غزة: وحدة الدم الفلسطيني متصلة على الرغم من الفواصل الجغرافية
التاريخ: 
21/05/2021
المؤلف: 

بين ليلة وضحاها عادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة مجدداً، الحلم الذي كان حتى وقت قريب صعب المنال وفقاً للتقديرات السياسية السائدة، ولا سيما في ظل تجاوز الإدارة الأميركية السابقة حق الفلسطينيين في الأرض والمقدسات، ووسط جنوح بعض الأنظمة العربية نحو التطبيع مع إسرائيل.  

لم يكن يخطر في بال دوائر صنع القرار في إسرائيل، بعد أن حصلت من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على اعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لها في كانون الأول/ديسمبر 2017، أن محاولة إجلاء سكان الشيخ جرّاح في القدس واقتحام المسجد الأقصى، سيشعلان جذوة الصراع مع الفلسطينيين ويعيدان إحياءها مجدداً، وقبل ذلك سيثيران حمية الجماهير العربية ويدفعانها إلى النزول إلى العواصم دعماً وتأييداً للحق الفلسطيني.

مع دخول المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على خط المواجهة ضد إسرائيل، للتصدي للاستفزاز الذي حدث في القدس وحي الشيخ جرّاح، فُرضت قواعد اشتباك جديدة مع الاحتلال، على عكس ما كان متوقعاً.

في بداية الأمر، احتشدت جملة المخاوف المشروعة من أن تخطف الحرب على قطاع غزة، والتي بدأتها إسرائيل في العاشر من أيار/مايو الحالي، الأنظار عمّا يجري في القدس والأقصى نتيجة بشاعة المجازر المرتكَبة التي أزهقت حتى اللحظة أرواح 231 شهيداً، بالإضافة إلى أكثر من 1500 مصاب، وتدمير آلاف المباني، حتى كتابة هذه السطور.

غير أن حالة الاشتباك المفتوح مع إسرائيل في كل مواقع التماس، سواء في الضفة الغربية أو الأراضي المحتلة سنة 1948، إلى جانب الحراك الفلسطيني على الحدود مع الأردن ولبنان، قد بددت هذه المخاوف التي كان جزء منها متعلق بسكان القطاع الذين كانوا يخشون أيضاً من أن تُحشَر غزة في الزاوية وينحصر مشهد الصراع في وقف الحرب وكسر الحصار.

منذ فتحت إسرائيل النار على القطاع، تدافعت الجماهير الفلسطينية إلى نقاط التماس مع جنود الاحتلال، الأمر الذي أكد أننا شعب عصي على الانكسار، وأن وحدة الدم الفلسطيني متصلة على الرغم من كافة ممارسات إسرائيل بحقنا، من إبادة للإنسان وللأرض، ومحاولات طمس الهوية والقضية. 

كان واضحاً أن إزالة الشباب الفلسطيني كافة الفواصل الجغرافية على قاعدة وحدة المسار والمصير، هي رسالة وطنية بامتياز مفادها أن غزة ليست وحدها في وجه هذا المحتل، وهو أمر تحفظه غزة وتثني عليه، وتتحدث عنه العامة في الشوارع كلما سنحت الفرصة بين استهداف وآخر. 

لا يختلف إثنان الآن في غزة على أن ما يجري في مدن الضفة الغربية وعلى الحواجز، إلى جانب حالة التسخين في مدن الداخل المحتل، قد ساعد في تعزيز جبهتها ودعم صمود أهلها الذين يرزحون تحت النار لليوم العاشر، وللعام الرابع عشر تحت الحصار الذي يحرم السكان أدنى فرص العيش والحرية.

مما لا شك فيه أن تدافُع الجماهير نحو الاشتباك مع جنود الاحتلال في الضفة الغربية على وجه الخصوص، برهن بواقعية كاملة على وحدة الدم، وأن سنوات الانقسام السياسي لم تفلح في تمزيق النسيج الفلسطيني. كما أنه زاد في ثقة سكان غزة بحتمية الانتصار في هذه الحرب غير المتكافئة، والتي تحاول فيها إسرائيل تضليل الرأي العام العالمي بادعاء الدفاع عن النفس في وجه [الإرهاب].

من المعلوم أنها ليست الحرب الأولى التي تشنها إسرائيل على القطاع الذي عاش خلال عقد ونصف أربعة حروب متتالية، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة ما دامت المقاومة تعزز قدراتها العسكرية، غير أن المختلف هذه المرة هو شمولية الانتفاضة الشعبية المتزامنة مع هذه الحرب، والتي تعكس للعالم أجمع أن الفلسطينيين يرفضون الوضع القائم تحت الاحتلال، وأن الهدف من هذه الانتفاضة هو التخلص من إسرائيل كقوة احتلال جاثمة على الأراضي الفلسطينية.

حشدُ الجماهير في الداخل المحتل أيضاً أكد نشوء جيل جديد واعٍ بحقوقه بعيداً عن حالة الأدلجة والتأطير التي يعيشها الفلسطينيون. وقد كانت حالة الاشتباك التي يقودها الشباب الفلسطيني كفاعل ثوري في مدينة اللد على وجه الخصوص خير شاهد على ذلك.

 كل ذلك شكّل نقطة دعم وقوة للمقاومة في قطاع غزة، وأعطى دلالة واضحة على أن حالة الاشتباك الجماعي قادرة على زعزعة أمن إسرائيل، فضلاً عن أنها نقلت المقاومة من حالة الاشتباك الفردي إلى الجمعي، وهو ما كانت تسعى له دائماً، ألّا تكون غزة فقط مصدر القلق الوحيد لإسرائيل. 

المشهد القائم الآن في الأراضي الفلسطينية دلّل على التحول من الالتزام الفردي إلى التزام جمعي في مواجهة إسرائيل، على الرغم من محاولات الأخيرة ومعها الإدارة الأميركية، بما في ذلك إدارة بايدن الذي لم يتراجع عن سياسات ترامب المنحازة في محاولة تجميد الصراع الفلسطيني، بفصل الجغرافيا الفلسطينية ومحاولة إقامة دولة فلسطينية في غزة على حساب بقية الأرض.

لذلك، غزة فخورة بما يكفي الآن وهي تقاتل على واحدة من جبهات هذا الوطن، بعد أعوام من الجهد الإسرائيلي والغربي والعربي لتمزيق المجتمع الفلسطيني وتقسيمه، إذ إن الانتفاضة الشعبية اليوم بعثرت جهودهم هباءً منثوراً وخلقت حقبة جديدة من الصراع من أجل الهوية والحرية.

عن المؤلف: 

فادي جمال: صحافي من غزة.