رواية أحمد خليفة
التاريخ: 
19/05/2021
المؤلف: 

(1)

شاءت الأقدار أن تقود نكبة 1948 أسرة أحمد خليفة وأسرتي من حيفا وصفد إلى بيتين قريبين من بعضهما في حي الشريبشات في دمشق. وفي الصف السادس الابتدائي بدأت أذهب مع أحمد إلى دكان بائع كتب قريب من سوق الحميدية لنستأجر الروايات البوليسية، كان البائع يأخذ منا الهوية المدرسية كعربون ويعطينا روايتين، وبعد أن نعيدهما إليه يعطينا روايتين جديدتين... وهكذا مقابل عشرة قروش للرواية الواحدة. وخلال ذلك العام الدراسي قرأنا كل ما لدى البائع من روايات أرسين لوبين وشارلي شان وشرلوك هولمز. وفي الصف السابع قرأنا قصص أغاثا كريستي حتى شعرنا بأننا تجاوزنا مرحلة الروايات البوليسية، وتلقائياً وجدنا أنفسنا نقرأ روايات المغامرات البطولية والعاطفية، والتي بدأناها بقراءة روايات الكسندر توماس الكبير، وانتهت بقراءة كل روايات جرجي زيدان، من "أرمانوسة المصرية" إلى "الانقلاب العثماني". وفي نهاية الصف الثامن شعرنا بأننا تجاوزنا مرحلة المغامرات ووجدنا أنفسنا نقرأ لإميل زولا وبلزاك، وهذا ما قادنا إلى نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم. وفجأة بدأ منير البعلبكي يُصدر ترجمته الرائعة لفصول بؤساء فيكتور هوغو ككتاب شهري لكل فصل (16 كتاباً على ما أذكر)، فعشنا سنتين مع جان فالجان وغوفروش وغوزيت، وثورات باريس، ومعارك نابليون. وفي أثناء ذلك تعرّفنا إلى بلال الحسن وألّفنا "رابطة الأدب والحياة"، ثم انضممنا إلى حركة القوميين العرب وتعرّفنا إلى غسان كنفاني. وفي اليوم نفسه أحضر لنا بلال رواية الفقراء لدوستويفسكي، وبعد قراءة تلك الرواية أدركنا أننا وصلنا إلى المرحلة التي لا يمكن تجاوزها..

قرأ أحمد "الجريمة والعقاب" في يوم واحد، وفي اليوم التالي ذهب إلى المدرسة وانتقل من الفرع العلمي إلى الفرع الأدبي (كان في الصف الحادي عشر) وقرر أن يصبح روائياً.

(2)

بعد حصوله على الشهادة الثانوية تقدم أحمد إلى مسابقة أجرتها السفارة الهندية لاختيار تلميذ من سورية لدراسة الأدب الإنكليزي على نفقة الحكومة الهندية، ففاز بالمنحة، إذ جاء ترتيبه الأول من بين 266 متسابقاً، وفي منتصف حزيران/يونيو 1958 سافر إلى الهند للالتحاق بجامعة بومباي..

بعد أسبوعين استلمت برقية من أحمد يطلب فيها أن أقوم بتسجيله في الجامعة السورية لأنه قرر العودة. وفي الساعة السادسة من صباح 14 تموز/يوليو كنت مع مجموعة من الرفاق في استقباله في مطار دمشق. ما إن وصلنا إلى بيته حتى انفجرت الثورة في العراق، التي حطمت الحكم الملكي وأعلنت الجمهورية، فانتظرنا دقائق قام أحمد خلالها بالسلام على عائلته، ثم أسرعنا للذهاب إلى مقر مجلة الرأي[1]. وعند محطة الحجاز انضممنا إلى تظاهرة تردد وراء غسان كنفاني:

اضرب رصاص خللي رصاصك صايب

شعب العرب يا صنّاع العجايب

حطّم نوري وحطّم حلف المصايب[2].

