في أواخر نيسان / أبريل 2021، كان المشهد الفلسطيني مقلقاً حقاً. فإزاء مشروع الرئيس دونالد ترامب، الموصوف بصفقة القرن، اقتصر الرد الفلسطيني على الرفض الكلامي، ولم توقف هجمة الرئيس الأميركي إلّا هزيمته الانتخابية. وعندما قامت دولة الإمارات العربية بخطوتها فائقة الودية تجاه إسرائيل، برز العجز الفلسطيني جلياً، وبدا كأنه يتفاقم مع التحاق البحرين، ثم السودان، ثم المغرب، بقطار التطبيع، وإعراب دول أوروبية فاعلة عن رضاها عن هذه الخطوات، من دون أن تكترث بنتائجها التهميشية على القضية الفلسطينية.
وفي كانون الثاني / يناير 2021، نشأ بعض الأمل بإمكان تجديد وتقوية شرعية الهيئات الفلسطينية الرسمية من خلال الانتخابات، لكن الأمل ما لبث أن تبدد بسبب انكشاف أزمة حركة "فتح" البنيوية، وتفتّتها إلى ثلاث قوائم انتخابية، وإعلان تأجيل الانتخابات. ثم فجأة، وبعد هذا الانحدار الذي لم يكن من المستطاع أن نرى في الأفق سواه، حدث الانعطاف الحاد في المسار.
كان يمكن لكل من الأحداث التي وقعت في أيار / مايو 2021، أن يكون، بمفرده، محدوداً في نطاقه وتأثيره، وألّا يخرج على ما عهدناه من أنماط سابقة، لكن اللافت أن كل فعل في موقع معيّن كان يغذي فعلاً آخر في موقع آخر، والذي كان يعود فيغذي الفعل الأول، ضمن عملية تفاعلية اتسعت وتصاعدت، ثم انتشرت في أنحاء فلسطين كافة: في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وفي قطاع غزة، وفي المدن والبلدات والأحياء الفلسطينية في إسرائيل، وامتدت إلى الشتات الفلسطيني ولدى داعمي القضية الفلسطينية في العالم. وسنعالج في هذه المقالة ما تدل عليه هذه الأحداث من ملامح وتحولات، وما تحمل من دروس واستنتاجات.
حرب أيار / مايو
عصر 10 أيار / مايو 2021، وفي خطوة تاريخية تشير الدلائل كلها إلى أنها كانت مدروسة بعناية، اختارت "غرفة العمليات المشتركة" في قطاع غزة أن توجه إنذاراً للاحتلال الإسرائيلي تفيد فيه بأن عليه التراجع عن الإجراءات التي اتخذها في المسجد الأقصى وفي حي الشيخ جرّاح. ثم بعد أقل من 90 دقيقة وضعت غرفة العمليات هذا الإنذار موضع التنفيذ. وبالنسبة إلى صاحب القرار الإسرائيلي، شكّل قصف محيط القدس ببعض القذائف إفشالاً مدوياً لسياستها الثابتة الهادفة إلى فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، فلم ترَ بديلاً من شنّ حرب عقابية على القطاع.
فمنذ توقيعها اتفاق أوسلو، كانت إسرائيل تتخذ الخطوات والتدابير الملائمة التي تسمح بحصار قطاع غزة وفصل مصيره عن القدس والضفة الغربية، بحسب ظروف كل مرحلة: مرحلة المواجهة المحدودة أو الدقيقة المتمثلة، من جهة، في العمليات التفجيرية المنطلقة من غزة، ومن جهة ثانية، في عمليات إسرائيلية مثل اغتيال فتحي الشقاقي ويحيى عياش (1995 - 2000)؛ الانتفاضة الثانية (2000 - 2004)؛ إعادة الانتشار الإسرائيلي خارج القطاع (2005)؛ فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية (2006)؛ الانقسام الفلسطيني إلى سلطتين وتبلور توافق في المصالح بين السلطة في رام الله وإسرائيل على الحؤول دون نشاط حمساوي في الضفة الغربية. وفي موازاة الحصار الذي جرى تشديده بعد سنة 2006، كانت عمليات إسرائيل العسكرية، والحروب (2008 - 2009؛ 2012؛ 2014) التي كانت تشنّها وفق نظرية "الضاحية"،[*] وسلسلة الشروط الصارمة التي كانت تضعها لرفع الحصار والسماح بإعادة بناء ما تكون قد هدمته، تجسيداً ثابتاً لسياستها الهادفة إلى أن تنحصر هموم أهل غزة وقياداته في حاضر القطاع ومستقبله من دون غيره من بقاع فلسطين.
