المرشحة، علاوة على أغلبية شعبية، كانا مع إجرائها في موعدها، وعدم انتظار موافقة السلطة الاستعمارية على عقدها في القدس، وهذا هو المطلوب الآن.
كما أن اشتراط الموافقة على شروط الرباعية الدولية لتشكيل حكومة وحدة وطنية ستُبقي شعبنا وقضيتنا في مربع الانقسام، وفي وهم الرهان على حل الدولتين عبر العمل الدبلوماسي والمفاوضات المباشرة، اللذين لم يُفضيا إلى أي نتيجة طوال العقود الثلاثة الماضية، وإنما استُخدما كغطاء لمزيد من تهويد الأرض الفلسطينية وابتلاعها.
إن إعطاء الأولوية لمسار الحوار الفلسطيني – الفلسطيني الاستراتيجي المعمق لإنهاء الانقسام الكارثي، من شأنه أن يعيد الزخم إلى المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، وأن يقوّي الموقف الفلسطيني بشأن الحصار المفروض على قطاع غزة، ويسرّع في إنجاز إعادة الإعمار للتخفيف من معاناة المواطنين الغزّيين الذين جسّدوا ويجسدون نموذجاً قلّ نظيره للصمود وتحدي الموت والانتصار عليه، كذلك تعزيز الموقف الرافض لهدنة طويلة الأمد، وإنجاز صفقة تبادل أسرى مشرفة. فمن دون الوحدة السياسية النضالية الراسخة سنبقى بعيدين عن تحقيق أهدافنا الوطنية مكتفين بالاحتفاء بالبطولة والتضحية والصمود تارة، وبخطوطنا الحمراء وامتلاكنا ورقة التوقيع تارة أُخرى.
أخيراً، كانت المقاومة الفييتنامية تستلهم شعاراً شكل قاعدة لاندحار الاحتلال الأميركي، على الرغم من جبروته، في سنة 1975، وهو: " تجرّأْ على النضال... تجرّأْ على النصر"،[2] فهل تتجرأ القيادة الفلسطينية على العودة إلى المسار النضالي الصحيح ولفظ تجربة أوسلو التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه؟
المصادر:
[1] Thomas L. Friedman, “How Joe Biden Can Win a Noble Peace Prize”, The New York Times, May 23, 2021,
[2] جلبير الأشقر، "الشرق الملتهب: الشرق الأوسط في المنظور الماركسي" (بيروت: دار الساقي، ط 1، 2004)، ص 250.