يشير معظم التقديرات إلى أن الفصل الجديد من العدوان الإسرائيلي الذي يستهدف قطاع غزة سيتوقف قريباً. لكن العدوان ضد الشعب الفلسطيني، وخصوصاً ضد قطاع غزة، سيتواصل بأشكال أُخرى. العدوان سيتوقف عند لحظة لم يتمكن فيها أقوى رابع جيش في العالم من منع إطلاق الصواريخ ضد المدن والمستعمرات والمراكز الإسرائيلية، وسيتوقف العدوان عند لحظة استشراس جيش الاحتلال وإمعانه في تدمير الأبراج والمباني والشوارع، وهدم المزيد من الشقق فوق رؤوس مواطنيها، وتصفية أفراد بشبهة المقاومة. لقد أصبحت معادلة الأمن الإسرائيلي الجديدة تساوي تدمير وتشريد مدن ومخيمات القطاع وما يعنيه ذلك من ارتكاب جرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني والإنسانية على حد سواء.
تقول النتائج الأولية لهذا الفصل الجديد من العدوان على قطاع غزة إن الحسم العسكري الإسرائيلي للصراع بات غير مرغوب فيه، أو سيكون بثمن باهظ، فضلاً عن وجود أسباب أُخرى كتعزيز الانقسام بين الضفة والقطاع، وفي إطار الحركة السياسية الفلسطينية. بحسب ما نرى، لا يبدو أن المؤسسة الإسرائيلية مستعدة لدفع ثمن باهظ، لذا، تكتفي في هذه المرحلة باستراتيجيا الردع عن بعد، القائمة على تدمير بنى تحتية، وارتكاب مجازر بحق مدنيين أبرياء، واغتيال قادة ورموز عسكريين وسياسيين. ربما تغيرت عقيدة الجيش الإسرائيلي التي تأسست على أيديولوجيا "أرض الميعاد"، وعلى "توفير مكان آمن لليهود الناجين من المحرقة"، أو عدم تكرار المحرقة. تلك العقيدة التي عمل الجيش الإسرائيلي بها في حربيْ 1948 و1967. وكان ثمة انسجام بين تلك العقيدة المبنية على الادعاء والتضليل الذي غطى على المشروع الاستعماري الاستيطاني، وبين أداء الجيش وتفوقه الميداني. غير أن تلك العقيدة بدأت تتغير بعد احتلال 1967، وقد تأثرت الثقافة الإسرائيلية بالأطماع الاستعمارية الجديدة التي ولدها الاحتلال، فتغلب البحث عن جودة الحياة والرفاه في المستوطنات على حماية الناجين المفتعلة، وأصبحت مزاعم الخطر الوجودي تتراجع أمام المصالح والمنافع. في ظل هذا التغير لم يعد الجندي الإسرائيلي مستعداً للموت والتضحية بالنفس كما كان في السابق، وتعزّز التغير بانفتاح الأجيال الإسرائيلية الجديدة على العالم، وبمزيد من اندماج اليهود في بلاد العالم المتقدم.
الآن تعتمد الحرب الإسرائيلية على الدمار والأرض المحروقة والعقاب الجماعي، وكل ذلك عن بعد. من جهة أُخرى لم يعد الجندي الإسرائيلي يخيف الشاب والشابة والمقاوم الفلسطيني في الضفة والقطاع. هذا التطور منطقي في تغير الحوافز والمبررات التي تقدمها المؤسسة العسكرية للجنود. إذ تتأثر جاهزية الجندي الإسرائيلي للقتال سلباً عندما يصبح الهدف حماية وفرة حياة مستوطنين رعاع، وشعوذات أصوليين يهود. من المنطقي أن تهتز عقيدة الجنود وقد أصبحت إحدى مهماتهم الأساسية قمع ومطاردة أولاد وشبان فلسطينيين والسيطرة على شعب آخر. ولا شك في أن قناعتهم بـ "عدالة" مشروعهم تتراجع، وتتراجع معها سطوة الجيش الذي لا يُقهر على الرغم من امتلاكه أحدث ترسانة عسكرية، وعلى الرغم من تفوقه العسكري الهائل. وإذا ما انتقلت دولة إسرائيل من دولة فوق القانون بفضل الدعم الأميركي والتواطؤ الغربي إلى دولة تحت القانون، سيتحول جيشها إلى جيش تنطبق عليه قوانين وأنظمة الحرب ويخضع للمساءلة والمحاسبة على جرائم الحرب والانتهاكات، في هذه الحال يتحول إلى جيش عادي يفوز ويُهزَم ويقبل الحلول.