ما حدث في أيار / مايو على الجبهة الغزاوية يدل على أن إسرائيل فشلت مرتين في فصل القطاع عن سائر فلسطين: مرة أولى بمجرد تنفيذ الإنذار من طرف غرفة العمليات في غزة في 10 أيار / مايو، ومرة ثانية في اضطرار الجيش الإسرائيلي إلى وقف إطلاق النار من دون تحقيق إنجاز جوهري، وفي ظل خشيته من تكاليف محاولة احتلال القطاع. إن قصف الأبراج والمرافق وتدميرها والتسبب بقتل المدنيين وترهيبهم لا تشكل إنجازاً عسكرياً، ومع ذلك، من الضروري التأكيد أن التضحيات الجسيمة التي قدمها أهل غزة في حرب أيار / مايو وفي الحروب التي سبقتها تشكل عاملاً ضاغطاً لا تستطيع القيادات العسكرية والسياسية في غزة تجاهله في المستقبل، إذا أرادت الرد على إجراءات إسرائيلية في الضفة الغربية عامة، أو في المسجد الأقصى خاصة.
الساحة الغزاوية والساحة اللبنانية
بالنسبة إلى إسرائيل، فإن الساحة الغزاوية منذ سنة 2005 حتى اليوم، تماثل، إلى حد ما، الساحة اللبنانية في نهاية السبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي. ففي الساحتين، نحن أمام قيادة سياسية فلسطينية تحظى (كلياً في بيروت في حينه، وجزئياً في غزة اليوم) بشرعية في الضفة الغربية وتأثير فيها. وفي الساحتين، نجد جبهة عسكرية ملاصقة للإقليم الإسرائيلي (الجنوب اللبناني، وحدود قطاع غزة)، مع كل ما يتضمنه مفهوم الجبهة العسكرية: سيطرة مسلحة على أرض الجبهة؛ مواجهات؛ قصف متبادل؛ اقتحامات؛ تحذيرات وإنذارات؛ اتفاقات وقف إطلاق نار وخروقها؛ تدخّل أطراف خارجية للتهدئة أو التصعيد... ونلاحظ أن في الحالتين كلتيهما تنظر إسرائيل إلى الجبهة العسكرية التي تواجهها ضمن منظارين: كتحدٍ عسكري يجب معالجته بحد ذاته، وكوسيلة لتشديد السيطرة على الضفة الغربية وإضعاف النفوذ الآتي من خلف الجبهة المعادية، أي من بيروت أو غزة. والمفارقة أن واضع سياسة الفصل هذه كان أريئيل شارون في الحالتين. ففي الحالة الأولى، أدار بصفته وزيراً للدفاع اجتياح لبنان وصولاً إلى بيروت في صيف سنة 1982، وفي الحالة الثانية، قرر كرئيس للحكومة إعادة الانتشار خارج القطاع في صيف سنة 2005.
لكن نتائج سياسة شارون ليست متماثلة تماماً في الساحتين. ففي الحالة اللبنانية لم تكن المقاومة الفلسطينية إلّا ضيفاً موقتاً (مرغوباً فيه من جزء من المواطنين اللبنانيين بسبب التعاضد القومي واحتمالاته التغييرية الثورية، ومنبوذاً من جزء آخر للسبب ذاته) تطوّرَ خلال الحرب الأهلية إلى دولة داخل الدولة مع كل ما رافق ذلك من سيطرة وتسلط. وقد نجح الاجتياح العسكري الإسرائيلي والضغط السياسي الدولي في نقل قيادة منظمة التحرير السياسية إلى خارج لبنان، وفي إثر ذلك لم يكن من الممكن للمقاومة المسلحة الفلسطينية أن تعيد العقارب إلى الوراء وأن تسعى لاستعادة دورها العسكري في الجنوب اللبناني إلّا في حدود حضورها في المخيمات. غير أن نجاح خطة شارون يقف عند هذا الحد، إذ فشلت الخطة فشلاً ذريعاً في فك الارتباط بين المنظمة والمناطق المحتلة، لا بل تسببت بإثارة جبهة عسكرية لبنانية جديدة شكّل حزب الله عمودها الفقري.
