المعتقلون الفلسطينيون والسلطة الرابعة: قراءة نقدية في الخطاب الإعلامي المحلي والعربي
التاريخ: 
26/05/2021
المؤلف: 
ملف خاص: 

واطمأن قلب نائل

أربعة عقود مرت على اعتقال نائل البرغوثي. قبل عشرة أعوام بثت إحدى وسائل الإعلام الفلسطينية رسالة "تضامنية" مع نائل الملقب بـ "أبي النور". احتوى المشهد على مؤثرات موسيقية، وينطق أحدهم بصوت أجش: "نائل البرغوثي".. ثم يصمت قليلاً لبضع ثوان ويخشن الصوت مردداً: "ثلاثون عاماً في الأسر".. يليه هدوء مع إيقاعات صوتية تزيد من رهبة الصوت القائل بإطالة: "لن يطول أسرك".

 

سليمان منصور، الحرية للأسرى، ١٩٨٠ 

 

تسع كلمات فقط، "نائل البرغوثي.. ثلاثون عاماً في الأسر.. لن يطول أسرك." تسع كلمات تجسد جملة من الإخفاقات ليس أكبرها الخطاب الإعلامي بشأن الاعتقال السياسي لمئات آلاف الفلسطينيين على مدار عقود الاستعمار - الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.

وإن كانت هذه كلمات تسع فقط، فإن رد نائل لن تسعه تسع كلمات، أذكر أنه نطق بتسعة أحرف: "طمأنتموني"!

لقد اعتدنا كأسرى وكمجتمع فلسطيني تحت الاحتلال هذا المستوى من الخطاب الإعلامي الأجوف، لذا، فلا غرابة أن نسمع تعبيرات تعكس حالة التناقض بين المسؤولية المجتمعية عن تحرير الأسرى والواقع على الأرض، مثل تعبيريْ "جنرالات الصبر وعمالقة الصبر".. إلخ.

المتابع للتغطية الإعلامية المحلية والعربية المتعلقة بقضية الاعتقال السياسي، لا يمكنه إلّا أن يلاحظ أن نسبة كبيرة من وسائل الإعلام تعتمد الإنشاء والاجترار، إذ تكوِّن معرفة قائمة على افتراضات تقليدية وشكلية، كونها تسير في نطاق الأسس المنهجية للنظام القائم (سلطة وأحزاب). وعجزت بالتالي عن الخروج عن القواعد والمبادئ والمحددات السائدة، والتي توظَّف في خدمة علاقات السيطرة والمنفعة القائمة.

مفارقات

لا أسعى للتعميم بتاتاً، كي لا أظلم الكثيرين والكثيرات من أفراد ومؤسسات يقومون بدورهم بصورة مهنية وأخلاقية رفيعة، لكن في المقابل لا بد من تأكيد وجود شرائح واسعة من المنتفعين من محامين، وهيئات رسمية، ومؤسسات حقوقية ومدنية ومنظمات أهلية، والتي تعتاش من واقع وجود آلاف المعتقلين خلف القضبان، في حين لا توجد رقابة على أدائها وتمويلها وممارساتها. فغياب الرقابة الفعلية هو الوصفة المثلى للفساد.

نكتفي بالإشارة النظرية إلى رأي المفكر (ميشيل فوكو) في الخطاب باعتباره "ممارسة لها قواعدها، تدل دلالة وصف على عدد معين من المنطوقات وتشير إليها.... الخطاب مجموعة من المنطوقات بوصفها تنتمي الى ذات التشكيلة الخطابية"، للوصول إلى حقيقة الترابط الجدلي بين "السلطة" و"المعرفة" و"الإنشاء"، بحسب المفكر المبدع إدوارد سعيد. من هنا سأقدم جردة حسابات أولية للخطاب الإعلامي لوسائل الإعلام، ساعياً للنقد وليس للمجاملة.

ربما تعكس التغطية الإعلامية اليومية في الإعلام الرسمي الفلسطيني، والموسمية نسبياً في الإعلام العربي غير الرسمي، حضور ملف المعتقلين على الأجندة، لكن هذا لا ينهي حقيقة أن المعتقلين يقيِّمون الخطاب الإعلامي تبعاً لمستوى الوعي الثقافي، أو النضج السياسي، أو التحصيل الأكاديمي، وربما حتى الانتماء الحزبي وأولويات أُخرى أقل تأثيراً.