في مساء ذلك اليوم سألت أحمد عن سبب عودته والتخلي عن المنحة الدراسية السخية فأجاب: "لقد تأكدت من أنني لن أتمكن من كتابة الرواية هناك".

(3)

في شباط 1959 سافرت إلى الولايات المتحدة للدراسة وكانت رسائل أحمد لي تفيض بالحماسة عن موضوعين اثنين: مستقبل حركة التحرر العربي بأفقها الناصري، ودراسته في جامعة دمشق لمسرحيات شكسبير على يد أستاذ هندي. وعندما بدأت رسائله تتحدث عن رغبته في البدء بالكتابة حدثت كارثة الانفصال، فترك دمشق، إذ انتدبته حركة القوميين العرب للذهاب إلى حلب والعمل مع فرع الحركة هناك على تنظيم المقاومة الشعبية ضد الانفصال..

كان لحدث تفكُّك الجمهورية العربية المتحدة تأثير طاغٍ على أحمد، إذ اكتشف مقدار السذاجة التي صبغت الفكر السياسي لحركة التحرر العربي، فقرر أن يعمل على تثقيف نفسه سياسياً وسافر إلى ألمانيا، حيث كان أخوه محمد يدرس الهندسة هناك، وحضر في إحدى الجامعات الألمانية محاضرات في علوم السياسة والاقتصاد والإحصاء، ثم عاد إلى بيروت، حيث انضم إلى أسرة مجلة "الحرية"، وعاش مع غسان كنفاني في شقة في شارع الحمراء. .

تميزت مقالات أحمد في مجلة "الحرية" بميزتين سوف تطبعان فيما بعد كتاباته طوال حياته: كانت مقالات مكتوبة بعد بحث جاد وعميق ومضنٍ، وكانت تبغي الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة. كان يكتب كأنه ينتقم من المبالغات والمغالطات والأكاذيب التي تملأ صحف العالم..

بعد سنوات من العمل الصحافي عاوده الحنين إلى الأدب وكتابة الرواية، فترك بيروت إلى القاهرة، حيث تسجل في قسم الدراسات العليا في جامعة القاهرة للتحضير لشهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي..

كانت حياته في القاهرة مثيرة وغنية وملونة بكل أطياف ثقافة القاهرة في منتصف الستينيات. ثقافة كتّاب وشعراء وصحافيين وفنانين ولاجئين سياسيين يبحثون في الأفكار والمفاهيم والأساليب الجديدة. وعندما تقدم بمخطط تمهيدي لمشروع رسالة الماجستير أكدت له الأستاذة المشرفة أن رسالته ستكون "أصيلة وإبداعية".

وفجأة حصلت هزيمة 1967، فترك أحمد القاهرة إلى بيروت، ثم إلى عمّان، حيث شارك في تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم كان من أوائل الذين دخلوا إلى القدس ليعمل على تنظيم مقاومة شباب وشابات الجبهة للاحتلال الإسرائيلي. وبعد فترة قصيرة تم اعتقاله، وبعد أسابيع تمكن أحد مراسلي جريدة لوموند الفرنسية من مقابلته في السجن ونشر مقالاً بعنوان "أحمد خليفة يقول: أريد كتباً لأقرأ".

 (4)