في المقابل، ماذا كان أثر قرار شارون بتفكيك المستعمرات وبإخراج الجيش الإسرائيلي من القطاع في صيف سنة 2005؟
شجّع القرار، من جهة، على تكثيف النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية في الأعوام اللاحقة، ومن جهة ثانية، قرر شارون، فور إعادة الانتشار، وفي الوقت الذي كانت السلطة الفلسطينية لا تزال موحدة، تشديد الحصار البري والبحري والجوي على الرقعة الغزاوية التي تُعدّ من أكثر الرقع كثافة سكانية في العالم. وقد أطلق الحصار الإسرائيلي منذ سنة 2005 حتى اليوم مساراً ذا ثلاثة أبعاد: (1) تجريد أهل القطاع من أي خيار سوى خيار الصمود؛ (2) بناء متدرج ومبتكر لقوات عسكرية فلسطينية أصبحت مع الوقت جيشاً يتلاءم بناؤه مع طبيعة الأرض ومع متطلبات مواجهة قدرات العدو قدر الإمكان (قوة دفاع متحركة ضد أي غزو؛ سلاح صاروخي؛ قلعة تحت – أرضية؛ إلخ)؛ (3) سيطرة القيادة على المواطنين من خلال الأدوات المتاحة، القمعية منها والأيديولوجية.
قد يتساءل البعض عن فائدة هذه المقارنة بين الساحتَين اللبنانية والغزاوية. فالمقارنة تسهِّل إدراكنا أنه، تجاه عدو يتصف بغطرسة القوة ويتّبع استراتيجيا كولونيالية، فإن من غير المستغرب أن تتشكل جبهة عسكرية في كل من الجنوب اللبناني (من خلال المقاومة الفلسطينية أولاً، ثم المقاومة اللبنانية) وقطاع غزة بغضّ النظر عن طبيعة القيادة وتوجهها الأيديولوجي. فهذا التشكل نتج إلى حد بعيد من الإمكانات التي أتاحتها الطبيعة الجيوسياسية لكل من الساحتَين والتركيب الديموغرافي فيهما. إن بناء جبهة عسكرية في الساحتين كوسيلة من وسائل النضال التحرري كان نتيجة التفاعل بين حركة سياسية تطمح إلى قيادة النضال، وبين الخصائص الموضوعية للموقع الذي تعمل فيه. بطبيعة الحال، وفيما يتعلق بقطاع غزة، فإن هذا لا يمنعنا من التسليم بأن ما سهّل على حركة "حماس" تبنّي هذا التوجه والنجاح فيه شعبياً، هو كونها كانت حركة ذات اندفاع أيديولوجي طاغٍ، ولم تكن ملزمة بشروط اتفاق أوسلو الأمنية.