ما أصبح بديهياً للأسف هو غياب عدة عناصر أساسية في العمل الصحافي عن التغطية الإعلامية الرسمية بصورة خاصة، والعربية بصورة عامة، كالحيادية في تناول الحالات، أو الموضوعية في فرزها، أو سيطرة التبسيط الذي يعكس السطحية في رؤية الأمور من جهة، والتهويل الذي يعكس الجهل في فهمها من جهة أُخرى، عدا عن الشكلية والمبالغات التي في مجملها تضع الإعلام في موقع شاهد الزور، والذي لا تُقبَل شهادته مهما بلغت نسبة الدقة فيها.

وهنالك بحث دائم وتركيز على الإجراءات القمعية يعكس حالة من الانفعالية الموسمية، كما يلاحَظ نوع من "إسقاط الواجب" في الكثير من حالات التغطية، بحيث لا تغدو قضية الاعتقال كما هي، قضية كبرى يجب أن تحظى بصورة إعلامية أكثر فاعلية، ناهيك بالتركيز في كثير من الحالات على المعتقلين في المناسبات، إذ تعتمد التغطية على لغة الخطاب النمطي والإنشائي.

وتجدر الإشارة هنا إلى الالتزام الذي تبديه وسائل إعلام محلية مرئية ومسموعة تجاه قضية الأسرى بصورة كثيفة ويومية، لكن أداءها يظل أسير التمثلات النمطية والخبر الجامد، بالإضافة إلى استخدامها التعبيرات المضللة والمغلوط فيها، مثل السجناء الأمنيين بدلاً من المعتقلين السياسيين، أو سجن بدلاً من معتقل أو معسكر اعتقال، أو احتلال بدلاً من استعمار وغيرها.

إشكالية التغطية العربية لقضية الأسرى، إذ تقتصر الإشارة في أغلب الأحيان على "الفقرة وكفى" بضع ثوان، تفتقر إلى التحليل ومشبعة بالبعد العاطفي والمبالغة، في حين أن المطلوب تكريس نمط التحقيق الصحافي الموضوعي والمفصل.

ومثلما صار الشهداء "وعلى رأسهم فلان وعلان"، ليغدو التطرق إلى الآخرين بالأرقام، بات التفضيل سِمة لدى بعض وسائل الإعلام المحلية، بمعنى تفضيل معتقل على آخر، اعتماداً على انتمائه السياسي، أو قربه أو بعده عن دوائر الرضى الرسمي، كما هي الحال في وسائل الإعلام الرسمية الفلسطينية، أو وسائل الإعلام الحزبية الخاصة التي تعتمد التمييز المضاد، وبناء على المعايير نفسها.

ومن نافل القول إن من ضمن إشكاليات الإعلام اللجوء الى ذات العناوين الجامدة للحديث عن قضية الأسرى، وحتى من دون أن يُبذَل أي جهد فيه إبداع نحو التجديد، أو حتى التحرر من دائرة مغلقة ومقلصة من "المسؤولين" و"الخبراء" الذين يكررون الخطاب المبتذل ذاته، بدلاً من السعي للبحث عن شخصيات أُخرى تقدم الجديد أو التحليل النقدي الغائب عن الشاشة. وفي هذا الصدد أيضاً، ليس جديداً أن نحاجج في أننا أمام خطاب إعلامي ذكوري يتعامل مع الأسيرات كضحايا يستحققنَ الشفقة والتعاطف بدلاً من التعامل معهن كحالات نضالية مميزة، تستحق نوعاً خاصاً من التغطية. لكن المجتمع الذكوري يحيّد دور المرأة النضالي.