في آب/أغسطس 1970 قابلت أحمد في بيروت بعد أن أمضى سنتين في سجون إسرائيل. كان لا يتكلم في السياسة أو الأدب، لكنه كان مسكوناً بهاجس واحد: كيف يستطيع أن يساعد الإنسان العربي على تكوين "فهم واقعي عن إسرائيل". لقد تعلم في السجن اللغة العبرية وقرأ الكثير من أدبيات الحركة الصهيونية، وحضر إلى سجنه أستاذ جامعي إسرائيلي للحوار معه ومحاولة التأثير عليه لتغيير مفاهيمه. خرج أحمد من السجن وقد مشى الخطوة الأولى في طريق "فهم إسرائيل من الداخل". وكان يرى أن دوره هو متابعة السير في تلك الطريق. وما زلت أذكر أنه قال لي يومها: "ستجدني إسرائيل في أبحاثي وكتاباتي عدواً أشرس مما كنت عليه عندما اعتقلتني كمناضل." وهذا هو بالضبط ما فعله في فترة 1970 - 2021 كباحث في الشأن الإسرائيلي في مركز الأبحاث الفلسطيني أولاً، ثم في مؤسسة الدراسات الفلسطينية. لقد أمضى أحمد نصف قرن وهو يتابع أحداث الصراع على أرض فلسطين، ساعة بساعة، ويوماً بعد يوم. ويقرأ في التقارير الاستراتيجية الإسرائيلية الدورية، واحداً بعد الآخر، وسنة بعد سنة، وينتظر صدور الكتب الإسرائيلية المهمة ليترجمها، أو يكلف شخصاً آخر بترجمتها. وبسبب هذا الجهد الهائل كان قادراً على أن يضيء بكتاباته على كل الأبعاد التي تخص أي حدث إسرائيلي. كان قادراً على أن يربط الآني بخلفيته التاريخية وآفاقه المستقبلية .

(5)

في صيف 1987 أمضيت مع أحمد أسبوعاً بين لندن وباريس، وكان  استقال من العمل كمحرر للشؤون الإسرائيلية في مجلة "اليوم السابع" التي أسسها بلال الحسن في سنة 1983 بعد خروج منظمة التحرير من بيروت، وعاد إلى العمل مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي قررت إصدار "مجلة الدراسات الفلسطينية" وكلفته برئاسة تحريرها..

وفي جلسة نقاش طويلة تناولت الوضع الفلسطيني في مقهى الدوم في مونبارناس في باريس قال أحمد: "عليك أن تدرك أن الصهيونية ليس لها برنامج، إنها هي البرنامج." وعندما سألته ما الذي يعنيه بذلك أجاب: "لقد توصلت إلى هذه النتيجة بعد دراسة جادة للحركة الصهيونية في المجال السياسي، وسيكون من المفيد أن نرى إذا كنت أنت ستتوصل إلى ذات النتيجة بعد أن تقوم بدراسة جادة للحركه الصهيونية في المجال الاقتصادي.".

تمكنت من دراسة بنية وتطور الاقتصاد الإسرائيلي في مدة قصيرة نسبياً بفضل توجيهات أحمد وإرشاداته التي وفرت عليّ وقت البحث عن المراجع المهمة، كما ساعدتني على فهم تاريخ الحركة الصهيونية من منظور رؤية "الخلفية الاقتصادية للمشاكل السياسية، والحلول السياسية للمشاكل الاقتصادية.".

ومن هذه الدراسة وجدت أن "البرنامج الصهيوني" لم يتغير أو يتبدل منذ بدء الاستيطان اليهودي في فلسطين في سنة 1882 وإلى وقتنا الحاضر. لقد تمكن هذا البرنامج من المحافظة على أولوياته بصورة مطلقة خلال مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين وبعد قيام الدولة في مرحلة "الاشتراكية الديمقراطية" التي امتدت من سنة 1948 إلى أواخر الثمانينيات، ثم مرحلة "الرأسمالية النيوليبرالية" منذ مطلع التسعينيات وإلى اليوم. إنه برنامج عابر للأيديولوجيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فالصهيونية، كما قال أحمد، هي برنامج بذاتها لأنها "أسطورة إمّا أن تؤمن بها، أو تحاربها" كما وصفها محمد حسنين هيكل.

(6)

كان محمود درويش يمازح أحمد بقوله:

"أسرع يا أحمد بكتابة الرواية قبل أن يموت البطل".

لم يكتب أحمد خليفة الرواية، لكنه عاش حياة ستبقى واحدة من أجمل وأعرق وأطهر روايات فلسطين.

 

[1]  كانت مجلة "حركة القوميين العرب"، ومقرها كان مركزاً للحركة في دمشق.

[2]  المقصود نوري السعيد المشهور بولائه للاستعمار البريطاني وحلف بغداد.