الجبهة العسكرية الغزاوية
من هنا، يجدر بنا من الآن فصاعداً أن نعتمد الجبهة العسكرية الغزاوية كوحدة تحليل لفهم ما يجري في غزة، بدلاً من الاكتفاء باعتبار حركة "حماس" وحدة التحليل، مثلما يحلو للدول الغربية ولإسرائيل، وحتى ربما للحمساويين أنفسهم عندما لا ينظرون إلى غزة إلّا من زاوية الحركة، إن من حيث اعتبارها الشرير الأكبر، أو من حيث تمجيدها. إن اعتماد الجبهة العسكرية الغزاوية كوحدة تحليل استراتيجي يسمح بتقصّي المكانة التي تحتلها في الحيز الفلسطيني ومدى مساهمتها في تحقيق الأهداف الفلسطينية الكلية. هكذا كان الأمر في عهد الجبهة الفلسطينية في الجنوب اللبناني: فهذه الجبهة كانت جزءاً مركزياً من الاستراتيجيا الفلسطينية التي كانت تحولت قبيل حرب 1982 وجرّاء الحرب الأهلية في لبنان، إلى استراتيجيا بناء "دولة" على الأرض اللبنانية بمختلف مكوناتها (جبهة في مقابل العدو؛ قوات مسلحة؛ قيادة سياسية؛ جهاز بيروقراطي؛ خدمات؛ شعب المخيمات) من أجل "نقلها" إلى الضفة الغربية وقطاع غزة بعد مفاوضات مع إسرائيل من موقع قوة. لقد أفشل الاجتياح الإسرائيلي هذه الاستراتيجيا، ثم سارت الأمور فيما بعد كما لو أن الانتفاضة حلّت محل الجبهة العسكرية المفقودة وأعطت المبرر لدخول مفاوضات أوسلو، لكن من موقع ضعف هذه المرة.
الجبهة الغزاوية، بنتائجها العسكرية المدهشة في حرب أيار / مايو، وأيضاً بإفرازاتها السياسية في الضفة الغربية ولدى الفلسطينيين في إسرائيل، أصبحت أكثر من أي وقت مضى جزءاً مركزياً من المعادلة الفلسطينية – الإسرائيلية الكلية، بعد أن تعامل معها القادة الإسرائيليون كما لو أنها لا تحتل إلّا مكاناً هامشياً في اهتماماتهم، وبأمل أن تقع تحت المسؤولية المصرية. من هنا، وبخلاف الوضع قبل حرب أيار / مايو، فإن من المرجح أن تكون الجبهة الغزاوية محل تركيز التفكير الإسرائيلي الاستراتيجي بقدر لا يقل عن التركيز الإسرائيلي على التحدي الذي يمثله حزب الله. وربما تكون الأشهر المقبلة فائقة الحساسية في هذا الصدد، وقد تندلع العمليات الحربية مرة أُخرى جرّاء خطوة ثأرية إسرائيلية تعويضاً عن فشلها خلال الحرب، أو ردة فعل من جانب أصحاب القرار في غزة على استفزاز إسرائيلي، أو تدحرج لا يقصده الجانبان. ومع أن مسعى تصفية الجبهة الغزاوية سيكون مكلفاً جداً لإسرائيل ولن يحل مأزقها التاريخي في تعاملها مع الشعب الفلسطيني، إلّا إنه يجب عدم استبعاد احتمال أن يكون هذا المسعى وارداً في حسابات أصحاب القرار الإسرائيليين واستعداداتهم.
على كل حال، يشير مجمل الاعتبارات العسكرية والسياسية (والدبلوماسية أيضاً) إلى أن الجبهة الغزاوية باتت، بعد حرب 2014 وحرب أيار / مايو، تردع إسرائيل عن إعادة احتلالها. والسؤال هو: هل أتت حرب أيار / مايو بالذات بما هو أبعد من ذلك، أي هل امتدت قوة الردع الغزاوية إلى الضفة الغربية بحيث تقيّد حرية عمل إسرائيل فيها؟ يبدو لي أن من المبكر تأكيد هذا الأمر، مع ترجيحي أن الجبهة الغزاوية تقدمت خطوة ملموسة في هذا الاتجاه، وأنها سترغم إسرائيل منذ الآن على التفكير ملياً قبل أي إجراء جوهري في الضفة، وخصوصاً في المسجد الأقصى. لكن من الضروري الإضافة أن أي دور ردعي محتمل للجبهة الغزاوية في الضفة الغربية مشروط بدور شعبي من أهل الضفة أنفسهم. فأهل الضفة، بمَن فيهم أهل القدس الشرقية، فاعلون وليسوا مجرد موضع الفعل. وفي هذا الصدد، عاب عدد من المحللين الفلسطينيين على "حماس" أن إطلاقها الصواريخ على منطقة القدس الكبرى في مساء 10 أيار / مايو، جرّد الهبّة الشعبية بشأن مسجد الأقصى وحي الشيخ جرّاح من اندفاعها الذاتي، ومن تطور الدعم الدولي لها. ربما حدث هذا الأمر في الأيام الأولى للحرب، لكن سرعان ما تجددت التعبئة الفلسطينية في الضفة الغربية (علاوة على سائر فلسطين والشتات والعالم). ومن الضروري التشديد على أن تجدد هذه التعبئة في الضفة الغربية لم ينحصر في الدفاع عن القدس، بل امتد إلى الدفاع عن الأهل في غزة أيضاً، وهو ظاهرة لم تحدث بهذه الكثافة وهذا التصميم في حربَي 2008 - 2009 و2014 على القطاع.