إن دلالة "السلطة الرابعة" التأثيرية تكمن في الانتقال من التركيز على التقارير إلى التحقيقات الصحافية الجريئة والموضوعية. فالخطاب الإعلامي غير الحيادي نتج منه انعدام النقد لإشكاليات الحركة الأسيرة باعتبارها محرّمات، بالإضافة إلى العزوف عن تحدي السلطة وغياب النقد البنّاء للمؤسسات الحكومية والأهلية المعنية بالشأن الاعتقالي. وتفسر هذه الحالة عدم الخروج عن الصورة النمطية القائمة وانعدام الجرأة في طرح قضايا حساسة، مثل "النبش" في آليات عمل المؤسسات المعنية بالشأن الاعتقالي، وطبيعة عملها وإنجازاتها وإخفاقاتها، أو فضح سلوكيات بعض المحامين الذين يتقاضون أجوراً تفوق قدرات الأسرة الفلسطينية المتواضعة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم نسمع أية وسيلة إعلامية تتساءل عن مخرجات أكثر من "مؤتمر دولي" عُقد بشأن الأسرى، ولا كيفية الدعوة إلى هذه المؤتمرات، أو طريقة اختيار المدعوين إليها، أو تكلفتها، أو بالحد الأدنى ما هي منجزاتها؟ وهو ما يدل على غياب المساءلة الإعلامية.

حرص الإعلام على تقديم معطيات رقمية بشأن قضية الأسرى، لكن ما هي دلالات هذه الأرقام وأبعادها؟ لا نجد وسيلة إعلامية تناقش مثلاً حقيقة أن اعتقال أكثر من مليون فلسطيني من سنة 1967م إلى اليوم يعني فيما يعنيه السيطرة الاستعمارية على قوة العمل الفلسطينية، وتحويل الواقع الفلسطيني إلى "وضع عبودي". أو على سبيل المثال واقع أن 90٪ من المعتقلين هم من الطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و24 عاماً، الأمر الذي يحرمهم مواصلة تعليمهم الأكاديمي، وبالتالي يضمن الاستعمار بقاءهم في نطاق قوى العمل الرخيصة في المعامل الإسرائيلية. وهذا يدخلنا في نقاش الممارسات الاستعمارية بحق المعتقلين، إذ إن الخطاب الإعلامي المهيمن يركز على التنكيل والبطش والتعذيب والظروف المعيشية والحياتية، وبالكليشيهات المعهودة نفسها. هذا الخطاب ينسى أو يتناسى حقيقة أن قضية الاعتقال هي قضية سياسية بالأساس، وليست مجرد مسألة إنسانية وحياتية، وأن إدارة المعتقلات ليست مجرد أداة قمعية، إنما أداة استعمارية، إذ يتعين إجراء تمييز أساسي بين البعد السياسي - الاقتصادي للاعتقال والبعد الإنساني المعيشي.

من حقنا أن نتساءل لماذا لا تحقق وسائل الإعلام في المماطلة والتلكؤ والتسويف عبر التوجه إلى المحاكم الدولية بخصوص قضية الاعتقال، لتفرض على الاستعمار الصهيوني الاعتراف بنا كأسرى حرب، والمقصود محكمة العدل الدولية في لاهاي؛ محكمة الجنايات الدولية في روما؛ أو حتى المحاكم التي تسمح قوانينها برفع قضايا ضد الممارسات الاستعمارية.. والغاية هنا أن تتحول مسألة الاعتقال السياسي من سيف مسلط على رقاب شعبنا، إلى أداة سياسية للضغط على الاحتلال، وصولاً إلى ملاحقة رجالاته في المحاكم الدولية، لعدم الاعتراف بنا والتعامل معنا كأسرى حرب وفقاً لاتفاقية جنيف الثالثة والرابعة، اللتين وقّعهما الكيان الصهيوني نفسه.

نحو مراجعة الخطاب وتحديثه

يتضح إخفاق وسائل الإعلام الفلسطينية والإقليمية في نقد الإعلام الصهيوني ونظرته الاستشراقية والعنصرية ضد المعتقلين الفلسطينيين. فالإعلام الصهيوني، ومن منطلق تجريمه النضال الفلسطيني، يروج صورة نمطية ذات طابع جوهراني تبيح التنكيل والقمع، وصولاً إلى التصفية الجسدية "للآخر" المستباح حقوقياً ومادياً، وربما وجودياً، الأمر الذي جعل المعتقلين محاصَرين ومنكمشين ومشتتين بفعل الضغط الممارَس عليهم.

