فلسطينيّتي رغم انعدام اللقاء
التاريخ: 
18/06/2021
المؤلف: 

لم أكن أعلم بأن نقاشات والدي السياسية معي في سن ما قبل الثمانية هي أمر غير طبيعي إلّا حين وصلت إلى مراحلي الجامعية، كنت أرى أن هذه النقاشات أمر طبيعي يُفرَض على أي شخص من أصول فلسطينية أينما كان مسقط رأسه. نعم، كانت أولى أهدافي بعد أن استطعت فكّ شيفرة الحروف والكلمات أن أجاري شريط الأخبار في أسفل الشاشات، وأن أصل إلى نقطة البداية من دون التوقف لأخذ أي نفَس في ذلك المشوار الطويل، في نظري آنذاك.

والدي المحنّك سياسياً، الوسطي والمعتدل إلى أبعد الحدود، واجه معارضة سياسية في بعض النقاط التي كانت تُطرَح في غرفة القَعدة في منزلنا في أثناء مناقشتنا الأخبار المتناقلة عبر نشرات الأخبار المسائية، وحاول كثيراً فرض وجهة نظره؛ وفي كل مرة كنت أصل إلى حدود نصر محدود أمامه كان يستعمل حق الڤيتو الخاص به "أنا أبوك وَلَك... كيف بتحكي معي هيك!!" وكانت جولات الحوار هذه تنتهي بضحكات عالية، وهنا أيقنت أن مقولة "الاختلاف لا يفسد للود قضية" في مجتمعاتنا الشرق الأوسطية من الممكن تطبيقها في إطار غرفة القَعدة خاصتنا فقط.

كانت فلسطين، التي أتغذى بها فكرياً منذ بدايات الوعي في مخيلتي، مربوطة بـ "الجنة" و"يوم القيامة". وكانت جدتي "حسنة" المقيمة بقريتنا "رامين" عبارة عن الجسر الذي يربطني بهذه البلاد؛ ففي كل لقاء أو اتصال بيني وبينها كانت تسألني "إمتى بدك تيجي عالبلاد يا ستي؟" كان سؤالها في كل مرة يُشعرني بأن عدم قدومي إلى البلاد هو قرار شخصي وليس لأن العودة غير ممكنة بسبب العوامل المليون المفروضة علينا كفلسطينيين في الخارج، وكان لهذا السؤال صدى في روحي بأن العمل من أجل العودة لا يمكن أن يتوقف يوماً لأن العودة ببساطة قرار وحق لا يجب أن نستغني عنه أبداً. كانت فلسطين بالنسبة إليّ مثلثاً متمثلاً في يوم القيامة والجنة وستّي حسنة رحمها الله. ولكم أن تتخيلوا كيف كان تأثير وفاتها في مخيلتنا وبصورة خاصة قبل لقائنا في الوطن الذي أحبّت وحلمت بأن تسكنه مع كل أولادها وأحفادها.

الـ "جوجل مابس" كانت وما زالت من أسعد الأمور على قلوبنا، إذ كان والدي يمشّينا افتراضياً في شوارع قريتنا وأزقتها، كان يحاول أن يربطنا بالقرية وينقل ذاكرته إلينا بأي طريقة؛ فالجامع، وطريق المدرسة، ومنزل أبو فلان وأم فلان، والبلد القديمة، وغيرها الكثير من معالم أساسية كانت محطات توقّف في رحلتنا الافتراضية إلى القرية التي أصبحنا نراها كما يراها والدي، "عالم كبير في هذا العالم الصغير".

الارتباط بفلسطين التي لم نرَها يوماً يُبنى ويتطور بعدة أساليب وطرق، ومنها عبر الأطعمة المرتبطة بالوطن، فالذاكرة مرتبطة بالأطعمة بطريقة ما. ففي سنة من السنوات كان لنا نصيب في أن يكتشف أحد أعمامي المقيمين بالداخل طريقة لإيصال تنكة زيت زيتون من إنتاج أراضٍ تملكها العائلة، فكانت هذه الحادثة عبارة عن عودة مصغرة إلى الوطن، وإلى القرية، وإلى ستّي حسنة؛ فغدا الزيت دمعاً في عيني والدي الذي قهره الحنين. وأيضاً لوالدتي نصيب كبير في بناء ذاكرة الأطعمة، فكانت "الصفيحة اليافوية" أكلة تعتبرها فخراً، لأنها تنتسب إلى يافا التي تعود إلى مسقط رأس والدها؛ سيدي "أبو سامح" الذي بدوره لا ينسى أزقة يافا وشوارعها ومنازلها وذكرياته فيها، والتي يفتخر بها ولا يزال إلى يومنا هذا يذكرها في كل حوار ينخرط فيه.
 طبعاً الأطعمة أياً كانت، وأياً كان صانعها، ستجد لها متذوقاً مُعلّقاً "ممتازة جد زيْ كأنك بفلسطين"، لكن من المستحيل أن تجد أحداً يحذف كلمة "زيْ" من هذه المقولة لأن لا شيء يشبه فلسطين بطعمها ورائحتها وهوائها وملمس ترابها، وهذا طبعاً لم نرَه ونعايشه، لكننا سمعناه من كل مَن غادرها مجبراً ولم يقدر يوماً على العودة إليها مجدداً.

وللوطن حضور في فصول الحب والعشق أيضاً؛ ففي حالات العشق الأكثر تقدماً كانت المعشوقة تُشبَّه بالوطن ومدنه وسواحله المسلوبة. وفي حالات الوقوع القصوى في شِباك الحب كان لي أن أشبّه ارتباطي بعينيها كارتباطي بشواطئ يافا وعكا. لم أَدرِ يوماً أن معيار مقياس الحب للفلسطيني مرتبط بالوطن أيضاً، يعني "بَحِبك قَد ما بَحب فلسطين"، وهنا عليَّ أن أضمن استعمال هذه المقولة مع شريكة حياتي، وليس في علاقة عابرة، لأنها ببساطة خيانة للوطن وقيمته!

فلسطين، لم أرَها يوماً، لكن فلسطينيّتي تنمو معي منذ نعومة أظفاري، في كل يوم وفي كل عام، وبعد كل حدث سياسي، فلسطينيّتي تتوغل في روحي أكثر وتحتل كل فراغ  يسكن المكان الذي أكون فيه. ارتباطي بالفلسطيني الإنسان وفلسطين المكان هو جزء من الفطرة التي تسكننا كفلسطينيين محرومين من نعمة الأرض، وبالتالي من نعمة الاستقرار النفسي، بغض النظر عن الحالة المادية والمكانة المجتمعية للفرد. النقص سيبقى يرافقك لأنك وبكل بساطة لا تكتمل من دون تلك البيئة التي تشبهك بخضرتها وسمارها وزُرقتها، والتي تنتمي إليك كما تنتمي أنت إليها.

نعم، إنني أرى فلسطين في حديث والدي وذكريات جدّي، وفي ذكرى ستّي، وفي صفيحة أمي، وفي عيون حبيبتي، لكن متى سنتوقف عن استعمال كلمة "زيْ" ونرى كل شيء على حقيقته في الوطن الذي نحب؟

عن المؤلف: 

خليل الراميني: مهندس فلسطيني من قرية رامين.