الضفة الغربية
من الملائم الآن انطلاقاً من تكامل الأدوار الذي برز في أيار / مايو بين غزة والضفة، أن نتوقف قليلاً عند الملامح الممكنة لهذا التكامل في المستقبل. وهنا أود التذكير أولاً بأن الضفة الغربية شهدت في المراحل الأولى من الانتفاضة الثانية اعتماداً لأدوات نضال مسلحة أكثر اتساعاً وانتشاراً من تلك التي اعتُمدت في قطاع غزة. غير أن ردة الفعل الإسرائيلية الشاملة تجاه عسكرة الانتفاضة في الضفة الغربية لم يعترِها أي تردد، فحاصرت ياسر عرفات، وربما قتلته، واجتاحت المدن والقرى والمخيمات، واغتالت مَن اغتالت، وجرّدت المواطنين من السلاح، بيتاً بيتاً، وقيدت جذرياً حركتهم من بلدة إلى بلدة لثلاثة أعوام وأكثر.
من غير الضروري هنا تعداد الدوافع الأيديولوجية والاستراتيجية والديموغرافية الاستيطانية التي شجعت إسرائيل، تحت رئاسة أريئيل شارون، على اتّباع تلك السياسة بموافقة الولايات المتحدة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، ويكفي أن نلاحظ نتائجها، وهي نتائج تخطت القضاء على العمل الفلسطيني المسلح، بل تخطت قيود اتفاق أوسلو نفسه. إن الضفة الغربية اليوم (كما قطاع غزة لأسباب أُخرى) لا تعيش حقبة أوسلو مثلما يردد الكثيرون، وإنما تعيش حقبة حكم ذاتي دائم لكن مشروط، قوامه التنسيق الأمني كشرط لبقاء السلطة في الضفة الغربية ولاستمرارها كحكومة مرئية تقدم خدمات انطلاقاً من مكاتب ومواقع (وزارات، وقوى شرطية) لها عناوين معروفة في المدن والبلدات. ولم ينجُ من السيطرة الإسرائيلية إلّا تمتّع هيئات السلطة والتنظيمات المنضوية تحت لوائها بهامش التعبير عن طموحات تتخطى الحكم الذاتي، وكذلك تمتّع منظمة التحرير بالشخصية الدولية وبعملها الدبلوماسي المستقل وبقدرتها على رفض توقيع صكّ الاستسلام.
للتعبير بشكل آخر عن المعادلة الجديدة في العلاقات بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، وعن مدى التحول الذي حدث بعد سنة 2004 / 2005 في الضفة الغربية مقارنة بقطاع غزة بعد إعادة الانتشار، يمكن أن نشير إلى أن السيطرة الأمنية الإسرائيلية في الضفة أصبحت تكتفي بسيطرة عسكرية إجمالية معتمدة بصورة رئيسية على سيطرةٍ طبيعتها بوليسية شُرَطية (وإن تم ذلك بزيّ عسكري)، حتى في المناطق التي توصف "أ"، بينما السيطرة الإسرائيلية على قطاع غزة أضحت سيطرة عسكرية صافية تحاصر القطاع من الخارج. ومن الطبيعي إذ ذاك أن تكون الأدوات النضالية العنفية في الضفة الغربية قد اقتصرت أساساً على عمليات فردية على الحواجز الإسرائيلية، وعلى عمليات من طرف مجموعات سرية، ربما ظرفية، من الصعب معرفة مداها. ومن المرجح أن العفوية كانت السمة البارزة لهذه العمليات، وخصوصاً الفردية منها، مثلما كان الأمر في الأشهر الثلاثة الأخيرة من سنة 2015، والأشهر الأولى من سنة 2016.
