رسالة حائرة بين تشابه الأسماء والحال
التاريخ: 
21/04/2021
المؤلف: 
ملف خاص: 

"هي لي"، انطلقت صدّاحةً، فخرجت من الأول تقرع الفراغ من فوهة يشتعل فيها الاحتدام. "هي لي"، خرجت من الثاني بنبرة تضاهي الأولى وتتجاوزها حماسة، كما لو أنها تنبلج منها صعوداً. ثم حل صمت حوى في داخله مهجتين ملهوفتين، أخذتا تستعيضان بنظرات الأعين عن هفو القلوب، وهي تُجاري حركة شاويش الساحة وتترصد ما يحمل في يده بأناة قناص. بيضاء كانت تستدني الرغبات التي أظمأها الانتظار، فما إن رأياها حتى اشتعل في مهجة كل منهما شوق لاهف.

كان الاثنان يجلسان إلى طاولة في باحة السجن، يمضغان الوقت بحكايات عابرة، ويجترّانه عبوراً في الحكايات. خطوط العقد الرابع بدأت تظهر وتكتب على وجهيهما سطور حكايات من الوجع والفراق، وتؤرخ سنوات السجن التي تقارب الخمسة عشر عاماً. لم يبرحا مكانيهما، غير أن حواسهما المتحفزة أخذت تتماوج صعوداً وهبوطاً مع روحات الشاويش* وغدواته، تلك التي كانت تتوزع بين أكثر من شاغل. صوّب الشاويش نظرة خاطفة نحوهما وهو يرفع يده ملوحاً بالرسالة. فتأكدا أنها لأحدهما. نظر أحدهما إلى الآخر بنظرات يشيع فيها المكر مختلطاً بالتحدي، بينما الأفواه تنفرج عن ابتسامات مواربة ، فبادر الأول قائلاً: لا يساورني أدنى شك في أنها لي. منذ شهرين وأنا أنتظر اثنتين وليس واحدة. لا بد من أن مسيرة إحداها تكللت بالوصول.

خرجت من الآخر قهقهة مصطنعة كانت مشبعة بالسخرية والاستنكار، ثم قال بلهجة تزخر بالثقة والتأكيد: هي لي، ليس لأن لدي علم بذلك. بل هو إحساس يجاري قوة الرغبة، فالحياة يا صديقي تمنحنا ما نرغب فيه شريطة أن تكون هذه الرغبة حقيقة نابعة من نفس تواقة للحياة، وخذ هذا مني – تستجيب لطاقة رغباتنا .

حنى الأول رأسه إلى الخلف وانفرج فاهه عن أسنان صفراء بينما أخذ ينفث دخان سيجارته وهو يرد معلقاً: لا أدري ما الأسوأ ؟ حياة استجابت لك فصادرت منك كل معنى للحياة، أَم رغبة حملتك على أن تفقد فرصة لكي تعيش الحياة. قال ذلك بنبرة ساخرة وهو يفتح ذراعيه ويرسم بهما شكل دائرة، في إشارة إلى الواقع المكبل الذي يقبعان فيه، في جوف الانتظار، يتقاسمان شيئاً آخر يضاف إلى الأشياء المشتركة التي يتشاطرها الأسرى، فقد كانا يترقبان مرور الأيام، ويلائمان تعدادها مع التواريخ المفترضة التي يتوقعانها. تلك التواريخ التي يأملان بأن تحمل بشائر بوصول الرسائل. وما عظّم تضافر أمرهما المشترك هذا هو استعارة أحدهما اسم الآخر واعتماده لدى ذويه على سبيل المرسَل إليه، فأصبحت الرسائل المرسَلة من ذوي كليهما تصل معنونة إلى اسم واحد فقط. كان هذا الإجراء نوعاً من الاحتيال على إدارة السجن التي قررت كما يبدو احتجاز رسائل أحدهما وعدم تسليمه إياها لسبب ما.