فالمعتقل الفلسطيني، بحسب وسائل الإعلام الصهيونية، يجب أن يخضع للسيطرة من منطلق دونيته، وأن توضع روحه كما حياته تحت تصرف أدوات القمع المؤسساتي الصهيوني، كما يمكن إهماله صحياً وأخلاقياً ووجودياً. إن البحث في جذور التعبيرات العنصرية ذات الطابع الجوهراني والعدائي لدى الإعلام الصهيوني، هو واجب أخلاقي وسياسي وإنساني، ففي تعبير "المخرّبين" أو "أسرى أمنيين" تجاوُز صارخ للقانون الدولي يسوّغ إخضاعهم ويشرعن التنكيل بهم وبعائلاتهم، والمساس بحقوقهم المكفولة دولياً. وفي هذا السياق تكمن الإشكالية في عدم مواجهة وتحدي هذا الخطاب الاستعماري الصهيوني القائم على التحريض العنصري الذكوري والتمثلات الاستعمارية الساعية لنزع إنسانية الفلسطيني وتأكيد دونيته كجزء من تسويغه للاضطهاد. بناء عليه، فإن الإعلام الصهيوني المجند يجب أن يواجَه عبر تشكيل جبهة مضادة تعيد تعريف المعنى وتفضح الممارسات الصهيونية التي لا تتقيد بالقانون الدولي، باعتبار أن الكيان الصهيوني دولة فوق القانون. كما يجب تسليط الضوء على الفجوة بين الشعار والممارسة الديمقراطية الزائفة للاستعمار، وكذلك الإجحاف القضائي الذي يكيل بمكاييل مختلفة للقضايا نفسها، لكن بأحكام على الأسرى الفلسطينيين تختلف بما لا يقاس عن الأحكام على السجناء الصهيونيين الذين يمارسون جرائم بحق الفلسطينيين. الأمر الذي يستدعي من الإعلام إجراء مقاربات صحافية موضوعية في هذا الصدد وفضح هذا الإخلال القضائي العنصري الفج، ناهيك بالاختلاف في ظروف وأماكن وشروط الاحتجاج.

وفي سياق السعي لإفقار الفلسطينيين والسيطرة على مقدّراتهم، بالكاد تسلط وسائل الإعلام الضوء على الغرامات المادية التي تفرضها المحاكم العسكرية على المعتقلين الفلسطينيين، والأرجح أن قلة فقط من المتابعين تدرك واقع أن المعتقلين الفلسطينيين يمولون القضاء والنيابة، وربما تكلفة الاعتقال، من خلال الاستجابة لسياسة فرض الغرامات المالية الباهظة على المعتقلين، عدا عن أحكام الاعتقال.

ندرك وجود الكم الهائل من العاملات والعاملين في وسائل الإعلام، سواء بالمراسلة أو بالتقديم، أو بالتحليل، الذين تميزهم النزاهة والتعاطف مع قضايا الاعتقال، من هنا يجب التنبيه أن على الإعلامي أن يحمل رسالة، وألا يميل إلى التنصل من واجباته الأخلاقية ومسؤولياته الوطنية، وبالتالي يستوجب البحث عن وسائل للخروج من صندوق الامتثال للخطاب الإعلامي الرسمي الذي يدفع باتجاه صوغ شكل وهوية ومكان في الذاكرة للمعتقلين على شاكلة متحف وطني أو مهرجان تأبين في أحسن الأحوال. وربما تعكس التغطية الإعلامية المتكلفة معضلة تتحمل جزء منها حالة التفتت والتشرذم البنيوي في الحركة الأسيرة وسقوطها في مستنقع الخلافات والتناقضات والانقسام والمحسوبيات، فالواقع الاعتقالي ليس سوى انعكاس للواقع الاجتماعي السياسي خارج المعتقلات.

عن المؤلف: 

شادي الشرفا (43 عاماً): أسير من سكان وادي الجوز في القدس، ومن قيادات الحركة الفلسطينية الأسيرة وأحد الوجوه الثقافية فيها. في هذه الأيام دخل الشرفا عامه الاعتقالي العشرين والأخير، وكان اعتُقل بتاريخ 6/4/2002، بعد رحلة نضالية حافلة ومطاردة من الاحتلال استمرت أكثر من عام، وحكمت عليه محكمة الاحتلال بالسجن عشرين عاماً، بعد أن دانته بالانتماء إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومشاركته في عدة نشاطات وفعاليات.