لقد عزا البعض محدودية الهبّات الشعبية في الضفة الغربية خلال الفترة 2006 - 2020 إلى سياسة القروض البنكية التي سجنت المواطن في هموم تسديدها، و / أو إلى رقابة أجهزة السلطة، و/أو إلى تحجّر التنظيمات السياسية التي هرمت وشاخت، وكلها أسباب مقنعة. إلّا إنه يجب تأكيد أمرين أساسيين ينطبقان ليس فقط على الضفة الغربية، بل على قطاع غزة والبلدات الفلسطينية في إسرائيل أيضاً: (1) التعبئة الجماهيرية لا تأتي من كبسة زر وقد تنفجر بعد أن تكون خابية تحت الرماد، وربما تفاجىء الجميع بأساليبها الشبابية المبتكرة (مثل الفكرة العجيبة في سنة 2018 بإطلاق البالونات من حدود قطاع غزة نحو الإقليم الإسرائيلي اعتماداً على الرياح المتجهة نحو الشرق!)؛ (2) إن بقاء الفلسطيني فوق أرضه وصموده اليومي (باجتياز الحواجز، والعمل، والإنتاج المادي والثقافي، والتعلم، إلخ) يشكلان العنصر الأساسي والثابت في معركة تاريخية طويلة.
دروس تعبئة أيار / مايو
كون المعركة طويلة يجعلني أحذر من التسرع في اعتبار أن التعبئة الشاملة والرائعة في أيار / مايو قلبت الأمور رأساً على عقب، وأننا أصبحنا قاب قوسين من تعديل ميزان القوى. نعم لم يعد أحد يوهم نفسه بإمكان وقوع معركة فاصلة ينتصر فيها العرب وتنهزم إسرائيل، مثلما كان الأمل في خمسينيات القرن الماضي، ومع ذلك، فإن ما أنجز في أيار / مايو ليس بقليل: فهو صحح البوصلة، وأعاد الثقة بالنفس، وكشف الطاقات الكامنة، وأرسى قاعدة عمل جديدة للتعويض عن عدم التكافؤ في القدرات العسكرية. وقوام هذه القاعدة الجديدة هو، من جهة، رفع مقدار التكلفة (العسكرية والبشرية والمعنوية والسياسية والدبلوماسية) التي قد تتحملها إسرائيل في المواجهة الحربية جرّاء تطوير الجبهة العسكرية الغزاوية، مع السعي الغزاوي الدقيق لضبط المواجهة والحؤول دون انفلاتها إلى أقصى الحدود؛ ومن جهة ثانية، وبشكل متزامن، القدرة على إطلاق تعبئة شبابية على أوسع نطاق في كل أنحاء فلسطين وفي الشتات الفلسطيني.
ثمة درس آخر لأحداث أيار / مايو يتعلق بالبرنامج السياسي الفلسطيني. لقد أدت مشاركة الكل الفلسطيني في هبّة أيار / مايو، بمَن فيهم الفلسطينيون في إسرائيل، إلى تقوية حجج المنادين إلى العودة إلى فكرة الدولة الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني، والتي تبنّتها حركة "فتح" في سنة 1969، والتخلي عن برنامج الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة منذ سنة 1967. من الملائم جداً الترحيب بالنقاش العام المتجدد بين مؤيدي هذا البرنامج وذاك، وطرحهم الحجج الداعمة لكل منهما والردود عليها. ومن المؤمل في جميع الأحوال، أي بغضّ النظر عن الموقف بشأن البرنامج السياسي، أن تؤدي تجربة أيار / مايو إلى الوعي بضرورة توثيق الروابط، والتشبيك اليومي بين مختلف قطاعات الشعب الفلسطيني، وإنشاء الأطر المشتركة (جمعيات؛ اتحادات مهنية؛ نوادٍ؛ مشاريع اقتصادية وإنتاجية؛ إلخ) العابرة للحدود والمعابر والحواجز.