ما أصعب أن تنتظر شيئاً لا تعرف متى سيصل، وإذا كان سيصل، فتقارع اللحظات كأنك في مطاردة مع الزمن، ومع عين السجان الرقيب، لكنك لا تدري أيكما يطارد الآخر. قال الثاني: على الأرجح كلاهما يا صديقي، فأنت المُطارِد والمُطارَد في الوقت ذاته، وحياتك عبارة عن سلسلة من الانتظارات التي تعيشها محنطاً في الانتظار الأكبر. حقاً إنه إحساس فظيع. ندَت عن الآخر ضحكة ساخرة ثم راح يعلّق بجحون: "انتظار أكبر"! يبدو أنك نسيت أنه محكوم عليك بالمؤبد، لك أن تكابد لوعة فراق تتأبد في انتظار لا نهاية له.

تُرى هل يمكن أن يكون واقع الحال على هذا النحو؟ تساءل الثاني مستنكراً، إن لم يكن لهذا الانتظار من نهاية، فلا جدوى من الاستمرار فيه، حين تغدو حياتك برمتها مسلسلاً متواصلاً من الانتظار المقيد فلماذا ترجو بقاء لا تحفل منه سوى بالشقاء.

احذر يا صديقي فأنت بذلك تفقد الأمل. قد يكون البقاء في حد ذاته حالة صمود. فهذا المكان الذي تقبع فيه يفرض عليك اتباع معايير توافق ضروراته، نحن بحاجة دائماً إلى سبب يضفي معنى على ما تفعل، وإلّا تحولت حياتنا إلى مجرد عبور تلقائي للزمن المجرد. وعلينا ألّا نتنازل عن إحساسنا بقيمة ذواتنا تحت أي ظرف.

وما الجديد الذي يمكن أن نصنعه إذا كان جلّ حياتنا هنا يخضع لدولاب الرتابة المقيت، وربما من أجل هذا تصبح الرسالة موضوعاً للشغف. إنها تتجاوز الاعتبار الذي يجعل منها مجرد جسر للتواصل. إنها على حد قولك تمنحني إحساساً بقيمة الذات.

بناءً على ذلك، فأنت تكتب من أجل أن تستعيد حضورك هناك، أمّا أنا فأكتب من أجل أن أُرمم شيئاً من ذاتي المشوهة أو إحساسي المعطوب. عندما توفيت أمي راودني إحساس فظيع بالتأنيب. شعرت بأنني أخلفت وفائي لها . فأمي كانت ترغب دائماً في أن أكتب لها، لكنني لم أكن أفعل ذلك، ولم أُعِرْ الأمر اهتماماً، على الرغم من ارتباطه برغبة جليلة تستحق الكفاح. فقط بعد فوات الأوان أدركت حجم الخطأ الذي ارتكبته، فقطعت عهداً على نفسي أن أستدرك ما فاتني بالوفاء لأبي هذه المرة، لكنه رحل بغتة وأنا أغرق في لهو غير مبرَّر. شعرت بأنني أستيقظ من غفلة كنت أُطيلها بمحض إرادتي، فكان تقاعسي في الحقيقة مجللاً بخداع ذاتي، أخرق. ثم ندت عنه تنهيدة طويلة قبل أن يضيف: أُولئك رحلوا عن الدنيا ولم يعد للرسائل أي معنى بالنسبة إليهم، أمّا أنا فقد أورثني قصوري إحساساً حامضاً يحمّره الأسى، وعندما قررت أن أواجه ذلك الإحساس شعرت بأنني كنت قد خنت نفسي، وها أنا أكتب لعلّي أصنع عناوين لذكريات الزمن القادم.