المواجهة العسكرية الأخيرة مع قطاع غزة كشفت نقاط ضعف عديدة أحدثت شروخاً داخل المؤسسة الأمنية، ومع جمهورها، ويتضح ذلك من تمديد العدوان بحثاً عن سند لانتصار مزعوم في مواجهة مقاومة لا تملك سوى أسلحة من صنع محلي، وشعب أعزل لا تتوفر له ملاجىء للحماية من القنابل والصواريخ. غير أن إرباك المؤسسة العسكرية من جانب فصائل المقاومة لا يعني أن أسلوب المواجهة العسكرية مع غطرسة القوة هو الأسلوب الأمثل للنضال الفلسطيني. وهنا لا يفوت المرء القول إن وجود سلاح المقاومة بات ضرورياً في مواجهة الاستباحة الإسرائيلية للحقوق الفلسطينية المشروعة، وفي مواجهة السعي الإسرائيلي المحموم لتصفية القضية الفلسطينية، الذي يتضمن أشكالاً من التطهير العرقي، فضلاً عن تثبيت الاحتلال والسيطرة. ووجود السلاح مهم أكثر بعد أن ألغت دولة الاحتلال "اتفاق أوسلو الهزيل" وملحقاته، وجعلت حياة المعتدلين الفلسطينيين بائسة وصعبة، كما جعلت القيادة السياسية غير موثوق بها من الشعب الفلسطيني. إن وجود السلاح واللجوء الى السلاح وكل محاولات اتباع طرق المقاومة العنفية الفردية والمنظمة هي وليدة الاحتلال المتغطرس الدائم، والمتنكر لكل الحقوق الفلسطينية المشروعة. ما يهم هو كيفية استخدام المقاومة وسلاحها، ثمة فرق بين استخدام السلاح في مواجهات عسكرية موسمية غير متكافئة يتم اللجوء إليها كل أربعة أو ستة أعوام، وبين انتفاضة تحظى بدعم شعوب ونخب وبرلمانات وحركات اجتماعية ونخب أكاديمية وثقافية وفنية عربية وعالمية، ومعظم دول العالم. المواجهة العسكرية تحول المقاومة إلى إرهاب، والدولة المعتدية إلى دولة من حقها الدفاع عن أمنها وشعبها، من وجهة نظر أميركا ودول الغرب؛ المواجهة في ظل نظام دولي تقوده الإدارات الأميركية إلى الانحياز المشين إلى دولة الاحتلال والسكوت عن الاحتلال المزمن بدلاً من تسليط الجهود والأضواء على مهمة إنهاء الاحتلال والسيطرة على شعب آخر، والتي تطرحها الانتفاضة. المواجهة تُلحق خسائر بشرية وخسائر في البنية التحتية الفلسطينية لا تحدثها الانتفاضة الشعبية. الانتفاضة الشعبية طويلة الأمد، أمّا المواجهة فغالباً ما تكون محدودة بوقت قصير تتبعها هدنة طويلة.
بعد وقف العدوان، من المفترض تفعيل وتطوير الانتفاضة برنامجياً وعلى الأرض. واعتماد مهمات وأهداف، مثل فك الحصار، وإنهاء العقوبات على قطاع غزة، والالتزام بإعادة بناء ما دمره جيش الاحتلال في حروبه السابقة، ومهمة فرض تراجُع إسرائيلي غير ملتبس في مدينة القدس، وتراجُع عن التطهير العرقي في القدس والأغوار ومناطق ج، والأهم وقف المشاريع الاستيطانية التي تفصل المدينة عن محيطها الفلسطيني، ومهمة إسقاط قانون القومية وسلسلة القوانين العنصرية التي تمس المواطنين في مناطق 48، وإعادة طرح قضية اللاجئين وبناء الهيئات التي تقود نضالهم من أجل حقوقهم، وكل هذا يصبّ في هدف مركزي هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة سنة 1967.
إزاء ذلك لا يمكن تفعيل الانتفاضة والمهام والأهداف المنوطة بها، مع بقاء بنية المؤسسة الفلسطينية على حالها، وهي بنية أوسلو؛ لا مناص من حل التناقض، فالبنية البيروقراطية غير قادرة على النهوض بتلك المهام. وقد كان تعديل البنية مرهوناً بالانتخابات التي تم تأجيلها إلى أجل غير مسمى بسبب عدم سماح دولة الاحتلال بإجرائها في مدينة القدس. من المفترض العودة إلى الانتخابات وخوض معركة إشراك مدينة القدس وعدم رهن التغيير في بنية المؤسسة والنظام الفلسطيني بقرار من سلطات الاحتلال.