غير أن الأمور تبدو أكثر تعقيداً إذا ما طُرح برنامج الدولة الديمقراطية على جدول أعمال القيادات الفلسطينية الرسمية أو شبه الرسمية في إسرائيل أو لدى منظمة التحرير أو حتى لدى "حماس"؛ فمن غير المتوقع أن تعتمده لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل، كما أن من غير المحبذ أن تقوم منظمة التحرير بالتخلي عن برنامج الدولة المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ قد تؤدي هذه الخطوة إلى إعطاء المبرر لخفض أو سحب الاعتراف الدولي بها (بسفاراتها وممثلياتها، وبمكانتها كدولة ذات صفة مراقب في الأمم المتحدة)، وإلى شرعنة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية (إذا لم تعد الضفة محتلة في نظر المنظمة، فإن وضعها يصبح كوضع أي جزء آخر من فلسطين الانتدابية من حيث شرعية الوجود اليهودي).
البوصلة: العمل على تحسين ميزان القوى
إن التمسك بالضفة الغربية وقطاع غزة كمناطق محتلة من وجهة نظر قانونية، والدعوة إلى إقامة الدولة المستقلة فوق ترابها، لا يعنيان بطبيعة الحال أن الدولة قد ترى النور في المستقبل المنظور، بل من الضروري بنوع خاص عدم إيلاء أي اهتمام بعودة الحديث الدولي عن استئناف المفاوضات كسبيل لتجنّب جولات قتالية أُخرى على قطاع غزة. ومن حسنات أحداث أيار / مايو أنها شكلت درساً حيّاً بأن مقياس الحكم على حالة القضية الفلسطينية لا يكمن في نجاح أو فشل المفاوضات، ولا في الشعور بقرب أو ابتعاد احتمال إقامة الدولة، فخلال جولات التفاوض السابقة، كانت الخشية من نجاح المفاوضات لا تقلّ عن الخشية من فشلها، إذ كان النجاح يعني بالضرورة اضطرار المفاوض الفلسطيني إلى تقديم التنازلات المطلوبة إسرائيلياً وأميركياً. إن البوصلة التي يجب أن تقودنا هي كيفية تطوير ميزان القوى الفلسطيني – الإسرائيلي. والسؤال الذي كان يتوجب طرحه في كل مرحلة من مراحل القضية الفلسطينية، وعلى الأقل منذ اتفاق أوسلو، هو: هل يتطور ميزان القوى لمصلحة الجانب الفلسطيني، وما الذي يجب فعله كي يتم ذلك؟
كلنا نعلم أن مفهوم ميزان القوى معقد ولا يقتصر على البعد العسكري فيه، فحتى في المجال العسكري، ومثلما رأينا أعلاه، يستطيع الطرف الأضعف فرض تكلفة عالية على الطرف الأقوى. علاوة على ذلك، قد يعتقد القادة الإسرائيليون، لأسباب تخصهم وفي ظروف معينة، أن عليهم احتساب قوى إقليمية (حالة حزب الله) جزءاً من المعادلة العسكرية إزاء جبهة غزة. أمّا العناصر غير العسكرية في ميزان القوى، فربما تشمل في الحالة الفلسطينية – الإسرائيلية الراهنة: التعبئة الشعبية والصمود على الأرض (كما رأينا أعلاه أيضاً)؛ التعادل الديموغرافي في فلسطين الانتدابية (من هنا محاولة إسرائيل إخراج قطاع غزة من المعادلة ورميها في أحضان مصر)؛ مدى "عقلانية" صنع القرار السياسي والاستراتيجي لدى إسرائيل في ظل استمرار أزمتها السياسية الداخلية والمزايدات بين أحزابها العديدة؛ الآثار السلبية للانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني؛ مشروعية مطالب ومواقف كل طرف في نظر الرأي العام العالمي، وفي هذا الصدد، مدى التقدم في النظر إلى القضية الفلسطينية كقضية إنسانية كونية عادلة؛ تطور موقف الدول ذات النفوذ، وفي هذا المجال، دلالة السياسة المصرية الجديدة تجاه قطاع غزة (هل من شأن إشراف مصر على إعادة الإعمار أن يؤدي إلى تقريب القطاع من الضفة الغربية أو إلى إبعاده عنها؟)، ومدى تأثير التحول الإيجابي لدى الرأي العام الأميركي في صنع القرار في واشنطن.
