لم يُكتَب لأحمد خليفة أن يكمل أياً من مسارات دراسته الجامعية الثلاثة، لا في دمشق حيث نشأ، ولا في ألمانيا أو القاهرة لاحقاً. في كل مرة كانت تلبية نداء الخدمة الوطنية، والتزامه الحزبي غير المتردد (وقدراته المرغوبة)، يقطعان عليه الطريق الأكاديمي نحو اكتساب المعرفة وامتهان العمل في حقول الأدب الإنكليزي و/أو العربي، تلبية لشغف جمعه في دمشق بشلة من الشباب الفلسطينيين الملتزمين، منهم غسان كنفاني وبلال الحسن وفضل النقيب.
كان على "التخرج" أن ينتظر. ففي المحاولة الثالثة أدت هزيمة 1967 المدوية إلى تركه دراسته الجامعية في القاهرة بأمر من تنظيمه، حركة القوميين العرب، والانتقال إلى الضفة الغربية المحتلة والعمل مع رفيقين له (تيسير قبعة وأسعد عبد الرحمن) على تأسيس خلايا سرية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. انكشاف المخطط أدى إلى اعتقال المقاومين الثلاثة والحكم بسجن أحمد مدة سنتين. وتزامن الحكم عليه مع تحول فرع حركة القوميين العرب الفلسطيني، المأزوم حينها، إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وسريعاً انشق الفرع إلى حزبين: "الجبهة الشعبية" و"الجبهة الديمقراطية". لم يقبل أحمد دوافع الانشقاق وأسهمت النزاعات بين "الإخوة" سابقاً، وتجربته القصيرة في محاولة بناء تنظيم سرّي ومقارعة العدو، إلى التأمل والتوصل إلى أهمية ما فاتنا في الماضي من ضعف الاهتمام بمعرفة العدو وكينونته وعوامل قوته وتفوقه، معرفة علمية وموضوعية. حوّل أحمد بعض شغفه "الأدبي" إلى تعلّم العبرية واتقانها إتقاناً مكّنه من أن "يعرف عدوه" معرفةً تحيط به وتحلل سياق حياته السياسية والاجتماعية والعسكرية، وتشرّح خريطة واقعه بتدرجاتها المتعددة، فبات يقرأ بين السطور ويضع الأمور في سياقها.
عاش أحمد حياة المثقف الملتزم والمناضل الذي ثبّت بوصلة حياته ونضاله على اتجاه جوهري واحد أوقف له حياته المهنية كلها، بشغف. فقد عمل على "نقل المعرفة" وإعادة إنتاجها بما يتجاوز الترجمة المباشرة للكلمات والأسطر، وحرص أشد الحرص على إتقان استقراء النصوص العبرية وإشاراتها، وذلك في "سياقها" الواقعي، لا الرغبوي– وكانت تثيره للغاية تلك الترجمات التي يرى فيها خفة في النقل وافتقاراً إلى الدقة. وقد ألحق عمله الرئيسي بترجمة أُخرى بالإنكليزية عن فلسطين وإسرائيل كانت وما زالت ذات شأن، تكمل عناصر الصورة وتنير الطريق (فضلاً عن ترجمات أدبية). وما لا يقل أهمية عن كل ذلك هو كتاباته الشخصية والمقابلات الإعلامية التي كان يجريها، وخصوصاً عند المنعطفات الكبيرة، الأمر الذي كان يزيد من وصول معرفته وتقييماته إلى أوسع دائرة ممكنة من الجمهور في المجتمعات العربية، وكان في كل ذلك يوحي بالصدقية ويتمتع بشعبية مُصْغية، أسهمت في نقل معرفته عن العدو والصراع ضده ملايين من المشاهدين والقراء والمستمعين وإشراكهم بها.
هذه انطباعات سريعة، كقارئ ومشاهد - ومحاور في لقاءات الصداقة الشخصية. وفي حين يُترَك لأصحاب الاختصاص تناوُل الجوانب السياسية والفكرية، وتقييم المحصلة الفارقة لمسيرة أحمد خليفة ونضاله بما يتجاوز هذه اللمحات، فعندي، وعند عائلتي وأصدقائنا، كان أحمد كل ما ذكرتُ أعلاه متوَّجاً بصداقة دافئة وعلاقة وثيقة امتدت عقوداً. كان قريباً من قلوبنا جميعاً، كباراً وصغاراً، يسأل ويهتم بالحاضر والغائب من الأهل والأصحاب. خجول إلّا حين يتعلق الأمر بقناعاته وثوابته. مقلّ في زياراته الاجتماعية، خفيف الظل، متواضع تواضع العالِم في طبيعته، وفي نمط معيشته وسكناه الأقرب إلى التنسك بعيداً عن أسرته لفترات طويلة كان يمضيها في بيروت. لكن حضور رفيقة حياته نهلة وابنته هند وابنه عمار وأحفاده المغتربين كان يلازمه على الدوام. وداعاً أيها الصديق الطيب. سنفتقدك دائماً.