أقبل الشاويش يقصد مجلسهما بعد أن فرغ من بعض شواغله، كان يحمل كرسياً في يده فاتخذ لنفسه فسحة كي يجلس في حضرتهما. ألقى الرسالة على الطاولة ثم قام بدفعها إلى صاحب الاسم. أخذت النظرات تتضارب مثل السهام. كانت تتوالى من نواظرهم جميعاً وهي تتلفت في اتجاهات عديدة كما لو أنها تُجري حواراً ابتدائياً قبل أن يشرّع باب الكلام. وجّه الشاويش حديثه إلى الأول قائلاً: إنها لك. نظر هذا إلى الرسالة والغبطة تنفر من وجهه. كانت الرغبة تدفعه دفعاً لانتشالها والاستحواذ عليها، بيْد أنه استمهل احتفاءه إلى أن يقطع اليقين كل شك. لم يجزع الثاني ولم يراوده أي اضطراب. بل كان كما لو أنه يتنعم في مندوحة من الطمأنينة. جال نظره بينهما قبل أن يستقر على الرسالة، وبلهجة لا تخلو من خبث قال: أتراهن على أنها لي؟ انقبضت ملامح الشاويش وزمَّ شفتيه في إشارة تستهجن طرح الرهان، فصاحب الرسالة معروف وتنطق باسمه تلك الحروف المخطوطة على المغلف، غير أنه، ولفِطنة لا تنقص الأسرى حيال الأساليب  المواربة في إدارة الأحاديث وتحويرها فيما بينهم، آثر أن يتساوق منخرطاً في مجرى التسلية التي هو بصددها كما اعتقد.

إنها فكرة رائعة. بل إنها عين الصواب، قال الشاويش ثم أضاف: ما أهمية الأسماء ونحن هنا في حال نتشابه فيها. دعونا نعترف بأن هذا المكان يوحد فينا شكل استجاباتنا النفسية، ويعيد تنميطنا على نحو يجعلنا أكثر تشابهاً في مزايانا الشخصية. لعل الأسماء أصبحت عبئاً على أصحابها، لأنها تستوجب تمايزاً بين الشخصيات وفرادة في العوالم الذاتية. إذاً فلنُلقِ الأسماء. ثم ما الضير في ذلك، ألسنا ضحية قصور الوعي السياسي الذي جعل منا مجرد أرقام في رصيد النضال الوطني؟ المهم أن الرسالة اخترقت حاجز العزل وقلصت زمن الفراق الذي يجفف المشاعر، وفي هذا نوع من الانتصار لنا جميعاً.

بدا المنطق الذي يطرحه الشاويش ساذجاً للوهلة الأولى كما لو أنه جاء على سبيل التهكم. بيْد أنه كان يحوي بين ثنايا الأفكار التي أتى عليها رؤية تستحق الالتفات. فالسجن في أحد أوجهه الأكثر بغضاً وانتهاكاً للإنسان يكمن في استباحة المجال الذاتي له، وكذلك في إعدام خصوصيته الشخصية. كما أن قسطاً وافراً من مجمل الإجراءات العقابية التي تعتمدها إدارة السجن بحق الأسرى يكون جماعياً، حتى وإن كان مرتكب "المخالفة" شخصاً بعينه، ولعل هذا ما حدا به إلى اعتبار وصول الرسالة انتصاراً جماعياً.

 

* الشاويش: هو أسير عامل متطوع، ويُعتبر حلقة الوصل بين الأسرى والسجانين لمتابعة شؤون القسم.

عن المؤلف: 

سائد سلامة: أسير، من سكان جبل المكبّر جنوبي القدس، 44 عاماً. اعتُقل بتاريخ 30 آذار/مارس 2001، ودانته محكمة الاحتلال الإسرائيلية بتهمة الانتماء إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والمشاركة في خلية عسكرية، وهو يمضي حكماً بالسجن مدة 24 عاماً. تنقل في عدة سجون، وهو حالياً في سجن جلبوع. كان له دور قيادي في السجون، ويُعتبر من الوجوه الثقافية والإبداعية للحركة الأسيرة.