إن مكونات ميزان القوى المذكورة تحتاج إلى متابعة دقيقة في المستقبل، والوعي بأن تسجيل المكاسب لا يعني بالضرورة الانتصار العسكري في أرض المعركة. ففي حرب ضد الاستعمار مثل الحالة الجزائرية، لم تنهزم فرنسا عسكرياً، وإنما هُزمت سياسياً بفضل مجموعة مركبة من العوامل، منها ما هو عسكري، ومنها ما هو غير عسكري. ومن الواضح أن الشعب الفلسطيني يتمتع بعناصر قوة في الميزان مع إسرائيل، وهي عناصر من الممكن تطويرها بكل ثقة، لكنه يعاني أيضاً عناصر ضعف ليس في إمكانه تغييرها كلها إذا كانت خارجة عن دائرة تأثيره. يبقى أن من أكثر العناصر سوءاً في ميزان القوى، والذي تتحمل القيادات الفلسطينية مسؤولية كبرى بشأنه، هو الانقسام الفلسطيني. فإنهاء الانقسام يتطلب سعة الصدر، وعدم التخوين المتسرع، وعدم الاعتماد على وسيط، والقبول بثقل كل شريك في الشراكة المرجوة، بما يتضمن الدور السياسي المستجد لحركة "حماس"، والمكانة السياسية والدبلوماسية للسلطة الفلسطينية. غير أن إنهاء الانقسام يتطلب أكثر من ذلك.
ينبغي لكل طرف في المعادلة الفلسطينية الداخلية التسليم، ليس بالضرورة صراحة، بأرصدة وقيود الطرف الآخر، بحسب موقع كل طرف الجغرافي والسياسي والدبلوماسي. فحركة "حماس" مثلاً لا تستطيع أن تقنع السلطة في الضفة الغربية باعتماد الكفاح المسلح نهجاً للنضال. فعلى سبيل المثال، في 7 آب / أغسطس 2009، وخلال المؤتمر العام السادس لحركة "فتح"، تبنّى المؤتمرون برنامجاً سياسياً أكد أحد بنوده حقّ الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بجميع "الوسائل المشروعة بما فيها حقه في ممارسة الكفاح المسلح الذي يكفله القانون الدولي"، لكنهم اضطروا في اليوم التالي، ولأسباب معروفة، إلى إصدار توضيح اكتفوا فيه بإعلان حقّ "الشعوب الخاضعة للاحتلال" في المقاومة "بكافة أشكالها". وفي المقابل، ليس في قدرة السلطة الفلسطينية المطالبة بإلغاء الجبهة العسكرية الغزاوية كشرط للمصالحة. بكلام آخر، يجب ألّا تؤدي قيود طرف إلى إلغاء أرصدة الطرف الآخر، بل بالعكس، من الضروري ومن الممكن تجنّب المعادلة الصفرية التي تعني أن ما تكسبه حماس تخسره "فتح" وبالعكس.
ليس لدينا أكثر من هذه المنطلقات العامة لمعالجة بنود الشراكة المرجوة، ولا ندّعي الإلمام بالوصفات التفصيلية والإجراءات التي تسمح بإنجازها، أكان ذلك على صعيد كيفية إعادة تشكيل هيئات منظمة التحرير أو أجهزة السلطة، أو على صعيد التوافق على المبادىء التي يجب أن تحكم عمل كل منها. لكن، من دون إنجاز الشراكة بين القيادات الفلسطينية الفاعلة، فإن أيار / مايو قد لا يشكل علامة فاصلة بين تضعضع القضية الفلسطينية ونهوضها ثانية.
[*] إشارة إلى تدمير ضاحية بيروت الجنوبية في حرب إسرائيل على لبنان في تموز / يوليو 2006.